هكذا كانت تلقب ،والكل يناديها بهذا الإسم، فتجدها تهرول يمنة ويسرة فرحة، مبتسمة،تقفز، وتشد ظفائرها بهجة وسرورا…
جميلة المدينة، هي بالفعل جميلة، وهو الإسم المسجل في وثائقها، وقد حباها الله بجمال الخلقة، بياض ممزوج بالشقرة،عيون زرقاء، فم مرسوم، شفتين ورديتين، وخدود حمراء…جعل من جميلة فاتنة الحي منذ صغرها!
الجمال نعمة! ولكن بالنسبة لجميلة، جمالها نقمة!
وتبتدأ معاناتها، من المرحلة الإبتدائية، حيث تتعرض للمضايقات من طرف التلاميذ،أولا ،ثم في الشارع عند ذهابها ورجوعها من المدرسة…
سلوكات همجية، تحرش، إذاية مستمرة، كل ذلك جعل والدها يمنعها من الذهاب إلى المدرسة!
جميلة، بين الدموع والأحزان تقضي يومها وحيدة داخل بيت موصد بالأقفال، فأمها تعمل ولا تأتي إلا في الخامسة مساء،وكذا والدها الذي يتأخر في غالب الأحيان إلى مابعد صلاة العشاء.
ما هو برنامجها اليومي؟ كيف تقضي ساعات طوال؟
تنهي أعمال البيت،وتظل جالسة،أو مستلقية،تفكر في المدرسة في الأطفال ، في صديقاتها…
“الجميع سيكبر،ويكون قادر على القراءة والكتابة،باستثناء جميلة!”
وتسيل دموعها حارقة خديها،وتطير جميلة في سماء الحيرة، والتفاؤل بعيدة عن هموم واقعها المر.
في أحد الأيام ،عندما صار عمر جميلة الرابعة عشرة، بدأت أمها تعتمد عليها أكثر قي إنجاز أشغال البيت،بما في ذلك الطبخ،وغسل الملابس، فبينما جميلة تنشر الغسيل بسطح البيت،إذ بالجار أبو وليد،يفاجأها قائلا:”سلام يا جميلة،لقد كبرت ،وأصبحت حلوة،أنت عروسة الآن،..” وبدأ يقترب منها شيئا فشيئا، وقلبها الصغير يقفز داخل قفص صدرها،خائفة،مذعورة،لاتعرف ماتفعل ! وضع يده على كتفها ثم ضمها بقساوة نحو صدره، وصار يلتهم بوحشية جسد طفلة بريئة في سن أبنائه…! لم يعلم الجار بأن ابنه وليد قد تابع كل أحداث مسلسل” اغتصاب جميلة فوق السطح” ،فقد أرسلته أمه ببعض الغسيل ليعطيه لوالده…
” لا تخبري أحد،لا أبوك ،ولا أمك ،امسحي دموعك،أنت جميلة جدا،أنا سأتزوجك…”هكذا ضاعت جميلة بين غسيل،ونشر،وهجوم طاغية على السطح.!!!
وتمر الأيام وتنضج جميلة لتصبح أكثر جمالا ،وأناقة، وعشقا. فبعد حادثة السطح،يرتبط وليد بجميلة، ويعيشان علاقة حب وهيام لايعلمها أحد، إلى حين اليوم الذي يطرق الخطاب باب منزل جميلة. تفرح أمها ويسعد أبوها خصوصا وأن الزوج ثري،وأحضر هدايا كثيرة.
حاولت جميلة أن تفهم أمها أن الخاطب لايعجبها،وأنه كبير جدا في السن، ولديه أبناء وحفدة أكبر سنا من جميلة.كل ذلك لا يهم الأم ولا الأب، فلابد أن تتم الصفقة!
ويقام حفل الزواج، وتغادر جميلة في سفينة من الدموع بيت أهلها إلى بيت زوجها.
يا لمأساة جميلة! جميلة المسكينة! لا يكتب لها الفرح أبدا! فبالرغم من كل مجهوداتها لمنع الزواج تتزوج، والمفاجئة أن الزوج الذي كان طالبا، وراغبا في قربها والزواج منها، الليلة يضربها،ويقذفها، ويلعنها،واصفا إياها بالفاجرة،المتلاعبة بشرف الأبرياء…ماذا حدث؟ عن أي أبرياء يتحدث؟ وأين هو هذا الشرف؟ هل ذاك الذي اغتصب طفولتها فوق السطح؟ أم وليد الذي لم يتدخل لمنع زواجها، بالرغم من حبها لها!
