أجرى الحوار: د. أحمد رزيق ـ قاص وناقد
يمثل البشير الأزمي علامة سردية بارزة في الكتابة السردية الوطنية والعربية، لما راكمه من أعمال قصصية توزعت بين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.
ويعد البشير الأزمي كذلك صوتا سرديا أصيلا ومتفردا لمقدرته على أن يختط لنفسه نهجا خاصا مميزا في الكتابة السردية، تتحدد أبرز معالمه في ما يطبع نصوصه من عمق يؤجج في المتلقي رغبتي السؤال والتأويل، وفي الانغماس في اللحظة التاريخية للوطن بهمومها الاجتماعية والسياسية، وفي تشكيل خطاب سردي عالم يتأسس على مرجعية فكرية وفلسفية محددة.
ولعل في إجابات البشير الأزمي عن أسئلتنا ضمن هذا الحوار الذي أجريناه معه حول القصة القصيرة جدا ما يزكي بعض ما أشرنا إليه من ملامح تجربة الكاتب:
اختلفت تسميات وتعريفات القصة القصيرة جدا بين الكتاب والنقاد، فبم يعرف البشير الأزمي القصة القصيرة جدا؟
لما طرح هذا السؤال على أحد أبرز كتاب القصة القصيرة جدا والمنظرين لها في أمريكا اللاتينية وهو الأرجنتيني David Lagmanovich كانت إجابته دون تردد: “التسمية التي أفضلها هي القصة القصيرة جداMicrorrelato؛ لأنه، يبدو لي، أن الكلمتين المكونتين لهذه التسمية تحددان هذا الجنس الأدبي بوضوح: الطابع الشكلي للنص من جهة، وأبعاد النص نفسه من جهة أخرى”.
وقد عرفها البعض بإضافة عناصر حصر أخرى: كالوحدة المعنوية، والحكاية، والتكثيف، والمفارقة، والتعبير عن الأحداث..
ويسميها د. جميل حمداوي أحيانا قصص قصيرة جدا، وأخرى “أضمومة”، فهو يعنون الفصل الأول من كتاب “المقطع والمتخيل..” بـ”أنواع المقاطع السردية في القصة القصيرة جدا أضمومة تفاحة الغواية للطيب الوزاني أنموذجا، في حين نجد صاحب الكتاب سماها مجموعة قصص قصيرة جدا.
وهناك من سماها مجموعة قصصية، أو قصص، أو قصيصات، أو أضمومة، أو قصص مينيمالية أومضات، أو أنفاس قصصية أو كبسولات أو شذرات قصصية أو قصص كسيرة جدا، أو قص، أو نصوص سردية، أو القصة اللقطة، والقصة البرقية، والخاطرة القصصية أو غيرها من التسميات؛ إلا أن الملاحظ أن أغلب المبدعين والنقاد يميلون إلى الأخذ بـ”القصة القصيرة جدا”.
إن هذا الاختلاف حول التسمية، لدى المبدعين والنقاد، يراه البعض غير ذي جدوى، خاصة أنها، أعني القصة القصيرة جدا أضحت اليوم شاخصة وجلية ولها أتباع ومريدون.
وأرى أن تسميتها بـ “القصة القصيرة جدا” هو الأنسب بالنسبة لي طبعا؛ ذلك أن الغالبية من الإصدارات وسمته بهذا الاسم. فأصبحت معروفة به، كما أصبح متداولا بشكل لافت وأكثر من غيرها من التسميات.
وكما اختلف النقاد والدارسون عند التسمية والتعريف، فإن كتابها اختلفوا، بدورهم، في الحجم الذي يلزم أن تكون عليه؛ فقد نجد نصوصا يتراوح حجمها ما بين سطر واحد وصفحة أو ما يزيد عن ذلك بقليل، سواء في الإنتاجات العالمية، وخاصة أمريكا اللاتينية، أو الإنتاجات العربية.
فنص “الديناصور” للغواتيمالي Augusto Monterroso، ونص “الحقيقة” للأرجنتيني ماركو دينيبي، “أو نص”Passion esdrújula”، للأرجنتينية Luisa Valenzuela، ونص “خروق أدبية” للأرجنتينية Ana Maria Shua، تعد هذه النصوص من بين أقصر النصوص القصصية التي كتبت، إذ يتراوح حجمها ما بين جملة واحدة وثلاثة أسطر.
