قبل البدء في هذا المقال، لا بد من الإشارة إلى الزمن و العصر و البيئة و الظروف التي أحاطت بالأديب الكبير و المفكر طه حسين، الذي تعود صلته المباشرة بالمغاربة إلى ثلاثينيات و أربعينيات القرن المنصرم لما توجهت بعثات طلابية مغربية إلى مصر للنهل من حياض العلم في جامعاتها و معاهدها و تتلمذوا عليه لما ولجوا رحاب كلية الآداب في جامعة القاهرة و غيرها، و فترة التكوين الأولى كانت في حياة طه حسين خلال العقد الأول من القرن العشرين ( 1900 ـ 1910 )، من أخطر فترات حياته ، هذه الفترة هي التي دخل فيها هذا الفتى إلى جامعة الأزهر نحو عام 1902 و هو في سن الثالثة عشرة من عمره، حتى أخرج منه نحو عام 1910 م ثم التحق بالجامعة الأهلية التي أنشئت حديثا في سنة 1908م . و في السنوات الثماني التي وصفها طه حسين في الجزء الأول من كتاب مذكراته (الأيام) وصفا خلابا و رائعا، يجمع د ماء الرثاء في العيون، و يرسم ابتسام السخرية على الشفاه. طه حسين جمع في ذخيرته الأولى من الأدب العربي الذي قيض له بعد فترة أن يكون أستاذه الأكبر و عميده الذي لا يشق له غبار منذ القرن الرابع الهجري: أي منذ ألف عام. و زيادة، كما ظهرت على طه حسين بدايات ذلك التمرد الفكري و القلق الروحي و الثورة الأدبية و الفنية و هي التي جعلت منه محطم أوثان و عنيدا بعد عقود من الزمن، و بهذا اجتمعت له الأصالة و التجديد كما يقول العديد من المفكرين و الأدباء، كما كانت هاته الفترة هي صدامه الأول مع المؤسسة الفكرية و الروحية و الأدبية و الاجتماعية و السياسية و التي جعلته ينشق على بيته و جامعته الكبيرة ــ الأزهر ــ و عاد يطلب العلم الجديد و المنهج الحديث، و القيم الجديدة في الجامعة الجديدة التي حل بها مثقفي عصره، الجامعة الأهلية و هي نواة الجامعة المصرية المنشأة في سنة 1925م و التي أصبحت فيما بعد جامعة القاهرة .
و في العقد الأول من القرن العشرين تبلور ذلك الاختمار العظيم الذي تفجر فيما بعد في ثورة 1919 .
إذ منذ سنة 1895 كان العلامة و الإمام محمد عبده يروح و يغدو في صحن الأزهر و في دار الإفتاء يدعو لتجديد الأزهر و تطوير علومه و مناهجه و بتجديد شباب الإسلام بتصفيته من جمود المتعصبين و بتأكيده للعقلانية و تمشيه مع العلوم العصرية، و بسبب هذا دخل في معارك مريرة مع أئمة علماء الدين المحافظين في عصره و مع الخديوي عباس الثاني الذي كان يستخدم أئمة علماء الدين المحافظين لتوطيد حكمه الأوتوقراطي و لنهب الأوقاف الخيرية و الأهلية و لتعميق تبعية مصر لتركيا باسم حماية الإسلام و الخلافة العثمانية، و بإسم مقاومة الاحتلال البريطاني . و قد عاصر الفتى طه حسين أواخر أيام الإمام محمد عبده قبل موته في 1905 ، و كذلك تأثر بلهيب من فكر قاسم أمين الذي هو رسول تحرير المرأة المصرية و العربية الذي أتم رسالته نحو عام 1900 م و مشه لهيب من فكره الثائر ضد بعض التقاليد البالية .
و منذ سنة 1906 ، بعد حادثة طابة الشهيرة ثار لطفي السيد مع أعيان المصريين على أوتوقراطية الخديوي عباس الثاني و طالبوا بالدستور و الحياة الديمقراطية و ثاروا على التبعية العثمانية و جددوا الدعوة للقومية العربية، و أسسوا حزب الأمة و جريدة ( الجريدة) للدعوة لمصر المصرية و للتنوير و الحرية و لتجديد شباب مصر بكافة مقومات الحضارة الأوروبية الحديثة .