أين هذا الشرف؟
تطرد جميلة من بيت زوجها ، ويتبعها في الشارع بالتشهير، والسب،وسط ويلات الجيران،وصيحاتهم،وهتافاتهم،الجميع يردد:” فاسدة، فاجرة…”وعند وصولها للبيت لا يدخلها والدها،ويخبرها بأنه لا يعرفها ويمنعها من العودة إلى هذا البيت!!!
أية قساوة أكثر من هذه!
تطرق باب وليد فيخرج والده مهددا إياها بعدم الإقتراب من إبنه. ولا باب واحد يفتح لجميلة! ما ذنب جميلة لتعاقب بهذه الوحشية؟ هل أذنبت؟ وأين ستعيش؟ ومع من؟
فعلا الشارع مأوى لمن لا بيت له،ويسهل الحصول على أصدقاء، وصديقات من نفس الواقع. تعلمت جميلة من صديقاتها أن لقمة العيش تشتريها ببيع جسدها !
وتستمر حياة جميلة ويصير لديها غرفة مع صديقتها،ورويدا رويدا تتعرف على عالم جديد: غول الشارع، ووحش الليل. تكسب المال الكثير ، وتخسره بسرعة البرق! جميلة اليوم لا تستطيع التوقف عن الإدمان! طيلة النهار تبحث عن المال لكي تشتري نشوتها التي لا تنقضي ولا تتوقف!
في أحد الأيام فوجئت جميلة بانتفاخ بطنها،فرافقتها صديقتها إلى الطبيب، ويا لصدمتها عندما علمت بأنها حامل! ما العمل؟ الإجهاض؟
جميلة حائرة ، للأمر الجديد، ولم تفكر فيه سابقا؟ لقد اضطهدت من غير بطن، فكيف سيكون حالها اليوم؟
أصبح من الصعب عليها ممارسة عملها الذي يدر عليها المال، كيف ستعيش ،كيف ستقضي ما تبقى من فترة الحمل، فصاحبة البيت لن تقبلها مع صديقتها إذا لم تؤدي المقابل!
من جديد تعود جميلة لتفترش الشارع، ببطن يزدادحجمه كل يوم ، وآلام مستمرة…وحوش الليل والظلام لا يرحموا جميلة الجميلة بالرغم من ظروفها!
ويصل يوم الوضع ! يغمى على جميلة من شدة الآلام ، ولا تستفق إلا وهي في المستشفى وطفلة صغيرة بيدها!!!
هل هي دهشة،فرحة ام هو خوف؟ شعور عبرت عنه جميلة بدموعها المنهارة وهي تحضن إبنتها.
إلى أين تذهب؟ عند من تتجه بطفلتها التي أحبتها من أول نظرة؟ ليس أمامها للأسف إلا الشارع مرة أخرى، ولكن هذه المرة تعد فراشين وليس واحدا، طفلتها ستكون معها في هذا الشارع!!!
وتمر الأيام، وتبلغ الطفلة السنة، وجميلة سعيدة بطفلتها التي عوضتها عن حنان الأم، والأب، ووليد…وكل الناس.
في صبيحة أحد الأيام، يستفيق سكان الحي حيث تعيش جميلة مذعورين على صراخ جميلة وصوتها المدوي، ” أين أنت يا طفلتي؟ من سرقك مني؟أين أخذوك؟…أعيدوا إلي طفلتي… وتبقى جميلة تدور بين الزقاق وبين الدروب،من شارع لآخر، منادية على طفلتها،سائلة المارة:”هل رأيتم طفلتي؟ ”
اليوم جميلة تجاوزت الخمسين، هزلت عضلاتها،شحب وجهها وعلته انتناءات وخطوط سوداء وبنية،وخدشات، وندوب سجلت تاريخ مآسي جميلة. جميلة “الجميلة”،بملابس رثة،موسخة،أصبحت تحضن دمية وتناديها باسم طفلتها.” انظروا ،انظروا، هاهي طفلتي، لقد عادت إلي.”
بالله عليكم، ارحموا جميلة المدينة، لاتزيدوا من مأساتها، فكم من جميلات في الشوارع، هل نعلم قصصهم؟
ذ. وفاء بن عبد القادر