بوركت طفولة وشباب وكهولة من كتب الله له أن يعيش الأحداث الكبرى التي طبعت النصف الثاني من القرن الماضي، والتي شكلت مرحلة هامة، بل ومصيرية، في تاريخ المغرب الحديث.
فقد شهد المغرب، خلال هذه الفترة، بداية المواجهة “المكشوفة” بين المنظمات السياسية المغربية الرئيسية: الشورى والاستقلال، والاستقلال، والوحدة المغربية والإصلاح الوطني، وبداية الصدام بين القصر والإقامة الفرنسية، الذي احتد إثر زيارة الوحدة التي قام بها محمد الخامس رحمه الله إلى طنجة، في أبريل 1947، التي أعقبت زيارته لفرنسا التي تم خلالها “إهمال” المطالب المغربية بمراجعة معاهدة فاس 1912، الأمر الذي انعكس على مضمون “خطاب طنجة” التاريخي الذي كان واضحا وقويا في مطالبته رسميا ودوليا، باستقلال المغرب والذي عجل بحدوث “الصدام الأخطر والأخير، بين القصر والإقامة، يوم 20 غشت 1953.
وتغير وجه النضال الوطني لينتقل من العمل السياسي إلى المقاومة المسلحة، من أجل عودة الشرعية و المطالبة بمراجعة معاهدة “الخيانة” الموقعة في فاس يوم 30 مارس 1912.
ولقد نجح المغاربة عبر نضالهم السياسي حول العرش ، في طي صفحة 20 غشت في أقل من سنتين، ليتم الإعلان عن عودة محمد الخامس والإعلان عن “استقلال” المغرب ،الاستقلال “الترابطي” مع فرنسا إثر مفاوضات “صورية“،بإيكس لسيبان، لم تحظ بإجماع المغاربة لما تضمنت من “نقائص” و “تجاوزات” الأمر الذي ندد به عدد من السياسيين و المثقفين المغاربة، كما رفضه قائد معركة “أنوال” المجيدة واعتبره استقلالا ناقصا، إلى جانب تيارات وطنية مجاهدة.
ودخل المغرب مرحلة “الجهاد الأكبر” مرحلة طبعتها رغبة حزب سياسي في الهيمنة على المشهد الحزبي الوطني، بافتعال معارك “وطنية” ضد حزب الشورى والاستقلال، وكان حزبَ النخبة المثقفة، وحزب الجماهير الواعية بمسؤوليات المرحلة، لتصل شرارات الاستقلال إلى حزب الوحدة بافتعال “دعوى” قضائية ضد زعيم هذا الحزب الداهية الشيخ محمد المكي الناصري، الذي اتهم بـ “ب“الإساءة” إلى العرش، وهو الذي كرس حياته دفاعا عن العرش، بل وجعل شعار حزبه “الشعب بالعرش والعرش بالشعب“, ويوم المحاكمة، توصلت هيئة الحكم ببيان من محمد الخامس نفسه يبرئ المجاهد محمد المكي الناصري من كل ما نسب إليه. وخرج من باب المحكمة بين جموع المناصرين وهو يهتف “الشعب بالعرش والعرش بالشعب“. ولم ينج حزب الإصلاح الوطني من شرارات المعركة حيث تم “ابتلاعه” في لحظة ضعف، أمام قوى الهيمنة ليصرح زعيمه ذات يوم أن “أسوأ خطأ ارتكبه هو موافقته على الاندماج “الابتلاعي“.
شرارة معارك “الجهاد الأكبر” أفسدت أيضا علاقات بعض رجالات السياسية مع القصر لتبدأ الصراعات والمحاكمات والإعدامات والمناورات و“المؤامرات” منها ما كان “مصنوعا“، ومنها ما تم بإرادة بعض “الزعماء” ، الأمر الذي أضر أولا بالشعب المغربي الذي كاد أمله أن يخيب في الاستقلال، وتسبب في تعثر جهود الدولة من أجل تطوير البلد.
ولعل المُراجع لتاريخ الحكومات المغربية الـ 31، مند حكومتي البكاي إلى حكومتي البيجيدي، ما بين 1955 و 2018، يدرك أن تاريخ هذه الحكومات يختزل الصراعات التي طبعت علاقات الأحزاب داخليا، وعلاقات بعضها مع القصر والمناورات والمناورات المضادة، التي فرضت على الراحل الحسن الثاني اتخاذ قرارات وإن كانت حاسمة، إلا أنها لم تكن دائما مقبولة أو مفهومة من طرف جهات سياسية أو حزبية معينة، بما في ذلك حالة الاستثناء سنة 1965، بالرغم من أن الديمقراطية المغربية كانت بعيدة جدا عن أصول الديمقراطية كما كان يجب أن تكون.
وإذا كانت خطب محمد الخامس خاصة بمناسبة ثورة الملك والشعب، تتوجه إلى الماضي للتذكير بأمجاده، فإن خطب الحسن الثاني ومحمد السادس، تتوجه إلى المستقبل، من أجل تعبئة الشعب في مشروع بناء حاضر ومستقبل البلاد، الذي بدأ يزعج بعض “الشركاء” و“الحلفاء” بسبب نجاح المغرب في اكتساح مجالات جديدة، في عالم السياسة و الاقتصاد، الأمر الذي أزعج أصحاب النفوذ الاقتصادي الأوروبيين، فعمدوا إلى إشاعة افتراءات كاذبة على المغرب المعروف باستقامته ومصداقية مواقفه، حتى أن بعض الدول طالبت بعرقلة مسيرة المغرب التنموية بدعوى أنها تخلق اختلالات بين الدول المغاربية…
ودائما في اتجاه المستقبل، تعرض خطاب 20 غشت الأخير، إلى الانتخابات العامة المقبلة، التي “تتزامن ومرحلة جديدة موسومة بتحديات داخلية وخارجية، ومع أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، إلا أنها تهدف إلى تحصين الخيار الديمقراطي الذي يبني عليه المغرب حاضره ومستقبله.
عزيز كنوني