هذا، و قد فجرت طابة بالذات هذين التيارين، تيار القومية المصرية، و تيار الدعوة الديمقراطية، لأن الخديوي عباس الثاني و الحزب الوطني الموالي له و الباب العالي كانا يعملان على سلخ سيناء، أو الأكبر منها من الأراضي المصرية، و تسليمها للدولة العثمانية، باسم مناوأة الإنجليز. و قد قيل يومئذ أن سعد زغلول الزعيم الكبير كان هو العقل المدبر وراء كل هذه الثورة على الحكم الملكي المطلق بمصر و على التبعية العثمانية، و لكن حقيقة الأمر أن سعد زغلول لم يكن إلا عاطفا يعطف على مبعدة لأنه كان ينتمي إلى شريحة اجتماعية مختلفة عن قيادات حزب الأمة من أبناء الأرستقراطية المصرية الثائرة على الخديوي و على الأتراك. فقد كان سعد زغلول ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الزراعية، و لهذا تأجلت قيادته لجماهير المصريين في سبيل الاستقلال و الديمقراطية حتى إلى ثورة 1919 حينما أصبحت للطبقات المتوسطة المصرية قاعدة عريضة و قوية أقرب إلى روح الجماهير من أعيان المصريين .
في هذا الجو كان إذن تكوين طه حسين الأول منذ دخوله إلى الأزهر حتى خروجه منه ، و كانت المؤثرات الأولية في حياته هي محمد عبده و قاسم أمين و لطفي السيد و على الوجه الأكيد كان هؤلاء الثلاثة يعلمونه أشياء مما لم يكن المرء يتعلمه من العلوم النقلية في جامعة الأزهر في ذلك الزمان . و من هنا تفتح عقل طه حسين الشاب على علوم و فلسفات و مناهج في البحث و التفكير غير ما كان يلقن في دراسته التقليدية. و كان ذلك مصدر كل القلق النفسي و الصراع الفكري و الاحتجاج الجدلي الذي نجد صداه و صوته في كتابه (( الأيام)) .
و هكذا ترسبت في ذهن هذا الشيخ الناشئ الثائر فكرة ( الثقافة) و فكرة ( المعاصرة) و فكرة ( التجديد) و فكرة ( الأدب للحياة).
و دخل طه حسين المرحلة الثانية لتكوينه في العقد الثاني من القرن العشرين (1910 ــ 1920 ) فكانت هذه في الواقع مرحلة التخصص و العلم العالي، و قد بدأت هاته المرحلة بدخوله الجامعة القديمة، حيث درس على المستشرقين و أساتذة الفلسفة و التاريخ و علم الاجتماع، حيث اتصل اتصالا مباشرا بالعقلية الأوروبية و بالفكر الأوروبي، فتعلم من الأوروبيين مناهج البحث و طرح الأسئلة و الإجابة عليها، فلما تخرج من كلية الآداب القديمة اختير في بعثة إلى فرنسا حيث قضى أكثر فترة الحرب العالمية الأولى متنقلا بين باريس و مونوبيليه، و في فرنسا أتقن اللغة الفرنسية، و تعلم شيئا من اليونانية و اللاتينية إلى جانب دراساته العربية، و تعرف على زوجته الفرنسية سوزان بريو التي كان لها أكبر الأثر في حياته لأنها أحاطت حياته اليومية بجو من النظام و الصحة و الدقة و التركيز و التوازن و الاهتمام بالشكل مع المحافظة على الجوهر مما أعانه كثيرا على أداء رسالته، و جعلت من ضعف هذا الرجل الضرير قوة، فحمته من الفضوليين و من السفهاء، و أبرأته من عقدة العميان أو عقدهم، و علمته المواجهة الاجتماعية، فلم يكن كل ذلك بالأمر الهين، و في هذه المرحلة الثانية انجذب طه حسين بقوة متفلسف عربي قديم شاطره نعمة التفلسف و نقمة العمى، و هو الشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري، كما انجذب إلى ابن خلدون فكتب عنهما،و في فرنسا أحب طه حسين اليونان و كان هوميروس ضريرا مثله فأحبه حبا كبيرا و عميقا، و كان تيرسياس نبيا ضريرا فأحبه حبا كبيرا و كان أوديب ملكا مخلوعا ضريرا فأحبه كذلك حبا عميقا.
