شهدت شواطئ مدينة الفنيدق ، بداية هذا الأسبوع، “هروبا” جماعيا نحو مدينة سبتة، شارك فيه مئات من سكان تلك المدينة المنكوبة، اختلفت المصادر في أعدادها، حيث قيل إن “الهاربين” كانوا خمسة آلاف، وقيل ثمانية، وقيل فوق العشرة آلاف، ألفان منهم أطفال قصر غير مرافقين، ومنهم ، أيضا، أسرٌ بالكامل.
المشهد كان مؤثرا جدا، حيث رحلت الجماهير بالآلاف إلى الشريط الفاصل بين المدينتين والمطل على البحر، لتوديع المغادرين المغامرين، ولسان حالهم يقول: لو أنهم أدركونا بتدبير سليم، ما فارقنا أهلا منا وقطعا من أكبادنا…ولكن “الغالب الله“!…..خاصة، ولا أحد كان بإمكانه التكهن بخاتمة الرواية، حيث إن أهل الفنيدق، والمغاربة بوصف عام، ممن زوار سبتة، يعرفون بطش رجال “لا وارديا سيفيل” (الحرس المدني) وبطشهم وصفاقتهم… !.
الذين ألقوا بأنفسهم إلى “التهلكة“، لم يكونوا يجهلون مخاطر المغامرة، وما قد تسبب لهم من معاناة، سواء هناك، على يد “الوارديا سيفيل“، أو هنا، حيث قد ينتظرهم الركل والرفس والسب الذي يبرع فيه أولئك الذين “تعرفون” من “الخوت” الذين يجعل بعضهم من إهانة المواطنين، وليس تكريمهم،
ممارسة “عادية” تدخل في دورهم “التأديبي والزجري المباشر، ولولا فضل مواقع التواصل الاجتماعي التي فضحت “معذب” طفل الفنيدق، لما تم توقيفه ومتابعته وإدانته بسنة حبسا نافذا، وهو قليل مما يستحق !
ولعله من باب “تحصيل الحاصل” أن نتساءل عن أسباب هذا النزوح الجماعي إلى مدينة سبتة، وقد أغلق المغرب المنفذ الوحيد إليها من حيث كان “يتعيش” سكان المدينة والجوار، لأن الجواب سنجده ، لا محالة، في طريقة تعامل الحكومة مع السكان، حيث إنها حين أغلقت المنفذ إلى سبتة، وهو إجراء ينتصر للصناعة الوطنية ضد المنافسة الغير عادلة، للصناعات الأجنبية التي يتم تهريبها إلى المغرب ، أغفلت الاهتمام بأوضاع السكان الذين يشكل معبر “طاراخال” المنفذ الوحيد الذي يعبر الرزق منه إليهم وإلى أسرهم، والثروة إلى إلى “الحيتان الكبار” التي “تجلس على رأس هرم ” “التوزيع” على الأسواق، انطلاقا من العواصم الاقتصادية الكبرى بالبلاد. ومعلوم أن ما كان يسمى بـ “التهريب المعاشي” لا تقتصر الاستفادة منه على “الحمالات” و“الحمالين“، الذين لا يصلهم إلا الفتات، بل إن “بركته” كانت تصل إلى العديد من المتدخلين في “المنظومة” التهريبية، وهذا الموضوع غير خاف على “الممارسين” والمرتفقين والسياح المغاربة على حد سواء
ولم تتحرك “ماكينة” الحكومة، إلا بعد أن تحركت همم السكان المتضررين ونزلوا إلى الشارع للمطالبة بحقهم في الحياة، ورددت الصحافة في الداخل والخارج أصداء ذلك “الحراك” الذي أبرز وجود شباب وفتيات على قدر كبير من الوعي، للتعبير بهدوء ورزانة وسلمية، ولكن بقوة وشجاعة، عن حالة الفقر والتشرد والضياع التي آلت إليها أوضاعهم بسبب قرار “قطع الرزق” الذي اتخذته الحكومة الموقرة في حقهم، دون تقديم بديل يقيهم شرّ الفقر وحكرة مدّ اليد. ولا عجب أن يردد شباب الفنيدق في إحدى تلك “الخرجات” نشيد جماهير “الرجاء“: ” فبلادي ظلموني“… ! تعبيرا عن معاناتهم ومطالبين بتحسين أوضاعهم وتأمين حياة أفضل لهم !….
وحتى حين “اهتمت” الحكومة بالقضية، لم تتعامل معها بطريقة “الاستعجال” والأولوية، بل في إطار المخططات “التنموية” التي تنظمها في مختلف جهات المغرب، حيث “الأوضاع روتينية” ولا توجد في حالة “استعجال” أو أولوية، إلا ما تطلبته ظروف التنمية العادية، التي قد تتطلب سنوات لإنجازها. ومن ذلك، فيما يخص “تدابير الإنعاش” للفنيدق، إنشاء “منطقة الصناعات” بدل المشروع الأول الذي ارتعدت له فرائص رجال الأعمال بسبتة وإسبانيا بوجه عام، وهو مشروع المنطقة الصناعية الحرة بالفنيدق المرتبطة بالمناطق الصناعية الحرة بميناء “طنجة المتوسط“.
