لا يمكن لأي كان تصفح تاريخ المناطق الجبلية بشمال المغرب دون أن يثير انتباهه الفلكلور المحلي المتمثل في مسابقات خاصة بشبان يمتطون أحْصِنة ويتسابقون فيما بينهم من أجل الظفر بعروس عبارة عن “دُمية”، حيث يتشارك في العملية شبان يمثلون كل مداشر القبيلة كما هو الحال بالنسبة لمهرجان “ماطا” الشهير الذي ينعقد سنويا في الجماعة الترابية “أربعاء عياشة” بإقليم العرائش.
تراث تاريخي
هذا الفلكلور له دلالة وطابع تاريخي وهَوِياتي للمنطقة، إذ يرمز إلى شهامة القبائل المذكورة وشجاعة رجالاتها منذ القدم، فهم يحسنون ركوب الخيل وتطويعها وفق إرادتهم، كما أن لها مدلولا آخر في كونهم محاربين أشَاوِس ضد كل من يريد الاعتداء على ممتلكاتهم أو دينهم أو سيادتهم وأن هذا السلوك ما زال مستمرا في التاريخ. والدُّمية ترمز أيضا إلى الاستماتة في الدفاع عن أعْراضهم وعن ثقافتهم التي يعتزون بها.
“ماطا” في آداب القبائل الشمالية إحياءُ للتاريخ وما عرفه من أمجاد وتعبير للصَرامة وعدم التسامح ضد أي غزوٍ فكري أو عدواني ضد مكوناتهم الثقافية والهوياتية، إذ يشكل هذا السلوك نوعا من التَّمرُّد المَمْزوج بالدم الذي يجري في عروقهم، فالأمر له ارتباط وثيق بالأصول والتاريخ وعمق الماضي، حيث الجذور الأمازيغية والعربية الإسلامية.
التنافس على ماطا
تحرص قبائل “بني عروس” على هذا التقليد، كما تحرص على تطبيق قواعد هذه اللعبة بدقة عالية، فبعد غربلة حقول القمح، تقول وثيقة تعريفية، ترافق الفتيات والنساء هذه العملية بالزغاريد والأناشيد على صوت الغيطة والطبل التي تعرف بها المنطقة وهن نفس النسوة اللاتي يصنعن من القصب والثوب الدمية التي سيتنافس عليها الفرسان الشجعان لمنطقة جبالة، باعتبارها منطقة معروفة بثقافة تربية الأحصنة وتدريبها.
ما يعطي المهرجان تشويقا ذلك الصراع القائم بين فرق القبائل، إذ تجدهم دائما يحاولون التميز على بعضهم البعض في مجال الفروسية، فتحاول كل قبيلة الظفر بالدمية لتصبح حديث لسان كل فرق القبيلة حتى الدورة الأخرى من المهرجان وتحاول كل فرقة أن تحتفظ بلقبها، مستخدمة في ذلك أجود فرسانها. ومن جهة أخرى، يعد المهرجان مناسبة للتسابق بين الخيالة وللرواج التجاري بالمنطقة، إذ تعرض الحلويات والمشروبات والأكلات الخفيفة للبيع إلى جانب بعض المنتجات المحلية.
موروث يصارع الحداثة
“ماطا” كموروث ثقافي وحضاري ما زال راسخا في أذهان وفي شعور القبائل الجبلية بشمال المغرب، هذه العادة أصبحت متجذرة في عرف الأجيال، إذ أضحت تتوارث أبا عن جد ولا يمكن بأي حال من الأحوال مَحوُ أثارها، فهي مَفخرةٌ لسكان هذه القبائل ومُحَدِّدة لشخصيتهم، باعتبارها جزء من هويتهم التاريخية التي لا يجوز التخلي عنها على الرُّغم من التطور الحضاري والتكنولوجي الذي يعرفه العالم.
بلغة الأرقام، أصبح مهرجان “ماطا” من أكبر المهرجانات العالمية يستقطب آلاف الزوار، على الرغم من وجوده بمنطقة قروية، إلا أن الآلاف يحجون لاكتشاف تقاليد تراث الفروسية الذي تتميز به المنطقة. وبتوالي مثل هذه المناسبات، يمكن القول إن “ماطا” من الموروثات الثقافية التي لا زالت تقاوم الحداثة في عصرنا الحالي.