و لكن بمأساته كيف يقهر هذه المأساة. فقدم له مع اليونان قصة، و ترجم لقراء العربية في العشرينيات و الثلاثينيات و الأربعينيات نماذج رائعة من روائع الأدب اليوناني و الفكر اليوناني العظيم آنذاك في القرن العشرين، و يمكن أن نقول إن مرحلة التكوين التالية له انتهت بعودته من أوروبا سنة 1918 و معه درجة الدكتورة الفرنسية ثم بداية اشتغاله أستاذا للأدب العربي في الجامعة الأهلية التي أوفدته ليتم علومه في فرنسا. و قد كان أهم ما حصله طه حسين في بعثته الفرنسية أربعة أمور: 1) منهج أو مناهج البحث الأكاديمي . 2) اكتشاف اليونان أدبا و فلسفة و تاريخا و اكتشاف ((الإنسان)) من خلال اليونان . 3) و اكتشاف وحدة الإنسان من خلال وحدة الحضارات الراقية و القيم الراقية . 4) تعميق إيمانه بأقانيم العقل و الحرية و حقوق الإنسان، تلك الأقانيم التي كان قد أخذها من قبل عن محمد عبده، و قاسم أمين و لطفي السيد، و لكنها كانت مجرد ترف من ترف المثقفين الثوار، فلما لمس طه حسين بنفسه أثر هذه الأقانيم في الحضارة الأوروبية الحديثة بصفة عامة و في الحضارة الفرنسية الحديثة بصفة خاصة، اتخذت هذه المبادئ الشكلية الهيكلية في وجدانه مضمونا ثوريا فكريا و اجتماعيا معا .
و هكذا دخل طه حسين مرحلته الثالثة في العشرينيات من القرن 20 ( 1920ــ1930 ) التي لم تكن مرحلة تكوين بل كانت مرحلة نضوج . و لم يكن نضوجه العلمي أو نضوجه الفكري. أهم ما فيه ، و إنما كانت أهم سمات هذه المرحلة هي نضوجه الوجداني، لقد عرف طه حسين أن له رسالة و أن عليه تكليفا هما: قيادة المثقفين المصريين و العرب عامة في اتجاه العقلانية و الحرية الفكرية، و العمل على بناء قاعدة من المثقفين عريضة و راسخة يمكن أن تقود مصر و الرأي العام . أما حرية الجماهير فلم يندفع طه حسين في هذه المرحلة من حياته للتصدي لها، بل أجلها إلى مراحل أخرى لاحقة من حياته .
