الصّوفية و العالم المُعاصر
جريدة طنجة – د.زبيدة بن علي الورياغلي (التصوُف)
الأربعاء 15 يوليوز 2015 – 12:31:27
ويؤخذ على الصوفية أيضا كونها ذات نزعة خرافية لا تتماشى مع الواقع ولا تستجيب لحـاجيـــات المجتمع المعاصر ولا تحقق طُموحـاتـــه، ومنها أن الصوفية قد تَجــــاوزها الزمان ودخلت منطقة الظل وأصبحت في ذمة التاريخ، فلم يعد لها أي دور تمارسه في المجتمع وأدارت ظهرها للواقع الاجتماعي، وانكفأت على نفسها، تجتر طقوسا وأذكــارًا وأورادا، لا صلة لها بما جد في الحياة من تحَوُلات، غيرت المفاهيم السائدة والمتوارثة، وانعكست آثارها على سلوكيات الإنسان المعاصر، وغيرت نمط الحياة اليومية المعاصرة بقوة، عَملت الحَضـــارة والتكنولوجية على تحريكها والتّـرويج لهـــا، وأرغمت الإنسان الحالي على الاندماج فيها.
إن الرد على الانتقــادات الموجهة إلى الصوفية لا يتم إلا عن طريق تبيان حقيقة التصوف وجوهره الحق، ودوره الأساسي كمكون ضمن المنظومة المجتمعية ومدى قدرته على الوقوف في وجه الهجمة الحضارية الشرسة للآلة وترويضها لفائدة الإنسانية من أجل المحافظة على القيم الأخلاقية الصحيحة والمبادئ الدينية القويمة، وتوجيه الحياة الشخصية والجماعية نحو العيش في عالم يسوده الحب والرحمة والأخوة الصادقة، للحد من طغيان الإنسان والعودة به إلى الله.
“يَظُن الصوفية أن تَقــاليدهم الـرُّوحية قـــادرة على أن تحتضن الصــوفية والمُعــاصرة بما لهما من قوة على التحير المزدوج والانتصار الأسمى، بـــاعتبارهما أنبل طموحات الضمير والاقتصاد على كل طغيان واستبداد والصوفية بردود أمام العالم ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم من كلمات عالية القيمة” وظنوا أن لا ملْجَـأ من الله إلاَّ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا. إن الله هو التواب الرحيم” (سورة التوبة آية 118).
هذا العصر والواقع أن حاجة الإنسان اليوم للحياة الروحية، تفوق في أهميتها الإحتيـاجــات الجسمانية، لأن الروح إذا حرمت منها تصاب وتمرض مثلها مثل الجسم تماما والأمراض الروحية لا يشعر بها الإنسان إلا بعد فترة طويلة، وقد لا يتعرف عليها مطلقا، كما أنه يصعب عليه تبيين السبب الحقيقي للمرض (3).
إن الحياة الروحية تقي الإنسان من الأمراض النفسية التي تتمثل في الإحساس بالقلق والاكتئاب والعجز، قد تؤدي به إلى وضع حد لحياته وتقوده إلى ممارسات خطيرة كتعاطي المخدرات بكل أنواعها، الأمر الذي يعرضه للإصابة بأمراض، يستعصي علاجها، إضافة إلى أن هذه التصرفات المشينة لا يقتصر ضررها على الفرد وحده، بل تصيب شَظـايـاهـا أسرته والمجتمع والوطن.
إن الآثـــار النَّفْسية للتّصـوف تُساهم في حـَلّ العديد من المشاكل التي ظهرت في عصرنا هذا، فـــالانتمـاء للتصوف وممارسة الحياة الصوفية، يُحَقّـق للإنْسان حَيـــاة هـادئـــة مطمئنة خالية من أسباب التشنج والقلق التي وسمت وطبعت الحياة العصرية، وطغت على المشاعر الأخرى ويتحقق ذلك بعودة الإنسان بصفة دائمة إلى الله في كافة أحواله، و مُراقبَته الـــذّاتية في السر والعلن، واندماجه ومشاركته في الحياة العامة، والتكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه أو أي مجتمع ينتقل إليه، فالتصوف يهدف إلى الارتقاء بالإنسان في مدارج الكمال الإنساني، فهو ليس مجرد انقطاع للعبادة والانسحاب من الحياة الدنيوية والانعزال عن المجتمع، بل هو في الحقيقة عامل أساسي ومحرك بذاته ودافع قوي إلى فعل الخير، لأن التقرب إلى الله يتم بعبادته وحبه وطاعته وخدمة العباد، فخير الناس أنفعهم للناس.
