تضمن الخطاب الملكي السامي لمناسبة عيد العرش المجيد، مفهوما جوهريا، جامعا وشاملا لأبعاد المبادئ العملية والقيم الإنسانية، ومؤسسا لتوليفة النجاح في تجاوز الصعوبات ورفع التحديات.
فقد تحدث جلالة الملك عن الجدية ليس باعتبارها شعارا فارغا، أو مجرد قيمة صورية، وإنما مطلبا مرحليا، تعقد عليه العديد من الرهانات، مؤكدا أنه “بعدما وصل مسارنا التنموي إلى درجة من التقدم والنضج، فإننا في حاجة إلى هذه الجدية، للارتقاء به إلى مرحلة جديدة، وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى، التي يستحقها المغاربة”.
وقد نبّه جلالته إلى الظرفية العالمية التي تتسم باهتزاز منظومة القيم والمرجعيات وتداخل العديد من الأزمات، معتبرا أن هذا الأمر يدعو إلى المزيد من التشبث بالجدية بمعناها المغربي الأصيل، الذي يجمع بين التمسك بالقيم الدينية والوطنية وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك، إلى جانب التشبت بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد، وصيانة الروابط الاجتماعية والعائلية في سبيل مجتمع متضامن ومتماسك، فضلا عن مواصلة مسارنا التنموي، من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية.
ودعا خطاب العرش المجيد، باعتباره خارطة طريق النجاح والفلاح إلى اعتماد الجدية كمذهب في الحياة والعمل، على أن تشمل جميع المجالات، سواء منها السياسية والإدارية والقضائية، من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة، أو على صعيد المجال الاجتماعي، وخاصة في قطاعات الصحة والتعليم والشغل والسكن.
ولن يتم جني ثمار الجدية إلا بانخراط الفاعلين الاقتصاديين، وتبن من قطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال، فهي منهج متكامل، تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص، وفق النظر الملكي السديد.
وفي تفاعل مع خطاب العرش المجيد، أكد إدريس العبادي، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، عين السبع، بالدار البيضاء، أن المملكة انكبت منذ بضع سنوات على العمل بجدية لتصبح واحدة من البلدان المؤثرة في العالم، وذلك بفضل استثماراتها البشرية والمادية في مشاريع واسعة النطاق وذات تأثير قوي على النمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وقال إنه في الوقت الذي دخل فيه المغرب منعطفا جديدا ضمن مساره التنموي، حدد خطاب العرش مسار عمل جديد يقوم على الجدية ونكران الذات والتفاني، لاسيما في ما يتعلق بالحكامة، مشيرا إلى أن هذه القيم المعروفة عن المغاربة ينبغي أن تسود في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أجل تحقيق تنمية دامجة ومستدامة.
وعلى صعيد مواز، قال الباحث متعدد الاختصاصات والمحلل الاقتصادي والمالي، خالد دومو، إن الخطاب الملكي، يبرز مدى العبقرية المغربية الموضوعة رهن إشارة المصالح العليا للمملكة، مؤكدا على أن صاحب الجلالة وضع رؤية شاملة لدولة وطنية تعددية، في تطور سريع على المستويات التنظيمية والرياضية والبشرية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والدبلوماسية والجيوسياسية.
وشدد الباحث على أن الخطاب الملكي يبرز المؤهلات والمواهب المغربية التي تتناغم مع أولوية المصالح العليا للأمة، وذلك في إطار حكامة جيدة “قائمة على الجدارة والعدالة والإنصاف”، وتربط بين مفهوم المسؤولية بالمساءلة الضرورية.
واعتبر الخبير السياسي محمد طوزي أن خطاب صاحب الجلالة يؤكد على الجدية كقيمة نموذجية مركزية، والتي تشير بشكل أساسي إلى قواعد العمل والصرامة والاحترام، مضيفا أن خطاب العرش هو دعوة للتمسك بالجدية كإطار مرجعي لعمل المجتمع المغربي.
وعن أهمية تطبيق هذا المفهوم في السياسات العامة، أشار الخبير السياسي إلى أن “المغرب لا يفتقر إلى الأفكار أو المشاريع أو الاستثمارات، لكن يجب أن نضمن التنفيذ والتتبع الصارم لهذه السياسات”.
وختاما، لا يسع القول إلا أن الجدية وإن كانت مفهوما متداولا واسع النطاق والاستعمال، فإن جعله محورا لخطبة ملكية موجِهة وتسخير مدلولاته وقوته في تأطير وتوجيه الأمة نحو المزيد من المكاسب والمنجزات، لا يمكن أن يصدر إلا من قائد عظيم متشبع بالحكمة والتبصر.