كيف تُعرف نفسك في مجال الأدب؟
مسافر أمتطي قلمي، أطارد في صحراء الكلمات سراب المعاني، عسى أن أجد يوماً مرآةً أتعرف بها على ملامح وجهي.
حازت مجموعتك القصصية “ساتر البلور” على المركز الأول ضمن مسابقة كتوبيا للنشر، وهو أول عمل لك سينشر ورقياً رغم أنه لديك محاولات جادة عديدة من قبل لم تر النور ورقياً بعد، ما السبب وراء ذلك؟
يعود سبب ذلك إلى تقييمي الخاص لكتاباتي السابقة، إذ طالما شككتُ في استحقاقها للنشر الورقي، وكنت أرى بأن النشر الرقمي يغني عن الورقي لأنه أسهل انتشاراً، كما كنت أعتقد أيضا بأن النشر الورقي سيقيدني إبداعياً وسيكلفني مالاً ليكون كل ما أحصل عليه في نهاية الأمر كتاب مهمل في رفوف بعض مكتبات مدينتي، لكنني راجعتُ أفكاري هذه لاحقا بعد أن تبين لي أنْ لا سبيل للكاتب لإثبات وجوده والاعتراف به ضمن فئة الكتَّاب إلا من خلال النشر الورقي.
هل يمكنك أن تحدثنا عن بعض تجاربك مع دور النشر، وما هي الصعوبات التي اعترضت طريقك؟
حتى الآن، معظم تجاربي مع دور النشر سلبية ومحبطة. كانت التجربة الأولى عام 2013 حين استجبتُ لإعلان فيسبوكي مغرٍ لأحد الناشرين في بلد آخر. تقدمتُ بأحد أعمالي المنشورة رقمياً فجاءتني رسالة موافقة فورية على النشر، شريطة المساهمة بمبلغ 5000 درهم مغربي، لكني اصطدمتُ بحقيقة أن المغرب يمنع منعاً كلياً إرسال الأموال إلى الخارج، لتُحبَط بذلك أولى محاولاتي للنشر الورقي. وفي الحقيقة حين أتذكر ذلك الآن -بعد أن صارت لدي فكرة حول واقع النشر في العالم العربي- أحمد الله حمداً كثيراً على أن الأمر لم يتم.
التجربة الثانية كانت في مطلع عام 2020، وكنتُ قد أتممتُ محاولتي الروائية الكاملة الأولى. أرسلتُ مخطوط الرواية لعدد كبير من دور النشر في العالم العربي، وكانت النتيجة أن بعضها لم يردَّ علي إطلاقاً، وبعضها الآخر أرسل رسالة اعتذار دون تحديد الأسباب، فيما أرسلت دُور أخرى موافقتها على النشر لكن على حسابي. أحياناً تكاد تحملني هذه الإحباطات المتلاحقة على التشكيك في موهبتي الأدبية وفي أن ما كتبتُه يستحق النشر، لكني أقاوم هذا الشعور بما أعرفه من أن قبول نشر الأعمال أو رفضها ليس مقياساً صحيحاً لجودتها، وأن الناشرين في الغالب تحركهم اعتبارات تجارية بحتة، لذلك قد يبدو مفهوماً إعراضهم عن النشر لكاتب مغمور مثلي.
كتبتَ أكثر من مائة مراجعة لكتب وروايات مهمة وقد لقيت استحساناً واهتماماً واسعين سواء من طرف الكتاب أو القراء أو حتى بعض دور النشر وربما بعض النقاد أيضاً، ما هو الدافع وراء كتابتك لهذه المراجعات؟
كتابة المراجعات هو بمثابة نشاط ثقافي تواصلي تحركه الرغبة في تبادل الآراء حول ما نقرؤه من كتب وروايات. الدافع وراء كتابتي لتلك المراجعات هو إحداث زخم تفاعلي وحراك أدبي يَخرج بالقارئ من كونه قارئاً سلبياً صامتاً، ويدعوه إلى أن يستخرج من مقروءاته أفكاراً وانطباعات وآراء أدبية، وذلك لكي يصير فعل القراءة فعلاً تفاعلياً مثمراً وربما يسهم حتى في “المواكبة النقدية” للإصدارات الأدبية.
