بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش، بادر في سنة 2000 بزيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية من أجل السعي إلى تحقيق شراكة استراتيجية معها، وذلك لرغبته الأكيدة في الرفع من مستوى العلاقات الاقتصادية إلى العلاقات السياسية، وجاء في خطاب جلالته للأمريكيين : «…وأني أثمن في هذا السياق إرادتنا المشتركة في إعطاء علاقات بلدينا الثنائية الممتازة مزيدا من الوضوح والاتساع والازدهار من خلال تحقيق اتفاقية التبادل الحر التي ستمكن علاقاتنا السياسية من عمق اقتصادي».
وانطلاقا من هذه الزيارة، وفي إطار برنامج العمل المسمى في الولايات المتحدة الأمريكية بـ «دائرة التنمية المتسعة» وقع المغرب بواشنطن في 15 يونيو 2004، على اتفاق للتبادل الحر، وذلك لتعميق الشراكة بين البلدين من جهة وجر الولايات المتحدة لاختبار حقيقي من جهة أخرى، لقياس مدى رغبتها في دعم الشراكة الاقتصادية إلى جانب الشراكة السياسية من أجل تكريس مبادئ التوافق حول وجهات النظر في العديد من القضايا في العالم.
وقد شمل الاتفاق الموقع مع الولايات المتحدة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية وحقوق الإنسان، ومنح بشكل موسع إمكانات هائلة للنشاط الاقتصادي والتجاري والإنتاج في كلا البلدين من دون قيود جمركية أو إدارية أو تفضيلية إلا عند الضرورة في حالات استثنائية جدا، وغالبا ما تتعلق أساسا بقطاعات الفلاحة والنسيج والملابس والأدوية والقطاع المالي وخدمات التأمين على مستوى النقل البحري والجوي والطرقي، ومع ذلك فالاتفاق لم تواكبه في الوقت نفسه أي تعبئة من طرف الدولة والمقاولات والمؤسسات العمومية من أجل فهم فحواه والوقوف على أهميته، وعلى الفرص التي يُتيحها والرهانات التي يبديها والتحديات التي تطرحها، لأن الكل في هذا الإطار معني، سواء المنتخبين أو المستهلكين وحتى السياسيين والنقابيين والحزبيين.. ولم تواكبه منذ البداية أي إجراءات عملية موازية، كفيلة لتبني المرحلة الانتقالية وتأمين ما وصلت إليه المنجزات النهائية، كما جاء هذا الاتفاق في ظل تفاوت اقتصادي وتكنولوجي وصناعي كبير جدا بين البلدين، وفي غياب تام لأي إصلاحات اقتصادية وسياسية وإدارية وقانونية ومؤسساتية وهيكلية، تمكن من ضمان الشفافية في الأعمال الإدارية وتفويت الصفقات العمومية والقضاء على الفساد والرشوة وإصلاح منظومة العدالة والقضاء، وهو مطلب كان دائما على رأس مطالب الشركاء الأمريكيين.
وتأتي هذه الشراكة لتتوَّج بتوقيع الطرفين على اتفاقين هامين لتعزيز التعاون المشترك وإنعاش الاستثمار في المغرب والعمل على الانطلاق به نحو إفريقيا؛ بخصوص الاتفاق الأول الذي هو عبارة عن مذكرة التفاهم بين المغرب وشركة «تمويل التنمية الدولية للولايات المتحدة الأمريكية»
«United States International Developement Finance corporations DFC
من أجل تقديم دعم مالي وتقني لمشاريع الاستثمار الخاصة بالمغرب والدول الإفريقية جنوب الصحراء، بتنسيق مع مؤسسات مغربية في مجالات متعددة كالفلاحة والسياحة والبنية التحتية والمقاولات الصغرى والمتوسطة وإعادة الهيكلة الصناعية، وفيما يتعلق بالابتكار والتقنيات الحديثة المتطورة، وفي إطار هذا الاتفاق ستعمل «الشركة الأمريكية لتمويل التنمية الدولية» على دعم المشاريع المؤهلة من خلال قروض مباشرة وضمانات وأصول رأسمالية والتأمين وإعادة التأمين وتقديم مساعدات تقنية من أجل التكوين، وسيتم استثمار مبلغ خمسة ملايير دولار على مدى أربع سنوات لدعم المشاريع الاستثمارية في إفريقيا جنوب الصحراء، بواسطة صندوق محمد السادس للاستثمار الاستراتيجي بالاشتراك مع المقاولات المغربية.
أما الاتفاق الثاني، هو ما عُبر عنه بإعلان النوايا بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية في إطار مبادراتها «ازدهار إفريقيا» التي أسست سنة 2018، وتضم 18 وكالة أمريكية، وقد وافق المغرب على دعمها، وسيتم افتتاح فرع الوكالة بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالرباط، ويعتبر أول فرع لها خارج الولايات المتحدة الأمريكية، وسيسهر على تسيير ولوج المستثمرين الأمريكيين في إطار العمل والتعاون المشترك داخل المغرب ولصالح الدول الإفريقية جنوب الصحراء.
وهكذا يبدو أن الاتفاقين المبرمين بين الولايات المتحدة الأمريكية سيجني منهما المغرب فوائد كثيرة من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ويتجلى ذلك أساسا في تأهيل النسيج الاقتصادي وتنويعه وتقويته والرفع من طاقته الإنتاجية، وسينتج عنه كذلك امتلاك المغرب لمقومات ومزايا مهمة تمكنه من الاستجابة لطلبات السوق الأمريكية والأسواق الأخرى الخارجية، وخاصة الأسواق الأفريقية التي هي في أمس الحاجة لهذا الدور الاقتصادي الفعال الذي يقوم به المغرب تجاه القارة، وبالتالي تحقيق ربح اقتصادي مهم، يتيح له تعزيز مكانته وموقعه في علاقاته الدولية سياسيا ودبلوماسيا وإقليميا.