وفي المدونة المغربية نجد بعض الأمثلة على قصر حجم النص عند بعض المبدعين. أذكر منهم، على سبيل المثال، المصطفى كليتي في نص “ذوبان” من مجموعته “فقط”، ومصطفى لغتيري في نص “السكوت من ذهب” من مجموعته “تسونامي”، وعبد السلام بوزمور في نص “انكسار” من مجموعته “جراب الخيبات”، وحسن اليملاحي في نص”أذن فان خوخ” من مجموعة “مرايا صغيرة” وعبد الرحيم التدلاوي في نص “محاولة انتحار” من كتابه “طنين الشك”، وزكية الحداد في نص “خيانة” من مجموعة “انكسار السراب، وعبد الحميد الغرباوي في نص ” فقر” من مجموعته “قال لي ومضى”.
لكن قد نجد بعض الكتاب من أمريكا اللاتينية، التي تعد بحق مهد الكتابة في جنس القصة القصيرة جدا، كتبوا نصوصا اعتبرها النقاد من جنس القصة القصيرة جدا، حتى وإن شغلت مساحة ورقية أكبر وصلت في بعض الأحيان إلى صفحة أو أكثر من ذلك بقليل، كنص “Libros”، ” كتب” للفينزويلي ” Luis Britto Garcia”، أو ” El escriba feliz”، “الكاتب السعيد” للأرجنتيني Marco Denevi، أو ” Defecto de fabrica”، “خلل في الصنع” للفينزويلي Leon Fabres Cordero، و “Album familiar”، “صورة عائلية” للفينزويلي Endodio Quintero، أو نص”Manco”، ” أقطع” للأرجنتيني Favian Vique.
وقد نجد نصوصا أخرى مخالفة للمثالين الشهيرين؛ أقصد القصيرة جدا والطويلة نسبيا، وهي نصوص عبارة عن جمل مستقلة كل جملة تشغل سطرا مستقلا مسبوقا بعلامة ترقيم 1.. 2.. 3… كنص “Los diez Mandamientos del escritor”، “عشر وصايا للكاتب” للأروغوايي Fernando Ainsa، أو حروف الأبجدية أ – ب- ج.. كنص ” فرانز كافكا” للمكسيكي René Aviles Fabila .
لكن تقييد الوصف بـ”جدا” قابل للنقاش، ورأى البعض أنه غير دقيق؛ لأنه يدعونا إلى التساؤل عن المساحة الطبوغرافية التي سيشغلها، أهي سطر، فقرة، صفحة، أكثر أو أقل.. ذلك أن هناك من يعتبر القيد (جدا) توصيفا معياريا وخارجيا يهمل عناصر أخرى مهمة جدا تميز هذا الشكل التعبيري عن غيره من الأشكال.
فنص “الديناصور” للغواتيمالي Augusto Monterroso يتشكل من ست كلمات وحروف، وهو الذي كتب نصا آخر هو نص “الخسوف” “El eclipse” ويقع في صفحة ونصف الصفحة من القطع المتوسط، ونص “كتب” للمكسيكي ” Luis Britto جاء في صفحة كاملة في نسخته الأصلية؛ الإسبانية. ونصا “الكاتب السعيد” El Escrivá feliz للأرجنتيني Marco Denevi بدوره شغل مساحة ورقية تزيد عن الصفحة.
ما الذي أضافته القصة القصيرة جدا للأخبار والحكايات والطرائف والشذرات والأكاذيب والمنامات والمقامات في التراث العربي والإنساني؟
الحديث عما أضافته القصة القصيرة جدا للأخبار والحكايات والطرائف والمقامات وغيرها يقتضي، أولا، تعريف وتحديد هذه الأشكال أو على الأقل بعضا منها، ثم الوقوف عند نقط الائتلاف و/ أو الاختلاف بينها وبين القصة القصيرة جدا ثانيا.