باعتقادك هل مجرد التمكن من قواعد اللغة وفن الكتابة الروائية كافيان لأن يصبح الكاتب روائياً ناجحاً؟
لا، هما ضروريان للرواية لكنهما ليسا كافيين. ثمة مواصفات ومهارات أخرى يحتاجها الروائي؛ منها أن يكون واسع المخيلة، فالخيال عنصر محوري في الرواية حتى لو كانت واقعية. ومنها أن يكون مفتوح الحواس عميق الملاحظة، قادراً على التقاط التفاصيل الدقيقة. وأيضاً أن يكون متمتعاً بالتفكير المنهجي المنظم، وأن يكون ذا نفَس طويل في الكتابة. والأهم من هذا كله أن يتمتع بحاسة درامية متطورة، وأعني بها تلك القدرة على النظر إلى الحياة بأكملها كما لو كانت مسرحية أو رواية أو مسلسلاً أو فيلماً (لا بد أن يكون الروائي مصاباً بقدر معين من متلازمة ترومان). الحاسة الدرامية المتطورة هي ما يعين الروائي على بناء شخصياته وتحديد مصائرها، وأيضا معرفة متى يبدأ ومتى ينتهي، متى يسهب في الوصف ومتى يقتصد فيه، متى يعتمد على السرد ومتى يعتمد على الحوار… إلخ.
بعد كل التجارب التي خضتها في القراءة والكتابة والنشر، كيف يمكن بنظرك أن يصبح الكاتب المغمور كاتباً مشهوراً ومقروءاً؟ ما هي تلك الوصفة السحرية التي تدفع الكاتب إلى مصاف الكُتاب المرموقين؟
بدايةً يجب أن نؤكد على أن النجاح بمعناه الحقيقي غير مرتبط بالشهرة والمقروئية، بدليل أن الرداءة الأدبية باتت ظاهرة شديدة الاستفحال، وغالباً تكون الأعمال الرديئة هي الأكثر شهرة ومقروئية.
إن كانت الشهرة هي كل ما يريده الكاتب فما أكثر طرقها من أساليب الإثارة الرخيصة، وأما إن كان الكاتب ذا همٍّ أدبي حقيقي فهو لن يعتبر الشهرة أولوية له؛ لن يكتب ما يريده الجمهور ولن يقارن نفسه بأحد، وهكذا سيضع نصب عينيه معايير جودته الخاصة، والصارمة جداً، والتي لن يسمح لنفسه بالتنازل عنها مهما كلف الأمر. ليست هناك وصفة سحرية إلا العمل الجاد، وفي النهاية لا بد للعمل الجيد أن يفرض نفسه ولو بعد حين.
هل تعتبر نفسك كاتباً حقيقياً أم أنك مجرد هاوٍ، وما هو الفرق بينهما بنظرك؟
أعتقد بصراحة أن هذا السؤال سابق لأوانه، ونعود هنا للحديث حول إشكالية النشر الورقي. هل أنا كاتب أصلاً أم ليس بعد؟ إن كان الأمر بقياس الكمية فقد كتبتُ المئات والمئات من الصفحات، لكن ما دام عملي الورقي الأول لم ير النور بعد فما زلتُ غير مستحق للقب الكاتب.
وأما الفرق بينهما فليست هناك معايير موضوعية صارمة. ربما يظن الكاتب الهاوي نفسه محترفاً، كما لن نعدم وجود كتاب حقيقيين يبخسون حق أنفسهم. لكن عموماً هناك قرائن يُستأنس بها للتفريق بين الهاوي والمحترف، وتتعلق بطبيعة النتاج الأدبي نفسه ومدى أصالته وعمقه وقدرته على إحداث التأثير والنفاذ إلى الأعماق. إذا سلمنا بأن العمل الأدبي ينقسم إلى لفظ ومعنى، إلى لغة ومضمون، فشتان بين من يكسو أفكاراً عميقة بثوب قشيب من التراكيب البليغة، وبين من ليس في جعبته إلا أفكار سطحية مستهلكة يصوغها بأسلوب ركيك مهلهل.
ختاما، هل تريد أن تضيف شيئا؟
أجل، أريد أن أقول إنه بخصوص النشر ورغم كل ما يقال حول تدهور صناعة النشر في العالم العربي إلا أن الأعمال الأدبية مستمرة في الصدور، لذلك يحزُّ في النفس أن يكون المغرب رغم توفره على طاقات أدبية هائلة متأخراً عن ركب الناشرين. وهنا أختم بأمنية عزيزة لدي ولدى كل كاتب مغربي؛ أن تكون لدينا دور نشر مغربية جادة وطموحة، تتجاوز محليتها نحو آفاق أرحب في التوزيع والانتشار، وذلك لكي تنطلق الإبداعات الأدبية المغربية من بلدها الأم نحو أقطار العالم العربي، وليس العكس.
حاوره : محمد العودي