منذ أن تولى الرئيس التركي طيب رجب أردوغان منصبه وتركيا تولي اهتماما بشكل مكثف لتأسيس شراكات اقتصادية ودبلوماسية على أمد طويل مع القارة الإفريقية، وذلك عن طريق الزيارات الرئاسية المتتالية لعدد من الدول الإفريقية، وما يرافقها من توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين أنقرا والدول الإفريقية.
وأعطى هذا الانفتاح الدبلوماسي لتركيا تقدما كبيرا لتلك العلاقات بإقدامها على فتح السفارات بعدد من دول القارة، إذ ارتفع عددها من 12 في سنة 2002 إلى 48 حاليا، الأمر الذي بوأ أنقرة لتتحول إلى وجهة مفضلة للزعماء الأفارقة، فازداد حجم التجارة التركية-الإفريقية، من 5 مليار دولار سنة 2003 إلى 25 مليار دولار سنة 2020، وازدادت المبادلات في الارتفاع لتصل إلى 50 مليار دولار.
وخلال شهر أكتوبر الماضي، انعقد منتدى الأعمال التركي-الإفريقي الثالث الذي استمر يومين بحضور حوالي 3 آلاف رجل أعمال، بينهم 1600 من 45 دولة إفريقية، حيث أكدت مفوضية التنمية الاقتصادية والتجارة والصناعة للاتحاد الإفريقي على لسان رئيسها «ألبيرت موشانجا» في مقابلة أجراها مع وكالة الإعلام التركية، أن «الإمكانيات التي تتمتع بها كل من إفريقيا وتركيا هائلة، كل ما علينا فعله الآن هو تطوير العلاقات الثنائية وترفع مستوى العلاقات التجارية مما يضمن تحقيق مصالح الطرفين».
واعتبر رئيس المفوضية الإفريقية أنه مع إنشاء منطقة التجارة الحرة الإفريقية يمكن للمستثمرين الأتراك دعم حركة الاستثمارات في القارة وتسويق بضائعهم في دولها مع الحد الأدنى من الرسوم الجمركية، مما سيمكنهم من تعزيز حضورهم في منطقة يبلغ عدد سكانها مليار نسمة.
ومنتدى الأعمال التركي-الإفريقي، كان بداية لتحضير أعمال القمة التركية الإفريقية الذي احتضنته مدينة اسطنبول يومي 17 و18 دسمبر الجاري بحضور عدد من الشخصيات السياسية والاقتصادية المهمة في القارة الإفريقية. وقد سبق أن دعا لها الرئيس التركي أردوغان من العاصمة الأنغولية لواندا شهر أكتوبر المنصرم، قائلا : «علاقتنا مع تلك الدول يقوم على أساس الربح للجميع، والعلاقة الثنائية لا تكون على المدى القصير وإنما المدى البعيد، نريد أن نطور العلاقات معهم ليس كما فعلت النظم الاستعمارية».
ويبدو أن القمة أتت في مناخ تطبعه الثقة المتبادلة بين الطرفين بهدف دفع الشراكة التركية-الإفريقية نحو التقدم وتكثيف مجالات عملها، خصوصا وأن الأفارقة أصبحوا يرون الآن في تركيا الشريك الأنسب لتطلعاتهم التنموية والأمنية كبديل عن العلاقات غير المتكافئة التي تفرضها عليهم القوة الاستعمارية القادمة والقوة الصاعدة، مؤخرا، مثل الصين التي تعمل على جر الدول الإفريقية لإيقاعها في فخ القروض والاستحواذ على قدراتها الاقتصادية والسياسية، عكس ما يراه الأفارقة في تركيا كشريك موثوق به يحترم تطلعاتهم التنومية وسيادتهم الحرة دون أي توصيات أجنبية، وهكذا توصف لديهم تركيا كنموذج ديمقراطي لائكي رائع، وفي نفس الوقت هو بلد إسلامي صناعي قوي، مما يجعلها تستحق وصف القوة العالمية بامتياز.