و قد كان تخلف طه حسين عن الدفاع عن حرية الجماهير في هذه الفترة من حياته نتيجة لنقائض هذه الفترة، فقد نشأ طه حسين في كنف الصفوة الفكرية الثائرة الأرستقراطية المصرية التي أنجبت لطفي السيد و آل عبد الرزاق ( علي عبد الرزاق و مصطفى عبد الرزاق) و أضرابهم، و قد كانت ثورية هذه الصفوة في حقيقتها ثورية حضارية،قبل أن تكون ثورية سياسية، و كانت مثل شيء بثورية الخديوي إسماعيل في القرن 19، و لأنها كانت ثورة الأرستقراطية المصرية فقد اتخذت ثوريتها السياسية اتجاه القومية المصرية لتحرير مصر من التبعية العثمانية، و اتجاه الديمقراطية لوضع حد للحكم المطلق و نقل سلطة الخديوي أو الملك و الذوات الترك إلى الأعيان المصريين و صفوتهم، و لم تكن تقصد بالديمقراطية حتى منذ البداية، نقل السلطة السياسية إلى أيدي الجماهير على الوجه المطلق، و إنما كانت تقصد بالحكم الدستوري سيادة القانون بدلا من الحكم (الشخصي) حيث إرادة الحاكم هي القانون و تقصد بالديمقراطية السياسية نقل السلطة السياسية من العرش إلى الشعب من خلال حكم الصفوة العارفة بمصالح البلاد الحقيقية و بمصالح الشعب الحقيقية . أما انتقال السلطة السياسية إلى أيدي الجماهير الجاهلة مباشرة فقد كان في نظرها مرادفا لحكم الغوغاء و ليس مرادفا للديمقراطية. و من هنا فقد كان أقرب النظم إلى مفهوم الديمقراطية عند الأرستقراطية المصرية هي الديمقراطية الأرسطاطاليسية ( نسبة إلى أرسطو) أو ما يسمى أحيانا الديمقراطية في ظل القانون أو ما يسمونه أحيانا بالملكية المقيدة. و من هنا أيضا اشترطت الأرستقراطية المصرية لنجاح الديمقراطية في مصر ترقية المجتمع المصري من القمة إلى القاعدة بنشر التعليم و نشر القيم العقلانية و تجديد مصر بمقدمات الحضارة الحديثة ليس فقط من حيث الكيان الاقتصادي، و لكن قبل كل شيء من حيث القيم الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية … فماذا فعل طه حسين في مواجهة ثورة 1919 ؟ لم تكن هناك في البداية مشاكل لأن الثوار على كل مستوى، على مستوى النبلاء و على مستوى الطبقات المتوسطة و على مستوى الطبقات الشعبية، قد اتحدت كلماتهم في 13 نونبر 1918 على تحرير مصر من يد الإنجليز، اتحدت كلمة زعماء البلاد من متطرفين و معتدلين و بين الحزب الوطني و حزب الأمة و ما بينهما على مطالبة الانجليز باستقلال مصر و مطالبة السلطان فؤاد بالدستور. و لكن سرعان ما تكشف أن ثوار 1919 يتكلمون لغة واحدة لها معان متعددة، أغلبية ساحقة بشعبيتها و ثوريتها مع سعد زغلول تطالب بالاستقلال الكامل و بدستور ديمقراطي ينقل السلطة السياسية كاملة إلى أيدي الجماهير، و أقلية قوية بمالها و علمها مثل عدلي يكن ترضى بحلول وسط مع الإنجليز و مع العرش، و هكذا انشق ((العقلاء)) من قادة (( حزب الأمة)) ( كبار الملاك) بزعامة عدلي يكن من التيار الوطني الديمقراطي العريض العميق الذي قاده (( الوفد المصري )) ( أوساط الملاك) بزعامة سعد زغلول و قد كان في حقيقته آخر العرابيين و ولد حزب ( الأحرار الدستوريين من أنقاض ((حزب الأمة ))، و كانت التهمة الأولى التي وجهها عدلي يكن و رجاله إلى سعد زغلول و رجاله أنهم كانوا في حقيقتهم زعماء رعاع و قادة غوغاء، لأن سعد زغلول كان يتلقى تفويضه من الأمة أو من الشعب كما نقول اليوم و ليس من حب و لا نسب و لا جاه و لا عقل و لا ثقافة و لأن سعد زغلول كان في كل منعطف سياسي و في كل مفاوضة مع الإنجليز أو مع العرش ينادي: احتكموا إلى الأمة ! فيجلجل نداؤه في كل ركن من أركان وادي النيل. و زغلول و رجاله فقد كان بسيطا: إن العبد ليس بحاجة إلى دراسة أرسطو ليحس بأنه عبد فأغلاله الثقيلة هي شاهد عبوديته ، و طلب الحرية ليس بحاجة إلى فلسفة المتفلسفين. و وراء هذا الانشقاق الكبير بين ((العقل )) و (( العاطفة)) كانت هناك مصالح طبقية بعضها سافر و بعضها مستتر .
عبد القادر أحمد بن قدور