ولكثرة ما رحب بنا سدنة البئر سلطوا علينا أنبوباً فأغرقنا في لباس إحرامنا!
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التازي. )
الخميس 13 غشت2015 – 11:20:34
• بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
الأربعاء 10 / 06 / 1959 إرهاق وإعياء
لقد جمعت أغراضي مستعدا لما يطرأ!! كنت اشتريت بعض السجاد فجمعتها هي الأخرى، وأخذت أفكر في استعجال الرحيل، لقد ذكرت كثيرا دعاء طفلي أوس: «الله يعطيك هدة »!!، لكن هل الأمر لا يتجاوز «هدة » عابرة..؟! شعرت بانهيار كامل شامل، وأخذت أفكاري تتجه نحو أطفالي«الخمسة » ووالدتي وأهلي، لقد طلبت إلى الضابط )سالم البار( مرافقنا الخاص أن يسعى لي في الحصول على مقعد في الطائرة إلى جدة، لكن الأمر كان صعباً، وقد ناديت على رفيقنا الدكتور الخطيب، وكان لزاما أن يزودني ببعض الحقن «المطلعة » المنعشة، أخذت بعد حين أشعر وببطء بدبيب من الحرارة ينساب في شراييني، فكتبت لبعض الأقرباء والأصدقاء، ولم أستطع أن ألتحق بالمسجد لصلاة الظهر والعصر،}ربَِّ لَا تذَرَْنِي فَرْدًا و أنَتَ خَيُْر الوارَِثيَِن…{ ]سورة الأنبياء، آية 89 [، كذا كنت أدعو في حين أخذ السيد بلعيد بن زائد يساعدني على تلفيف متاعي.
إلى آبار علي
لقد كان علينا أن نحرم في آخر هذا اليوم الأربعاء 10 يونيه كنت «مهدودا » فعلا، ولم يكن هناك من يفكر في غير ذاته ونفسه !!، وقد زاد في خفقان قلبي هذه الاستعدادات من الناس للباس الإحرام، كنت شعرت بمثل هذا الخفقان فقط ليلة نادوا علي للدخول على الثريا أول مرة!!.
الحمامات في الفندق تختنق مسالكها بالماء، وخصل الشعر شعر الذين يستحمون ويتطهرون، ويتسابق كل إلى مقعده المناسب في العربات، ودعت المدينة بصلاة المغرب في المسجد النبوي، وتحركت السيارات على مقربة من باب النساء، وصحبنا سمو أمير المدينة مع ضابط خاص إلى آبار علي بالإضافة إلى مدير شرطة المدينة، إنها ) 420 ( كم لجدة، فاللهم رفقا بعبدك الغلبان التعبان.
وقد وصلنا إلى آبار علي بعد قليل، وعن يمين الخارج من المدينة المحرمون. من خلال الأضواء الضعيفة ذات اليمين وذات اليسار، حاولت أن أقرأ ما كتب فوق محراب المسجد على رخامة، لكن ضعف الضوء من جهة وزحمة الوقت من ناحية وإعيائي من ناحية ثالثة صرفني عن ذلك. إن المسجد مفروش بزرابي فارسية، لقد كان منظر الحجيج في هذا الليل وهم يغتسلون ويرتدون لباس الإحرام، ويضرعون منظراً مؤثراً حقيقة، لقد أدينا صلاة العشاء هنا، وانطلقنا نلبي النداء. «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .»
وما تخلو مثل هذه الأسفار من أشياء، فلا بد أن يتأخر هذا عن ذلك، أو ينسى هذا أغراضه. وأذكر أن الأخ محمد زنيبر نسي هنا نظارته عند الوضوء، فأمسى شبه كفيف يحتاج إلى مساعد.
في جدة
وصلنا بدراً، وتهولك رؤية هذه العشرات من الشاحنات و )الكاميونات( التي حشرت حشرا بالواردين، والكل في لباس أبيض، وفيهم المئات مستلقين على الرمال يستريحون من عناء السير الطويل، ويستعدون للمسيرة الموالية، وفي الواحدة ليلا بتوقيتنا عطبت عجلة السيارة التي كنت أحد راكبيها، وتوقف الموكب بعض الوقت، وما أزال أذكر الراحة التي وجدتها وأنا أستلقي على الرمال، ولم أشعر أبداً بمن كان ينصحني ألاّ أفعل اتقاء للهوام المتلبدة.
لقد أخذنا نقترب من جدة. هذا هو الغلس، على كل طريق حرس يفتش السواق، إن من غير المسموح به أن يشتغلوا بعد منتصف الليل؛ لأن الوقت وقت راحة، اللهم إذا كانت هناك «استثناءات .»