وهكذا أصبحت تركيا يحتذى بها في الدول الإفريقية لما فرضت وجودها على الساحة الدولية في القوة والسيادة على أجوائها في حادثة إسقاط المقاتلة الروسية، ووقفت في وجه أمريكا ما حاولت مساومتها في رغبتها شراء نظام الدفاع الجوي S-400 وتفوق بحريتها على البحرية الفرنسية في شرق المتوسط، إلى جانب موقفها الراسخ للدفاع عن الأمة الإسلامية والشعب الفلسطيني ورفضها المتاجرة بقيمها مقابل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كل هذه الأمور استقطبت الأفارقة وتكون لهم شعور بالانجداب لتركيا باعتبارها الشريك الموثوق به للتعامل معه على مستوى الشراكة الاستراتيجية.
من هذا المنطلق، أصبحت تركيا تسعى إلى تعزيز وجودها في القارة السمراء من خلال الاستثمارات في مجالات عديدة تشمل البنية التحتية والصحة وتقديم مساعدات إنسانية وإبرام صفقات في المجال العسكري والطاقة، وتطرقت العلاقات التركية الإفريقية كذلك إلى التعاون في مجال المشاكل الأمنية التي تعرفها القارة، كما تحظى الصناعات الدفاعية التركية، على رأسها الطائرات المسيرة، بسمعة كبيرة بين حكومات القارة السمراء، وذلك بعد البلاء الحسن الذي أبلته خلال الحرب الليبية والصفقة التي أبرمت مع المغرب لاستيراد 12 مسيرات «بيرتدار (TB2)» تسلم منها الدفعة الأولى، وطلبت إيتيوبيا هي الأخرى تزويدها بهذه الأسلحة.
وبلغت قيمة صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى إيتيوبيا 94 مليون دولار ما بين شهر يناير ونونبر. وتشير الأرقام التي قدمتها جمعية المستوردين الأتراك إلى ارتفاع نسبة المبيعات المشابهة إلى كل من أنغولا والتشاد والمغرب، وتعتزم الطوغو خطة لتحديث جيشها بدعم من تركيا التي توفر التدريب والعربات المدرعة بالإضافة إلى الأسلحة والمعدات الأخرى.
ونتيجة لهذا التغلغل التركي في إفريقيا، أصبحت القوة الغربية وعلى رأسها فرنسا تنظر إليه بعين التوجس، حيث علقت صحيفة لوموند الفرنسية بأن هذا التوجه والتوسع التجاري التركي الذي كان شبيها بالقوة الناعمة بات يتحول تدريجيا إلى قوة صلبة تسعى أنقرة لتعميق التعاون الإفريقي ونقله إلى الجانب الأمن والعسكري وهو أمر يقلق حلف الناطو.
أما عن القمة التركية الإفريقية، فاعتبرتها لوموند بأنها ستعمل على تعزيز الجبهات الاقتصادية والأمنية والثقافية التي نهجتها تركيا في السنوات الأخيرة من أجل اختراقها السريع للقارة، حيث تبدو الآن الملعب المفضل لديها، ويُعول أردوغان، الحريص أكثر من أي وقت مضى، على هذه القمة لاستعادة صورته، خصوصا لدى أولئك المصدرين الحريصين على أسواق جديدة في الوقت الراهن من الأزمة النقدية التي تمر بها تركيا بالهبوط الشديد للعملة التي فقدت 45 في المائة من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية العام الجاري.
وتوصف هذه القمة التركية في الإعلام الغربي بأنها علامة فارقة جديدة في العلاقة بين تركيا وإفريقيا، خطط لها الرئيس التركي من خلال جولاته المتعددة في القارة شملت 46 زيارة لـ 30 دولة، استطاع في أعقابها جلب عشرات من رجال الأعمال والمقاولين، فاكتسب رواد الأعمال الأتراك حصة سوقية في إفريقيا من خلال اتفاق شراكة ببناء الطرق والملاعب والمطارات وتصدير مواد البناء والمنتجات الغذائية والزراعية وآلات النسيج والمعدات الطبية ومنتجات النظافة.
