نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (5)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (5) )
الأربعاء 11 نونبر 2015 – 16:09:33
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
فقال: لا سبيل إلى مفارقتك، ثم أخذه وأتى به إلى عبد الملك، فوجده قاعداً في طاومة، وعنده جارية جميلة يتحظّاها وهي تسحر العود وتبخّر أمير المؤمنين. فجلس يحادثه ويعالج ما هو فيه من داء بطنه. فعرضت له ريح فسّيبها ظناً أن يسترها البخور.
قال حمزة: فواللّه لقد غلب ريحها ريح البخور والندّ.
فقال: ما هذا يا حمزة؟
قال: فقلت: عليَّ عهد اللّه والمشي إلى بيت اللّه والهديُ إن كنتُ فعلتها، وما فعلها إلاَّ هذه الجارية.
قال: فغضب وخجلت الجارية وما قدمتْ على الكلام. ثم جاءتني أخرى فسرَّحتها وسطع واللّه ريحها فقال: ما هذا ويلك؟ أنت واللّه الآفة.
فقلت: امرأتي طالق إن كنت فعلتها.
فقال: وهذه اليمين لازمة لي إن كنت فعلتها. ثم قال للجارية: ويلك ما قصتك؟ قومي إلى بيت الخلاء إن كنت تجدين شيئاً، وطمعتُ فيها فسرّحتُ الثالثة، فسطع ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك حتى كاد أن يخرج من جلده ثم قال: يا حمزة، خذْ بيد هذه الجارية الزانية فقد وهبتها لك وامضِ فقد نغّصت عليَّ ليلتي. فأخذت بيدها وخرجت. فلقيني خادم فقال: ما تريد أن تصنع؟
فقلت: أمضي بها.
فقال: اللّه لئن فعلت ليبغضنّك بغضاً لا تنفع به بعده، وهذه مائتا دينار، فخذها ودعْ هذه الجارية.
فقلت: واللّه لا نقصتك من خمسمائة دينار.
فقال: ليس إلاّ ما قلت لك، فأخذتها منه وأخذ الجارية.
فلما كان بعد ثلاث ليالٍ دعاني عبد الملك، فلقيني الخادم فقال: هذه مائة دينار أخرى وتقول ما لا يضرك ولعله ينفعك؟
فقلت: ما هو؟
فقال: إذا دخلت إليه تدّعي عنده أن تلك الفسوات الثلاث أنت فعلتهنَّ.
فقلت: هاتها. فلها دخلتُ وقفت بين يديه وقلت: الأمان يا أمير المؤمنين.
فقال: قُلْ.
فقلت: أرأيت تلك الليلة ما جرى من الفسوات؟
قال: نعم.
قلت: عليَّ وعليَّ إن كان فساهنَّ غيري. فضحك حتى سقط على قفاه وقال:
فلِمَ ويلك ما أخبرتني؟
فقلت: أردت خصالاً، منها أن قمت وقضيت حاجتي، ومنها أنني أخذت جاريتك، ومنها أني كافأتك على أذاك بمثله، حيث منعني رسولك من دفع أذايّ.
قال: وأين الجارية؟
قلت: ما خرجت من دارك وأخبرته الخبر. فسُرّ بذلك وأمر لي بمائتيْ دينار أخرى
وقال: هذه لحميل فعلك، وتركك أخذَ الجارية.
وأخبار حمزة بن بيض كثيرة وكلّها طُرف.
كان سيبويه قد ورد إلى بغداد من البصرة، والكسائي يومئذٍ يعلّم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس بطول شرحه، وزعم الكسائي أن العرب تقول: كنت أظن أن الزنبور أشدّ لسعاً من النحلة فاذا هو إيّاها.
فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل فإذا هوهي.
وتشاجرا طويلاً، واتّفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر، وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه، فاستدعى عربياً وسأله فقال كما قال سيبويه. فقال له الأمين،: نريد أن تقول كما قال الكسائي، فقال: إن لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلاَّ إلى الصواب.
فقرّروا معه أن شخصاً يقول: قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا، فالصواب مع من منها؟ فيقول العربي: مع الكسائي، فقال هذا يمكن.
ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي، وقيل له ذلك فقال: الصواب مع الكسائي، هو كلام العرب، فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصّبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى معه، وقصد بلاد فارس فتوفي بقرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء سنة 180هـ وقيل غير ذلك.
قال محمد بن يزيد العجلي
سمعت الأصمعي يذكر أن بشاراً كان أشدّ تبرماً بالناس، وكان يقول: الحمد اللّه الذي أذهب بصري، فقيل له: ولم ذاك يا أبا معاذ؟ فقال: لئلاَّ أرى من أبغض.
قال الأصمعي:
وُلد بشار فما نظر إلى الدنيا قطّ، وكان يشبه الأشياء في شعره بعضها ببعض في
تي بما لا يقدر البصراء على أن يأتوا بمثله، فقيل له يوماً وقد أنشد قوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
ما قيل أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها؟
فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسّه وتذكو قريحته.
ومرَّ ببشار قومٌ يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال: ما لهم مسرعين؟
أتراهم سرقوها فهم يخافون أن يُلحقوا فتؤخذ منهم؟
وحضر بشار باب محمد بن سيلمان فقال له الحاجب: اصبر، فقال: الصبر لا يكون إلاَّ عن ثلاثة. فقال الحاجب على الفور: إني أظنّ وراء قولك هذا شراً، ولن أريد تفسيراً لها ولن أتعرّض إليك، قمْ فادخل.
وقال هلال بن عطية لبشار وكان صديقاً له يمازحه:
إن اللّه عزّ وجلّ يذهب بصر أحد إلاّ عوّضه شيئاً، فما عوّضك؟
فقال: الطويل العريض.
قال: وما هو؟
ففكر بشار وقال: لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء.
ثم قال: يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصّك بها؟
قال: نعم.
قال: إنك كنت تسرق الحمير زماناً، ثم تبتَ وصرت رافضياً، فَعُدْ إلى سرقة الحمر فهي واللّه خير لك من الرفض.
من أخبار البحتري (2) أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي، مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والزوّار في سبيل.
الله. فقصده البحتري من العراق، فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديون ركبته. فاغتمّ البحتري لذلك غماّ شديداً وبعث المدحة اليه مع بعض مولليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له وقال له: بغْ داري. فقال له أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس؟
فقال: لا بدّ من بيعها. فباعها بـ 300 دينار، فأخذ صرّة وربط فيها ما ئة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها رقعها رقعة فيها هذه الأبيات:
لو يكون الحباء حسب الذي أنـ …. ت لدينا بــه محــلٌ وأهــلُ
لحبيـت اللّجــين والــدّر واليـــا …. قوت حثواً وكان ذالك يقلُّ
والأديبُ الأديب يسمح بـالـعـذ …. ر إذا قصَّر الصديق المقلُّ
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري ردّ الدنانير . وكتبَ إليهِ :
بـأبي أنـت واللـه للـبّر أهـلُ …. والمساعي بعدٌ وسـعيك قـبلُ
والنوال القليل يكثر إن شا …. ء مـرجّــيـك والـكـثيــــر يقـلُّ
غير أنّي رددت بـرّك إذ كـا …. ن ربـاً مـنـك والربا لا يـحـلُّ
وإذا ما جزيت شعراً بشعرٍ …. قُضيَ الحقُّ، والدنانير فضلُ
فلما عادت الدنانير اليه حلَّ الصرة، وضم إليها خمسين ديناراً أُخرى وحلف أنه لا يردّها عليه وسيّرها فلما وصلت إلى البحتري أنشأَ يقول:
شكرتك إن الشكر للعبد نعمةٌ …. ومن يشكر المعروف فاللّه زائدُهْ
لكــل زمـان واحـد يقتــدي به …. وهـذا زمانٌ أنت لا شكَّ واحـدُهْ
حدث محمد بن إسحاق قال: قيل لعمر بن عبد العزيز : إن بالمدينة مخنثاً قد أفسد نساءها. فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحمله إليه. فأُدخل عليه، فإذا هو خضيب اللّحية والأطراف معتجر بسبنّه(4) قد حمل دفاً في خريطته(5). فلماّ وقف بين يدي عمر صعّد بصره فيه وصوّبه وقال: سوأةً الشَّيبة وهذه أتحفظ القرآن؟
قال: لا واللّه يا أبانا.