لقد وصلنا إلى فناء بيت السفير في الثانية وعشر دقائق بتوقيت )جرينتش( بعد ثمان ساعات وعشر دقائق، الموكب يتألف من ثمان سيارات كما قلنا، وقد ودعنا البيت بعد قليل إلى فندق قصر الكندرة الجميل، الغرفة 115 . الجديد الذي يميز الغرفة عن بقية الغرف التي زرتها في فنادق أوربا هذا الهدير الذي يحاكي مرجلا يغلي، إنه مع ذلك الصوت الموسيقي صوت )الإيركونديشين(، إن الشيء الذي كان ينقصني هو قلة النوم، وهكذا فبعد )يوكورت( غبت إلى ما بعد الظهر وكأنني صريع!، ولم يوقظني إلا الدكتور الخطيب الذي ورد مشكورا ليجس النبض، إن كل ما أرتديه فوطتان وحزام ونعل، ثم ساعتي ومذكرتي وقلمي.
فعلا إن التجربة دلتنا على أننا نخطئ الحساب في حمل بعض الأشياء من المغرب البعيد، إن المهم هنا عوض الحزام العتيق صاحب الجيوب هو شكارة محمولة، المظلات هنا بكثرة، النعال المصحوبة من المغرب تضر أكثر مما تنفع فإن هنا نعا خفيفة ولطيفة «وعلى المقاس ». ولقد كنا نحمل من جراء هذا الحر أعباء كان بعضها مبالغاً فيه كما ي خُيل إلي، فإن الأوربيين يتجولون هنا بلباسهم العادي، وكأنما هم يتجولون في أحد مناطقهم العادية!.
كنت في كل أسفاري أستطيع كما يستطيع رفاقي طبعاً بالنسبة إلي أن آخذ انطباعاً ربما يكون صادقاً عن سلوك الناس، وكنت كثيراً ما أذكر تعريفات بعض رجال علم الأصول لمدلول )الصحابي( صحابي الرسول، في الناس من عر فَّه بأنه من خالط الرسول مدة سنة، وفيهم من حدده بأنه الذي خالطه في سفر، وقد رجح هذا الرأي بعض الناس باعتبار أن السفر كاشف واصف، وقد كنت في كل سفرة أكتسب اقتناعا أكثر بهذه النظرية، لقد كتبت أمام كل رفيق منا كلمة ذكرى عنه احتفظت بها لنفسي!!.
لقد رجعنا إلى النوم بعد الغذاء، وأخذت أَشعر بأنني قد استرجعت بعض نشاطي بعد هذه «الاستجمامة » التي كانت ضرورية، إن أثمان الفندق أخذت تلوح وكأنها على غلائها أرقام مقبولة، بل محبوبة! فإنه أي الفندق مكيف بسائر دروبه ومصاعده، وإنك لتعرف الفرق بين الفندق وخارج الفندق عندما تحاول أن تقتحم أبواب الخروج، فهنا تشعر بالفيح يشوي الوجوه.! كأننا كنا في حمام على أرض هذا (البالكون)، وقد صادفَ مع هَذا الحَر ظُهــور أسراب من الجَـراد، كانت «أشْجــار » هذا الفندق هَدفــًا لحَمَلاتهـا الضّـاريـــة، والأشجار هنا أعز من بيض الأنـــوق!! لقد كان هذا الجو «يضغط » عليْنــا للالتِحــاق بغُرفنـــا، وهكذا استسلمنا لنومة أخرى، بعد أن أدينـا فُروضنـــا.
وقد حضرَ الأخ ابن خرْبّـة من السفارة فسأله أحدنا عن واعظ الرحلة أين قضى ليلته؟ هل معنا في هذا الفندق أم في جهة أخرى؟ فلاحظ عبد النبي أنه لم يمر ليل، وإنما هو النهار قضيناه نحن في بيتنا المظلل بالستائر المتعددة والوثيرة والدكناء فحسبناه ليلاً!! ثم ذكر أن الواعظ «تغالى » هذا الفندق، ولذلك فقد قضى ليلته النهارية أو نهاره الليلي على مقعد بصالون ببيت السفير!
كان هذا اليوم 11 يونيه بالنسبة إلينا راحة كاملة، وذكر أننا تلقينا في هذا اليوم فقط إشعاراً بأن شهر ذي الحجة أهلَّ مساء السبت يوم 30 ذي القعدة الموافق لسادس يونيه فكان الفاتح من ذي الحجة هو يوم الأحد الذي يصادف 7 يونيه.