وتشير تقارير الخبراء الاقتصاديين أن المنتجات التركية تُباع بسعر أرخص بنسبة 20 في المائة إلى 30 في المائة من نظيراتها الأوروبية، وتتمتع المنتجات التركية بجودة وسمعة أفضل لدى المستهلكين الأفارقة من تلك الآتية من الصين، ومع ذلك تبقى الاستثمارات التركية في القارة الإفريقية والتي تقدر بـ 6,5 مليار دولار أقل مما هي عليه بالنسبة للاستثمارات الصينية أو الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الأخيرة.
لكن توجه أنقرة لإفريقيا يعد توجها استراتيجيا بكل المقاييس، ويتجلى ذلك في تدخلها العسكري في ليبيا من أجل تعزيز نفوذها السياسي والأمني في المنطقة وتوقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع النيجر بإنشاء قاعدة عسكرية هناك كتلك التي أقامتها ليبيا والصومال، أما التوجه القائم على النزعة الدينية فتبقى غير مستبعدة ويسعى لأجلها الرئيس أردغان في علاقاته مع الشركاء الأفارقة، فهو يقدم نفسه كبديل للقوة الاستعمارية السابقة، ويُبعد بلاده عن أي ماض امبريالي، ويشدد على رفض تركيا مقاربات الغرب الاستشراقية للقارة الإفريقية، وقال خلال جولته الأخيرة لإفريقيا التي شملت أنغولا ونجيريا والطوغو «نحن نحتضن شعوب القارة الإفريقية دون تمييز». وهكذا أصبح التأثير التركي متغلغلا في إفريقيا من الوجهة الثقافية والإديولوجية، وقد نقلت صحيفة لوموند في هذا السياق عن «بيرم بالسي» مدير المعهد الفرنسي لدراسة الأناضول (IFEA) في إسطنبول قوله : «إن السلطات التركية تعتزم المساهمة في تعاليم الإسلام في العالم لا بتنشيط المؤسسات الدينية التركية في إفريقيا فحسب، بل تقدم أيضا منحا دراسية للأئمة وعلماء الدين الراغبين في القدوم والتدريب في تركيا، أكثر من 5 آلاف شاب إفريقي يدرسون حاليا في إسطنبول أو أنقرة، حصل خمسهم على منحة دراسية».
وفي تسعينيات القرن الماضي عملت أنقرة على تأسيس مؤسسة حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية (IHH) في غرب إفريقيا، استقرت فروعها في 41 دولة إفريقية، وتعد مفخرة لتركيا مهمتها تقديم مساعدات وإجراء عمليات إعتام عدسة العين بالمجان لـ100 ألف مريض إفريقي، كما يقدم الهلال الأحمر التركي والوكالة التركية لإدارة الكوارث والطوارئ (AFAD) الدعم للسكان فيما يتعلق بالحصول على المياه أو الرعاية الصحية.
وفي إطار الأنشطة الدينية، عملت تركيا على إبراز الحضور الإسلامي في القارة وأسندت هذه المهام لمديرية الشؤون الدينية (ديانت) وهي من أغنى مؤسسات الدولة وأكثرها نفوذا حيث تقوم ببناء مساجد وترميمها وإعادة هيكلتها في الدول الإفريقية، وقد انتهت مؤخرا من ترميم مسجد النور في (كيب تاون) بجنوب إفريقيا، وتعد هذه الأخيرة من أكبر الشركاء التجاريين في إفريقيا لتركيا.
وتعمل أنقرة بكل جدية على تدريب النخب الإفريقية المستقبلية، ويعد من ضمن برامج الحكومة التركية إلى جانب مؤسسة المعارف الإسلامية التي تسيطر عليها الدولة، وتدير 175 مدرسة في 25 دولة إفريقية، وهذه المؤسسات أسسها رجل الدين فتح الله كولن، لكن الدولة التركية استولت عليها بعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليوز 2016 الذي دبره الداعية كولن وحركته القوية المناوئة لنظام أردوغان.