لم تكن فاطمة “الطبوزة” التي تنتظرني بباب المدرسة لمرافقتي إلى البيت كل مساء على بينة بما يربطني من وشائج محبة برفيقتي نزهة، لكن الشكوك كانت تخامرها كلما رأتها تودعني بابتسامتها المعهودة المشعة من أعماق قلبها على صفحة وجهها مما كان يثيرغضبها وغيرتها إذ كانت تعتبرني رجلها الصغيروشريك حياتها الشبقية الذي تشفي به غليل شهوتها تقبيلا وعناقا واحتكاكا في ركن خفي بسرداب العمارة..
ومن شدة الغيرة المشتعلة في صدرها ـ الفائر بنهدين كفوهتي بركان ـ كانت تلقي حمم غضبها على رفيقتي الوديعة نزهة ..قاذفة إياها بأبشع الصفات والنعوت ،مما تتلاسنه النساء المتشاجرات في عتبات المنازل وبين جدران الحمامات.كلما توترت أعصابهن واحتدم الصراع بينهن.وكان لذلك السلوك المشين بالغ الأثرفي نفسية رفيقتي الرقيقة المشاعرالتي أجهشت بالبكاء وفارقتني للأبد ..ومنذ تلك الواقعة النكراء كرهت فاطمة “الطبوزة” الخرقاء واعتبرتها من طينة الأعداء الذين يفرقون بين الأحبة الأصدقاء.
ففاطمة “الطبوزة” التي لم تنل حظها من التعليم كانت شرسة الطباع تحقد على بنات المدارس وتفسد أجواء اللعب على بنات الجيران،وحين تجدني ألعب معهن “العشيشة” متقمصا دور “العريس” وإحداهن دور”العروسة” تشرع في بعثرة لعبهن من دمى وعرائس قصب..وكأنها مجنونة أوقطة مسعورة.
ولكي لاأثيرغضب فاطمة الشريرة وأعيش في اطمئنان أعرضت عن ملاعبة بنات الجيران وداومت اللعب مع الصبيان ..كانت ألعابنا بلاحدود ..نلعب بالطين والماء والحجر والقصب وأغصان الأشجار..كما نلعب بالخضروف “الطرمبة” والكريات الزجاحية”البولنتشي”وننصب الفخاخ لاصطياد الطيورونصنع سيوفا خشبية ونشابات مطاطية وعربات خشبية وألات موسيقية بأسلاك فراميل الدرجات الهوائية والعلب القصديرية..وكنا نلعب “سامسبوت” و”الغميضة” ولكل لعبة قواعدها وضوابط لعبها..كما كنا نتقمص أدواررعاة البقروغزوات الهنود الحمرمتأثرين بما شاهدناه من أفلام كانت تعرضها القوافل السينمائية بحمانا في الهواء الطلق ..
وكلما حطت القافلة السينمائية الرحال بقشلة جانكيرإلا وعمت فرحةعارمة بين الصغاروالكبار ـإناثا وذكوراـ وهرعوا بين فرادى ومثنى وجماعات نحو ساحة العرض حاملين معهم كراسيهم لاقتعدها أوبطاناتهم”هياضرهم”لافتراشها ..ولقد دأبت العادة في مثل هذه المناسبة أن لايختلط الرجال بالنساء اتقاء للشبهات..حيث يجلس النساء والفتيات والبنات باحتشام في الميمنة وفي الميسرة يقف ويجلس الأطفال والفتيان والرجال من مختلف الأعمار..وجميع الأبصارخاشعة صوب الشاشة في انتظاراشتعال الإنارة وانطلاق الإشارة التي يواكبها الصراخ والصفيروالتصفيق بحرارة.
من حسن حظي أنني كنت أتابع العروض السينمائية بمعية أفراد أسرتي وبعض أولاد وبنات الجيران من شرفة مطبخ شقتنا المطلة على الساحة المستقطبة لحشود من المتفرجين الوافدين من العمارات المتجاورة المتوارية..وحينما يسلط الضوء على الشاشة بمتتالية أعداد يزداد الهرج والمرج الذي سرعان مايخبو مع نشرة الأخبارالتي كان يلقيها بالتناوب الصديق معنينووأحمد بنددوش تحت إشراف وزارة الأنباء وفي نهاية النشرة يرتفع الصفيرالذي ينقطع حسه مع بداية الشريط السينمائي..
ومن الأفلام ماكان له بالغ الأثرفي نفوس المتفرجين والمتفرجات كفيلم”الصداقة”وفيلم “أمنا الأرض”وهما من الأفلام الهندية التي تدمي القلوب..ويجد المتفرجون متعة منقطعة النظيرفي أفلام رعاة البقروأفلام الرومان كفيلم “شمشون ودليلة”وفيلم”هرقل العظيم”ونحوهما..وينقلب الجمهور المتفرج بالضحك حد البكاء إبان مشاهدته أشرطة “شارلي شابلن”الصامتة السريعة الحركة.
كنا ونحن صغار ننتظر بشغف كبيرإطلالة القافلة السينمائية مترقبين إعلان أبواق عربتها عن عرض جديد بحينا..وكلما عنت لنا عن بعد أطلقنا سيقاننا للريح منتشين بفرحة “السوليما”مقتفين أثرعجلات القافلة وهي تطوف بقلب حينا ..مشتاقين لرؤية شاشة عرضها وآلة إنارتها وعلب أشرطتها.
محمد وطاش