فإلى مكة
وقد غادرنا جدة بعد صلاة العشاء بعد أن زودنا السيارات ببعض »الجالونات » من البنزين، وقفنا قليلاً عند الطريق في مراكز التفتيش من أجل التحقيق في الجوازات، رقابة بين الفينة والأخرى، وفي القاصدين كثير من الراجلين. )لبيك اللهم لبيك( هذا هو الشعار، نستريح قليلاً لنعود إليه في خضوع واستسلام.
ولعجائز النساء نسبة مهم ةّ بين الحجاج. ولشد ما كنا نستغرب رؤيتهن وهن يولعن السجائر! لقد قيل لي «إن العروس لا بد أن يكون ضمن ما تحضره في جهازها لزوجها إلى الآن الركيلة .»pipe water«
في بئر طوى
إن البئر يصعد إلى شفيره بدرج، وعمقه حسب التقدير نحو من أربعين مترا، ولقد أنشئت في زوايا المضروبة على البئر أزر لستر الحجاج بعضهم عن بعض عند إدارة الغسل، بينما وقف على الجوانب رجال يخرجون الماء بالدلاء ويصبونه على المغتسلين من وراء الستر! وفي الناس من يكتفي بدلو، لكن فيهم من يتطلب دلوين، وفي الحجاج من يكتفي بالوضوء، ولقد دخل الحريم بدورهن للقيام بهذه الشعيرة.
لقد استرحنا في القهوة بجانب البئر صففت بعدد من «الشبريات » والمقاعد المختلفة الأحجام، ثم قصدنا مكة المكرمة، لقد شعرنا بقشعريرة كلما اقتربنا من هذه البقاع الطاهرة، واسترسلت تلبياتنا ودعاؤنا وقد وصلنا إلى الرباط المغربي لقد كتب على جانب من الباب }وما بكم من نعمة فمن الله{ ]سورة النحل، آية 53 [ بينما كتب على الجانب الآخر }لئن شكرتم لأزيدنكم{ ]سورة إبراهيم، آية ٧[.
إن هذه الدار عبارة عن عدة غرف، خصص بعضها للبعثة الطبية، وبعضها لحجاج وردوا من الجزائر، والبعض لآخرين وردوا من تونس، كان نصيبنا نحن بيتا في الطبقة العليا من الرباط. بعد استراحة قليلة، أسرعنا إلى زيارة بيت الله الحرام، دخلنا من باب السلام بعد أن جمعنا نعالنا في كيس، وقد مررنا على الملتزم، وهنا بدأنا بالدعاء، ووصلنا إلى ركن الحجر الأسود، ومن هنا أخدنا طريقنا في طواف القدوم جاعلين الكعبة على يسارنا، سبعة أشواط، صلينا بعدها ركعتين في مقام إبراهيم، ثم قصدنا بئر زمزم حيث جرعنا منه، ولكثرة ما رحب بنا سدنة البئر سلطوا علينا أنبوباً فأغرقنا في لباس إحرامنا! تلك عاداتهم عندما يرضون على حاج من الحجاج. ومن زمزم قصدنا باب الصفا بعد أن قضينا في الطواف ساعة إلا عشر دقائق. قد سقفت المسافة ) 374 متراً( بين الصفا والمروة، هما في الواقع أكمتان من صخر أحتفظ بهما إلى الآن مع هذا الإصلاح الجديد الجاري، مشهد عظيم، كل طائفة مع مطوفها، وفي الناس من يحمل بيده كتابا يقرأ الأدعية والأوراد، وفيهم من يحمل أطفالا صغارا على أكتافه، وسط المسافة علامتان بلون أخضر تشيران للخبب وللإسراع، هذان المكانان هما المأزمان، الغبار يتطاير، والأصوات واللغات مختلفة، لقد قضينا خمسين دقيقة في الأشواط السبعة، لقد أكبرت هذه الأعمال الجارية هنا من أجل توسعة الحرم، إنه المقاول «ابن لادن » سالف الذكر الذي تحدثوا لي عنه ونحن في طريقنا إلى المدينة.
وعند انتهاء السعي بين الصفا والمروة، لا بد أن ترى وتسمع طائفة من الناس وبيدهم مقصات تلمع، وهم يقولون «فك إحرامك »، يقصدون أن تدعهم يقصون من شعرك أيها الحاج أو المعتمر في مقابلة «بقشيش » طبعا، وبسط اليد في السفر موصى به على ما تضمنته الرسالة الملكية الموجهة إلى الحجاج!