المسؤولون عن ملف الفنيدق تقدموا باقتراحات “سطحية“، تخص “تشغيل” بعض العاملات والعمال في “النشاط القديم”
في مشاريع صناعية محدودة، وذلك بموازاة مع برنامج “مدعم“، لــ “التشغيل الذاتي” لفائدة شباب لا يتوفرون على المؤهلات الضرورية لابتداع المشاريع الاقتصادية وتدبيرها، بل، ولا يملكون ثمن “نص خبزة” في جيوبهم “المنفوطة” ، لسد رمق الجوع، في أيامهم التعيسة هذه!
ولا شك أن فكرة “العودة” إلى “المنبع“، ليس عن طريق المعبر المغلق، منذ مارس 2020، بل عن طريق ركوب الموج، والمجازفة بالحياة…لا شك أن تلك الفكرة راودت، وتراود العديد من “المضيقيين” وسكان الجوار كل يوم.، حتى أنه بمجرد شيوع خبر نجاح شباب الفنيدق في العبور نحو الثغر المنشود، حتى حجت جحافل المواطنين من مختلف جهات المغرب، على عجل، لتطوان، للمشاركة في “لعبة الانتحار” غرقا، من أجل الوصول إلى عالم “إيل دورادو” الوهمي. أما أفارقة جنوب الصحراء فلم ينتظروا نهاية اللعبة، ليباشروا لعبة القط والفأر مع “لا وارديا سيبيل” سواء بسبتة وحتى بمليلية التي وصلها “فيلق” من ثمانين فردا منهم.
وصول تلك الأعداد الكبيرة من المغاربة، أدهش الأسبان إدارة وأمنا وروع السكان الذين سارعوا إلى إغلاق محلاتهم، والاحتفاظ بأبنائهم بالبيت بدل مرافقتهم إلى المدارس، خوفا من “المورو” الذي لا زال في مخيلتهم يمثل “القبح” الجسدى والخلقي والأخلاقي ، ومنهم من صرح لوسائل الأعلام أن الأمر مخيفٌ بل ومروعٌ، وأنهم يخشون على حياتهم من اعتداءات “المورو“، وعلى أمتعتهم من السرقة.
إلا أن تعامل رجال الأمن مع الوافدين الذين “قطفوا” العديد منهم من داخل البحر، ليوجهوهم تحت الحراسة إلى مكان تجمعهم، بينما شرعت كاميرات التلفزات الإسبانية في تقديم مشاهد الآلاف من “الزاحفين“، برا وبحرا على شاطئ “طاراخال” . وتحت “هول” الفاجعة، وضغط الشارع الإسباني، وتنديد الأحزاب السياسية بما اعتبروه “تهاونا” من الحكومة في الدفاع عن مدينة سبتة “الإسبانية“، التي تشكل مع مليلية “حدود الاتحاد الأوروبي الجنوبية“، تمت دعوة الجيش للتدخل، وتغيرت كليا طريقة التعامل مع النازحين، خاصة بعد أن قام عدد منهم برشق بعض رجال الأمن بالحجارة.
الوافدون تم تجميعهم في عين المكان، في انتظار “الأوامر” التي قضت بإعادتهم “للمغرب” عبر المعبر المغلق. ولم تتم هذه العملية دون مناوشات بين “الفارين” إلى سبتة ورجال القوات العمومية الذين استعملوا “هراواتهم” ثم استخدموا القنابل المسيلة للدموع تحت مراقبة دبابات العسكر المصطفة، في حالة تأهب، على رمال الشاطئ في مواجهة “كمشة” من “أطفال الموج“، الوافدين من برّ “مرويكوس” !.
إلا أن العديدين منهم نجحوا في التسلل إلى داخل المدينة، حيث خلق منظر مجموعاتهم “النشيطة” هلعا كبيرا بين السكان، بينما تصدت لهم القوات العمومية لتتحول الشوارع الرئيسية إلى حلبة كرّ وفرّ بين النازحين ورجال الأمن الذين تعاملوا مع المتسللين بمنتهى القساوة والعنف.
وبينما تفرغت الصحافة الاسبانية لإعداد تقارير ضافية عن الحدث معززة بالصور مع تعاليق تعتبر أن هذه العملية ردة فعل من المغرب على استقبال إسبانيا لرئيس انفصاليي تندوف، نظمت المحطات التلفزية الاسبانية، فضلا عن تغطيات واسعة ومتواصلة، لقاءات مع شخصيات تنتمي لمجالات اجتماعبة مختلفة، منها الإعلام، والقانون، والجامعة، والسياسة، والأمن، حول “الهجرة الجماعية للمغاربة” التي اعتبرها أغلبهم عملية مدروسة من الحكومة المغربية لاستفزاز إسبانيا والضغط عليها، والإعلان عن رفع يدها عن الاتفاقيات المغربية الإسبانية والمغربية الأوروبية، في مجالات الأمن ومحاربة الهجرة السرية، لمجرد أن دولا من الاتحاد الأوروبي ومنها إسبانيا وألمانيا، رفضت الاعتراف بمغربية الصحراء، بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على ” الأقاليم الجنوبية للمملكة“. ولم تخل تلك المداخلات من إشارات “ساخرة” إلى مخططات المغرب ” للاستيلاء” على مدينتي سبتة ومليلية التي تعتبرهما مملكة “قشتالة” إسبانيتين حتى النخاع ( ! (……
عزيز كنوني