إن التّصوفَ في عُمقهِ انطلاقــة لرغبة فطرية لا يمكن قَمْعها واستِجـابــة صـادقـة للحيــاة الروحية، وتتجلّـى هذه الرغبة الجـامحــة، كلما أصبحت القوة المـــادية الاجتماعية ضــاغِطَة ومستبدة فــالتصوف هو النداء الداعي إلى العودة إلى الله ولإنابة إليه، والاغتراف من ينابيع المحبة والطهر والصفاء والحكمة، التصوف رسالة موجهة للفرد والمجتمع تعرف الناس بأصول الدين الحنيف وتعمل على إصلاح المجتمع” وغايته نشر الخلق القويم بين طبقات المجتمع، والخلق القويم هو الدعامة الأولى التي يبني عليها المجتمع أمنه واستقراره، فالطريقة لم تضع لإتباعها الأصول في الحياة الدينية فحسب، بل امتدت لتشمل كافة نواحي حياتهم الاجتماعية في مختلف العلاقات بين الشيخ والمريد وبين المريدين، بعضهم البعض، وبين المريد نفسه وأهله وغيرهم من سائر أفراد المجتمع”(2)
إنَّ التَّجْربـة الصـــوفية ظاهرة اجتماعية نشأت، نتيجة ظروف أفرزتها عوامل سياسية ودينية واجتماعية، تطورت بفعل التّحَـــوُلات الطارئة على المجتمعات الاسلامية عبر التاريخ، وبما عرفته من تقلُبـــات متعددة، فَعــاشت فترات ازدهار وإشعاع وصدراة، فكانت منارات للهدى مشعة، وفترات احتفاء وانكسار وركود، فبدأ إشعاعها يخبو ولم يبق منها سوى زوايا مهجورة وأبواب موصدة، ورغم هذا لا يمكن بأي حال من الأحوال إلغـاء دور الـزوايا ورجـالاتهـا في الحيــاة الاجتماعية، فقد احتلت الـزوايــا وشيـوخها مقـامـات عُلْيـــا في الهرم الاجتماعي ولعبت أدوارا مُـؤثـّرة وفــــاعلة في المجتمع الإسلامي، وارتبَطت ارتبـاطــًا وثيقًـا بمجـريــات الحيـــاة العامة، وكان للجانب الأخلاقي والروحي الاهتمام الأكبر عند الصوفية المتمثل في الاضطلاع بمهمة التربية والتعليم والإسهام في نشر الدين الإسلامي في أقطار بعيدة عن ديار الإسلام كالقارة الإفريقية على سبيل المثال، ولم يقتصر أداؤها على الجانب الديني والتعبدي، فحسب بل شمل ميدان الجهاد، دفاعا عن أرض الإسلام ضد الغزاة.
إن عالمنـــا المعاصر اليوم يعيش أزمات نفسية ويعاني أمراضا جسمية، نتيجة لذلك، أفقدت الإنسان إنسانيته وسلبته الشعور بالطمأنينة والرضى، وحولته إلى آلة صَمّـاء، تعيش في سِبـاق محمــوم مع الزمان وتتصارع من أجل البقاء والتفوق ويطغى عليها إحساس قاتل بالفقــر الـرُّوحي والخـواء العاطفي، أفرزها مسار الحياة المادية وطبيعة.
1كتاب التصوف والمتصوفة: تأليف جان فلبيي ص 135
2 كتاب التصوف في مصر والمغرب تأليف د. منال عبد المنعم جاد الله ص 271 الناشر: منشأة المعارف بالاسكندرية 1997
3 المرجع السابق ص 254

بقلم : د.زبيدة بن علي الورياغلي


