وما أن استرحنا قليلا بعد رجوعنا إلى الرباط، رباط المغاربة، حتى هببنا من نومنا على أصداء نداءات الفجر، إنها فعلاً أصوات تتعالى جميلة من هنا وهناك، فتنسي بعض الناس أنانيتهم وجبروتهم، إن هذه المراويح الكهربائية هنا رحمة بالناس، ولا شك أن أجر المتفضلين بها أعظم وأكرم! وبعد الصلاة مباشرة شرع الناس في الطواف، إنها دوامة لا تنتهي، لا يقع بصرك أبداً على فراغ في أرض الطواف، وقد رجعنا بعد الصلاة إلي الرباط، إن الحجاج ينتشرون على الشارع هنا وهناك، يغتنمون لطف الغلس ليقضوا بعض الدقائق نياماً، وقد تقع الأبصار في مدخل الرباط على نائمات بجانب نائمين، وربما على وضع غير لائق ولكن انصراف الناس في هذا المقام عن المروق، حص نَّهم من الرفث والفسوق! وجعل من أولئك ناساً لا يأبهون!.
( الجمعة 6/ 12/ 1378 هـ ) 6/ 12/ 1959م
وصباح هذا اليوم زارنا عالم صيني الشيخ أحمد حسن يتكلم عن الأندونيسيين المقيمين في مكة، لقد سمعناه يتحدث في إسهاب عن حزب )مشوفي( المجلس الأعلى للمسلمين الأندونيسيين، ) 96 ( مليوناً من المسلمين في أندونيسيا. قال: إن للحزب تمثيلاً قوياً في البرلمان، وإن رئيسه محمد ناصر تلقى دراسته العصرية في ألمانيا والدينية في أندونيسيا.
ويمر الوقت بالنسبة للوفد في استقبال الدعاة، وكذا الذين حلت بهم بعض المشكلات، وقد زارنا هذا الصباح أيضاً حاج مغربي ذو لسان ولكنه أبكم لا ينطق، ضاعت منه كل أغراضه، فهو في حيرة ما عليها من مزيد، وهذه تشكو: لقد تاه زوجها في الزحام!، وقد زاد في انشغالنا ضياع مولى من الموالي الذين يخدمون الملك، كان قد صحبنا في الحج، ضاع في خضم هذا البشر بين الكعبة ورباط المغاربة.
و يـوم الجُمُعة هُنــا عظيم، بـالرّغـم من وُصـولنـا بـاكــراً إلى الحرم فإنّنــا لم نجد قيد شبر لنجلس فيه، ومع ذلك فقد جلسنا على باب زمزم قريبا من المــاء، وهذه نعمة جلى، لقد عرض علينا الملازم المغربي ) فُـؤاد العْلج( بعضاً من فــراغ قليل بجانبه، لكنّن،ا وجدْنـا فـي هذه ) الأودَة( أو هذا القَوْس مــا أرضى رغبتنا، أزيــار من ماء تمـلأ باللّيـل لتـوزع بالنَّهــار.
نسمَع بــاسْتمرار عن صَفـارات سيّـارات الإسعاف لمن ساعدهم الحظ بـالإسْعـاف، ونَسْمَع عَمّن أسْلَمُــوا الـرُّوح لخـالقهــا، وفي الحكايات ما يُبـالغ فــيه، لكن الإصابات كثيرة، الحر شديد، وجـل القــاصدين للحج كُهول أو شُيوخ. ورَفـــع الآذان في التاسعة والنصف بتوقيتنا.
لقد كان فيما قـــاله الخطيب: «إن شرط العمل الصالح أن يكون خالصا لوجه الله، وركز حديثه على «الإخلاص » الذي هو أساس كل نجاح، ومن هنا تخلص لحديث شريف عن وصف حج الرسول في بساطته: «خرج إلى منى ثامن ذي الحجة وأقام بها سحابة اليوم ثم قصد عرفة، ثم أفاض إلى منى، فرمى جمرة العقبة، ثم نحر وحلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة » الحديث، وقد أكد في الخطبة الثانية على تركيز الحج كله في )عرفة(، وكأنه كان يريد التخفيف على الذين يدهشون، وقد كان فيما قال: «خير دينكم أيسره » وربما أشار إلى أن الحج هنا منتهاه، وكأنه يلوح إلى أن زيارة الضريح النبوي لا تدخل مطلقاً ضمن الشعائر المطلوبة، وقد دعا في الأخير للإسلام والمسلمين كما دعا على الصهيونيين وأعوانهم.
(يتبع)
الجُزء السادس