قال: قبحك اللّه! واشار إليه من حضره فقالوا: اسكُت فسكت.
قال له عمر: أتقرأ من المفصل شيئاً؟
قال: وما المفصَّل؟
قال: ويلك! أتقرأ من القرآن شيئاً؟
قال نعم، أقرأ «الحمد للّه» وأخطىء فيها في موضعين أو ثلاثة. وأقرأ «قُلْ أعوذ بربّ الناس» واخطىء فيها، وأقرأ «قل هو اللّه زحد» مثل الماء الجاري.
قال: ضعوه في الحبس ووكّلوا به مُعلماً يعلّمه القرآن وما يجب عليه من حدود الطهارة والصلاة واجروا عليه في كل يوم ثلاثة دراهم وعلى معلّمه ثلاثة دراهم أُخر، ولا يخرج من الحبس حتي يحفظ القرآن أجمع. فكان كلّما عُلِّم سورة نسي التي قبلها. فبعث رسولا إلى عمر: يا أمير المؤمنين، وجّه إليّ من يحمل اليك ما أتعلمه أولاً فأولاً، فإني لا أقدر على حمله جملةً واحدة. فيئس عمر من فلاحه وقال: ما أرى هذه الدراهم إلاَّ ضائعة، ولو أطعمناها جائعاً أو أعطيناها محتاجاً أو كسوناها عُرياناً لكنا أصلح. ثم دعا به، فلما وقف بين يديه قال له: اقرأ «قُل يأيّها الكافرون».
قال: أسأل الله العافية! أدخلت يدك في الجراب، فأخرجت أصعب ما فيه فأمر به فُوجئت عنقه ونفاه.
رأيت في بعض المجاميع أن أبا معشر المشهور في علم النجامة «جعفر بن محمد بن عمر البلخي» كان متصلاً بخدمة بعض الملوك، وأن ذلك الملك طلب رجلاً من أتباعه وأكابر دولته ليعاقبه بسبب جريمة صدرت منه، فاستخفى، وعلم أن أبا معشر يدلّ عليه بالطرائق التي يستخرج بها الخبايا والأشياء الكامنة، فأراد أن يعمل شيئاً لا يهتدي إليه ويبعد عنه حسّه. فأخذ طستاً (5) وجعل فيه دماً وجعل في الدم هاون ذهب، وقعد على الهاون أياماً.
وقال له: تعرّفني موضعه بما جرت عادتك به، فعمل المسألة التي يستخرج بها الخبايا، وسكت زماناً حائراً. فقال له الملك: ما سبب سكوتك وحيرتك؟ قال: أرى شيئاً عجيباً، فقال وما هو؟
قال: أرى الرجال المطلوب على جبل من ذهب والمجبل في بحرٍ من دم ولا أعلم في العالم موضعاً من البلاد على هذه الصفة.
فقال له: أعد نظرك وغير المسألة وجدّد أخذ الطالع. ففعل ثم قال:
ما أراه إلاَّ كما ذكرت، وهذا شيء ما وقع لي مثله. فلما أيس الملك من القُدرة عليه بهذا الطريق أيضاً نادي في البلد بالأمان للرجال ولمن أخفاه، وأظهر من ذلك ما وثق به، فلما اطمأن الرجال ظهر وحضر بين يدي الملك فسأله عن الموضع الذي كان فيه فأخبره بما اعتمده وما فعل فأعجبه حسن احتياله في إخفاد نفسه ولطافة أبي معشر في استخراجه.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1)راجع: «فوات الوفيات» للكتبي، 1: 397.
(2) البحتري: الشاعر المشهور.
(3) سبينة: بلدة ببغداد
(4) الخريطة: مثل الكيس تكون من الخرق والزدم.
(5) الطست: وعاد يشبه الصحن يكون من النحاس.













