كثير من الأحداث والوقائع تروى على مستوى جميع العصور وتكون أحادية المصدر، فهل يمكن للمطّلع عليها أن يعتبرها حقيقة أم أسطورة وضربا من الخيال، لا يوجد إلا في مِخيال المؤلف؟، هذا ما سنبحث عنه في المدينة النحاسية.
مدينة بناها الجن:
في العصر الأموي وبالضبط في عهد الخليفة “عبد الملك بن مروان” الذي بلغ إلى مسامعه وجود مدينة تدعى “مدينة النحاس” وأن من تولى بناءها هم الجن الذين كانوا تحت إمرة سيدنا سليمان وزُعِم أنها توجد في الأندلس على إثر ذلك، بعث الخليفة إلى موسى بن نصير ليتقصى عن هذه المدينة وتنفيذا لتعليماته، توجه بحثا عنها بعدما عبّأ لذلك العُدة والعتاد.
تروي كتب الأمويين الذين انفردوا بهذا الخبر أن ابن نصير بحث عن المدينة طيلة أربعين يوماً، سلك خلالها مسالك وَعرة حتى صادف سورا ضخماً وكأنه بُني من مخلوقات غير بشرية، قيل إنه لمدينة النحاس.
مدينة تقتل كل من يقترب منها:
محاولات حثيثة بذلها بن نصير لدخول المدينة، فأرسل فارسا ليدور حول السور لعله يجد بابا، لكنه غاب لستة أيام قبل أن يعود في السابع بنتيجة صادمة، المدينة لا باب لها.
بعد ذلك، أمر بن نصير بالحفر جوار السور الضخم فتم على إثره اكتشاف مياه جوفية وسور من نحاس مُتبّث في قاع الأرض، ليقوم بصنع سلالم لغرض تجاوز السور المذكور.
نادى ابن نصير في جنوده قائلا من يصعد هذه السلالم ويأتيه بخبر هذه المدينة، فله مكافأة نقدية صعد عسكري السلم حتى بلغ سور المدينة، فضحك وصفق بيديه وألقى بنفسه إلى داخل المدينة ثم تكررت المحاولة لكن لم تختلف النتيجة، يقول أحمد حامد الغرناطي في كتابه “تحفة الألباب ونخبة الإعجاب” بعد أن يقفز متطوع إلى قلب المدينة
فإن صراخا يتصاعد منها ويدوم ثلاثة أيام بلياليها.
لم ييأس بن نصير، فطلب أن يصعد شجاع آخر، هذه المرة تم ربط حبل بخصره حتى لا يسقط كمن سبقوه صعد الرجل حتى وصل حافة السور ليكرر الأمر نفسه، حينها حاول الجنود سحبه حتى انشطر جسده نصفين، حينئذ أمر موسى بن نصير عسكره بالرحيل.
طلاسم السحر:
خلف المدينة، وجد ابن نصير رجلا في يده لوحة نحاسية كتب عليها “ ليس ورائي مذهب فارجعوا ولا تدخلوا هذه الأرض فتهلكوا “.
لكن زُمرة من الجنود دخلوا الأرض غير مبالين بما قرؤوا في لوح الرجل، الأمر الذي ترتب عنه هجوم نمل ضخم أتى عليهم وعلى خيولهم، لكنهم توقفوا عند صورة الرجل الذي يحمل اللوح.
استرسل بن نصير مسيره حتى بلغ بحيرة قيل أن بها كنوزا، فأمر جنوده بأن يغوصوا فيها لاكتشاف ما بداخلها. أخرج الغواصون قطعا من النحاس مختومة بالرصاص، فخرج منها جِنِّي على فرس وفي يده رمح، فطار في الهواء قائلا: “يا نبي الله لن أعود” هنا أمر بن نصير بإعادة إلقاء القطع النحاسية في البحيرة، لأن فيها عفاريت سبق لسيدنا سليمان أن سجنهم فيها.
حقيقة أم خرافة؟
للإشارة، فإن هذه القصة توجد في الكتب الأموية فقط دون ذكر لها في مراجع أخرى، ما يطرح أكثر من علامة استفهام؛ لماذا الأمويون انفردوا بسرد هذه القصة دون غيرهم؟ ماهي النوايا والأهداف الكامنة وراء هذا؟ هل تخاطب هذه القصة ذوي الألباب أم السُّدَّج منهم؟ هل المواطن العربي آنذاك كان يؤمن بالخرافة؟ هل هناك أسباب سياسية اُمَوية وراء خلق هذا النوع من الأسطورة؟ وللمتلقي كامل الصلاحية في تأويلها وتحليلها.