ضوء النهار
جريدة طنجة – م.الحراق ( قصص من الواقع)
الأربعاء 12 غشت 2015 – 12:29:38
ومع تــَوالي الأيّــام و السنين و تَطــوُر المدينة، أقـدَمَ العَديدُ من سُكـانهــا على المشاركة في ربط دوْرهم و مَنـازلهـم بالكَهْربــاء ، مع الاعتماد أغلبهم على الآبــار بـــالنسبة للتزود بالماء الصالح للشرب، وظلت الأبار عند العديد من الدور السكنية رغم ربطها بشبكة الماء، تستفيد من مياه الآبــار لعذُوبـة مذاقهــــا، و لتوفرها على خاصية تتعلق ببرودة مياهها صيفا و دفئه شتـاء.
تعميم الكهْربــاء أمـلاه ظُهــور جهاز الرّايديو الـذي كـان حَدثــًا مُهمًا بالنّسْبة لأهـالي المدينة، ونقلة نوعية ستغير مجرى الحياة، بانفتــاحها على العـــالم الخارجي بواسطة هذا الجهاز، في الوقت الذي كانت تتحدث فيه المدينة عن قرب غزو مدينتهم لجهاز يشاهد فيه أشخاص يتحدثون مباشرة من مواقعهم البعيدة بميئات الكيلومترات، ويلتقطونها بواسطة جهاز يسمى التلفاز، هذا التطور وهذه النقلة النوعية دفع بعض الميسورين بمدينة أصيلا إلى استبدال المصابيح الصفراء بالمصابح البيضاء، أو ما كان يطلق عليه أهالي مدينة أصيلة ب “الضو د النهار”.
“الضو دالنهار” هذا كان لا يتوفر سوى عند قِلّة قليلة من السُكان، وفي بداية العهد بدُخوله للمدينة، كان التاجر سيدي “أحمد البقالي” من وجهاء المدينة أول من أدخله منزله، بعد أن أقام حفلا بالمناسبة، وهو تقليد متجذر في “زوالش” الأصيليين الأقحاح، وخاصة الميسورين منهم، إذ كلما اقتنى أحدهم شيئا له قيمة، إلا ويقيم حفلا، قد يكون كبيرا أو صغيرا، حسب قيمة الشيئ الذي اقتناه، ومن خلال الحفل كانوا يباركونه، وهو إما تيمنا بإقامة ما يعرف ب “صدقة”، أو إظهارا للنعمته، أوانطلاقا من الحياة التكافُلية التي كان يتميز بها سكان هذه المدينة العريقة، حيث ليس هناك فرق كبير جدا ما بين الغني وفقيرها.
وقد أجمع عدد من نسوة المدينة على أن يباركوا زوجة الشريف “البقالي” وقد اقترحن أن يكن معهن “اعويشة الجباري”، اعويشة الجباري هاته كانت أصيلية قحة، تنتمي الى عائلة الشرفاء في البلدة، وكانوا يلقبونها ب “السي” اعويشة الجباري، وحسب أهالي مدينة أصيلا أن كل النساء اللائي ينحدرأصلهن من الشرفاء بالمدينة كانوا يضيفون لها السي لتمييزهن بين العوام من النسوة.
السي اعويشة هاته إمرأة قليلة الظهور وحتى في الأعراس والأفراح والمناسبات، طيبة القلب، خجولة إلى أبعد حد، تكثر من المن والصدقات، في المناسبات وغير المناسبات، اجتمعت فيها جميع الصفات، تكثرمن الصلوات والخيرات، لاتضمرالعداء لأحد، متسامحة إلى أبعد حد، تلبي بفرح طلبات العباد.
أقرت النّسوة على أن لا تكون هذه اللّمَة، إلا بـوجــوب حُضور السي اعويشة لهذه الوليمة، فكانت منها إلاّ وأن لَبّت الدّعْـوة، وأقبَلت عَصْرًا قبْلَ أن يُدركهــا الظّـلام، و يحضر زوجها السي عبد السلام، ويسأل عن الطعام.
جلست السي اعويشة وتوسطت مقعَد البيت، حيث توَجد مـــائدة امتلأت جنَبـاتهــا بما لَذّ و طـابَ من حَلويـات وفطـائر بجميع أنواعها، وكؤوس الشاي المُنَعْنع تــوزع عليهن، و يحـــوم حول المائدة، النسوة وبضعة “عُويتقـــات” فتيــــاة صغيرات، ينكثون ويضحكون تارة، وطورا يغنون، و مرة ينشدون من الأذكار والسماع ما يداع، بينما اعويشة بين الفينة والأخرى تسأل عن الوقت، وكلما هَمَّت بـالقيـام إلا و كـانــوا لهــا بــالمرصــاد، يلحون عليها بالبقــاء، بحُجَّة لم يَحن لها الوقت، وصلاة المغرب لم يُــؤذن لها في هذا الــوقت، والشمس لازالت في كَبَد السّمــاء، وعَلامتها الضوء الذي يملأ هذا الفَضـــاء، و مــا هو في الحقيقة هو ضوء مصباح الكهرباء الأبيض، وتستسلم السي اعويشة لإلحـاحــات النّسوة، و تتقبلها بخجل، طالما أن توقيت آذان المغرب لم يحل بعد بدليل وجـــود إضاءة، أوهكذا تريد أن تقنع نفسها رغم أنها تشعر بأنهـا قضت وقتــًا طويلا ما بين العصر والمغرب وآذانها لم يحن بعد، وهي لاتدري المسكينة أن صلاة العشاء فـــات تـــوقيتها، وأن زوجها السي عبد السلام انْزَعَج من عَدَم وُجــود زوجتــه في المنزل، مما اضْطرّه أن يَسْأل عَنْهــا الجيـــران، وعند إحدى معارفها، التي أشارت له إحدى بناتها أنّهــا وأمها في وليمة دار سيدي احمد البقالي، فما كان منه إلا أن حلف بأغلظ أيمانه أن يطلقها في حينه، لأنها خرجت عن طاعته، وغادرت المنزل دون إذنه، أو استشارته.
ولما علم الكل بالخبر، خيرة البشر، وذهبوا عند الرجل الذي كان شره مستطر، وطلبوا منه الصفح والغفران، على أن لايتكرّر المَقْلب الذي لادخل لزوجته في ارتكـــابه.
فما كان منه إلا وقد لانَ خـاطرهُ، وتذكر خليلته، وما أسْدَت لهُ طيلة عُمرهِ، فطلبها بالرُجـــوع، لكنَّهـا أقـرّت بعـَدم الخُنــوع و الخُضـوع، وتَشبّثت بموقف الطلاق، كحَل لايمكن أن يمْحُوه ميثـــاق،إلا بشرط واحد و هـو أن يــزيدها في الصداق، ويزفها من جديد انطلاقا من نفس الزقاق في “عمارية“، إلى جزيرة الـواقـْواق.
فما كـانَ من الشريف البقالي الذي شعر َبحجم المقلب الذي كان سيَقْضي على سنوات حب وعشرة لزوجين فــاضلين، إلا أن أقــام عُرْسـًا للزَّوْجين، حَضرتـهُ عــائـلات أصيلــة والعديد من الأهالي، و زفت العروس إلى زوجهـا فــوق “العمارية” كما اشترطت، وانطلقت من زُقـاق دار البقالي حيث كـــانت مُعْتَصِمَة، إلى دار زوجها، ومنه قررا ا استبدال زيـــارة جزيرة الوقواق، بالتبرك بزيارة الولي الصالح سيدي احمد الزواق.