وفي إطار الشراكة الاستراتيجية القائمة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، صرح مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط (جوي ود) أثناء زيارته للرباط، أن هذه الشراكة تعززت تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وأكد على العلاقات العميقة والعريقة التي تجمع بين البلدين والتي تخلد الذكرى المائوية الثانية لأول بعثة دبلوماسية للولايات المتحدة إلى المغرب، الذي كان أول بلد يعترف باستقلال الولايات المتحدة، لذلك فهو شريك مقرب لها بدعمه المستمر والثمين للقضايا ذات الاهتمام المشترك على مستوى مسلسل السلام في الشرق الأوسط والاستقرار والأمن والتنمية في المنطقة، وعلى مستوى القارة الإفريقية، كما أنه يشارك سنويا إلى جانب الولايات المتحدة في أكثر من 100 التزام عسكري بما في ذلك المناورة العسكرية (الأسد الإفريقي) التي تعتبر أكبر مناورة عسكرية في القارة الإفريقية.
وفي السنة الماضية وقع البلدان على خارطة الطريق لتعزيز التعاون في مجال الدفاع لمدة عشر سنوات، مما يُعد رمزا للتعاون الاستراتيجي الطويل الأمد، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية الثنائية، حيث يعد المغرب البلد الإفريقي الوحيد الذي وقع اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة، وقد استفاد البلدان بشكل كبير من هذه الاتفاقية من خلال خلق فرص الشغل، وقد تضاعفت المبادلات التجارية بينهما خمس مرات، وبلغت خمسة ملايير دولار سنويا.
وعليه، فإن الشراكة الاستراتيجة بين الطرفين لن تكن وليدة الصدف بل ترسخت نتيجة روابط تاريخية أفرزت علاقات متينة منذ زمن طويل، فالمغرب كان أول بلد بادر إلى الاعتراف بأمريكا بعد استقلالها سنة 1776 في أعقاب حرب الست سنوات ضد بريطانيا، وكانت هذه المبادرة التي أقدم عليها المغرب من الأسس المعتمدة في توطيد العلاقات السياسية بين البلدين.
وقد وقف المغرب إلى جانب الولايات المتحدة في حروبها الأهلية في الوقت الذي أراد فيه بعض الأمريكيين الانفصال عنها، حيث ظل المغرب متشبثا بموقفه الرافض لفكرة تقسيم أمريكا، ومؤكدا على وحدة ترابها، كما استجاب المغرب لطلب الأمريكيين آنذاك بشأن متابعة الانفصاليين الذين حطوا الرحال بمدينة طنجة، ولم تسمح لهم السلطات المغربية برسو سفنهم بموانئ البلاد.
وهذا الموقف المتخذ من المغرب إزاء الولايات المتحدة يعتبر إرثا دبلوماسيا وتراثا سياسيا ونموذجا للتعاون الثنائي المشترك قل نظيره، ومن الواجب العمل على تقديره وإحيائه والتعريف به في العالم، كما يمكن اعتباره كذلك بمثابة دين على عاتق الأمريكيين تجاه المغرب، دين دائم ومتواصل عبر التاريخ، ومن المفروض أن يبقى نصب أعينهم لمنعهم من اتخاذ أي موقف أو قرار معاد من شأنه أن يضر بمصالح المغرب ويمس بسيادة وحدته الترابية.
والجدير بالذكر أنه بعد تحرير وثيقة المطالبة باستقلال المغرب سنة 1944، أرسلت نسخة منها إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاطلاع عليها، وعند استقلال المغرب سنة 1956 كان الرئيس الأمريكي «إيزنهاور» أول رئيس دولة يعين سفيرا له بالمغرب، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تعترف باستقلال المغرب من ربقة الاستعمار.
وعقب الاستقلال تعددت مجالات التعاون بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ منتصف السبعينات تم الشروع في توسيع العلاقات الاقتصادية بعد فترة من الركود، فجاء التوقيع سنة 1975 على اتفاقية لتفادي الازدواج الضريبي، وفي سنة 1985 تم الاتفاق على تشجيع الاستثمارات، وبدأ المغرب يطبق معايير للتخفيف من العراقيل من أجل الرفع من الاستثمارات والتبادل التجاري، مما أدى إلى فتح مجال واسع لاستثمارات الأمريكيين، وخاصة عقب الزيارة التي قامت بها بعثة هيئة الاستثمارات في القطاع الخاص لما وراء البحار، وفي سنة 1995 تم إبرام اتفاقية إطار، تنص على خلق مجلس مغربي أمريكي للتجارة والاستثمار بهدف فتح آفاق جديدة في مجالات تطوير المبادلات التجارية وجلب الاستثمارات، وفي سنة 1998 تم التوقيع على مبادرة «إيزنشتاين» متعددة الأطراف والتي ركزت على المجال المغاربي كمنطقة مندمجة وعلى القطاع الخاص في إطار التنمية المستدامة من أجل تطوير وسائل الإنتاج وأساليبه.
وهكذا توطدت الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وتوجت أخيرا بالقرار التاريخي للرئيس الأمريكي ترامب بإصداره مرسوما رئاسيا يعترف بسيادة المغرب الشاملة على الصحراء المغربية، وتأييد مبادرة الحكم الذاتي ودعوة جميع الأطراف للدخول في مفاوضات لإنهاء النزاع على أساس الحكم الذاتي كحل جديد وواقعي، وفتح قنصلية في مدينة الداخلة، مما أدى إلى خلق تحول استراتيجي في موقف الولايات المتحدة الأمريكية في نزاع الصحراء.
ذ. محمد الخراز