جاء في لسان العرب: الخبر، بالتحريك: واحد الأخبار. والخبر: ما أتاك من نبإ عمن تستخبر. والجمع أخبار، وأخابير جمع الجمع. واستخبره: سأله عن الخبر وطلب أن يخبره؛ ويقال: تخبرت الخبر واستخبرته.
الخبر مرتبط بالحكي، وهو أن تسوق حديثا عن واقعة أو وقائع تحكي عنها، وتفصل فيها وتعلق عليها. والقصة القصيرة جدا مرتبطة، هي أيضا، بالحكي إلا أن الحكي هنا حكي مقتضب، غير مسهب فيه، يستند على الدقة و”البخل القولي”، معوضا الإسهاب والتفاصيل بالتلميح والرمز، وعدم التركيز على المضامين كرهان أساسي، مع الاحتفاء بالمضمون في إيحاء واختزال وعلاقات نفسية وانفعالية وليس كإسهاب وتفصيل، كما نجده على سبيل المثال في أخبار ابن دريد، كما أوردها صاحب كتاب النثر الفني في القرن الرابع الهجري.
والمقامة كالقصة القصيرة جدا تتضمن عنصر السردية، وقفلة فنية، وموضوعا واحدا؛ إلا أن القصة في المقامة ليست هي الأساس، بل هي وسيلة لإبراز غلبة اللفظ على المعنى. وتوظف المقامة، أيضا، السخرية أو الأسلوب الساخر.
ونص المقامة موشى ببلاغة أدبية واضحة؛ وذلك باستخدام أساليب لغوية مميزة، من محسنات كالطباق، والجناس، والتقيد بالسجع. وفي الغالب تكون معظم الأفكار التي تبنى عليها ترتبط بألفاظ غريبة، وغير مألوفة، إضافة إلى أنها توظف فيها حكم، ومواعظ بغية تسليط الضوء على قضية معينة أو ظاهرة معينة.
إن وجود عناصر مشتركة بين القصة القصيرة جدا والحكاية والطرفة والمقامة وغيرها من الأشكال السردية لا يحرمها من استقلاليتها؛ ذلك أن هذه الأجناس تتوالد من بعضها.
إن القصة القصيرة جدا انطلاقا من هذا لا يمكن فصلها عن أشكال أخرى كالقصة والأقصوصة والأخبار والمثل والمقامة فهي من هذه الجهة مرنة؛ لأننا نجد في جميعها الحكاية، إلا أننا نجد القصة القصيرة جدا تحتفظ باستقلالية ذاتية، وبالمحافظة على خصوصيات فنية لا تتوفر عند باقي الأشكال التعبيرية السردية الأخرى، فهي تنماز عنها، مثلا، بالتكثيف والاختزال بما هو ضروري. في الوقت نفسه تحتفظ باستقلالية ذاتية، وبالمحافظة على خصوصيات فنية لا تتوفر عند باقي الأشكال التعبيرية السردية الأخرى.
ألا يلاحظ معي البشير الأزمي أن هناك استسهالا كبيرا في كتابة القصة القصيرة جدا؟
عندما نقرأ لكتاب القصة القصيرة جدا، ورقيا وبمواقع إلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، يمكننا القول لدينا مبدعون بصموا القصة القصيرة جدا بأسمائهم وأبدعوا فيها بشكل لافت؛ كمصطفى لغتيري وعبد الله المتقي وحسن برطال وإسماعيل البويحياوي وجمال الدين الخضيري، والسعدية باحدة وغيرهم. لكن في المقابل نجد أن الكثيرين يستسهلونها، لكن يجب عدم مصادرة مشروعية وأحقية أي قاص عندما يكتب القصة القصيرة جدا. ليكتب كل من شاء ذلك، فالكتابة ليست قصرا على أحد، ولا يحق لأي كان أن يحجر على آخر؛ فالنصوص المنتجة، في النهاية، هي الوحيدة الكفيلة بجعل هذا الشكل أن يصبح أولا نصا وثانيا أدبيا، وثالثا تمثيلا لهذا الجنس أو ذاك. لكن على القاص أن يكون واعيا ومدركا لأبجديات كتابة هذا الجنس التعبيري الجميل والمشاكس في آن، ولآليات وعناصر السرد التي توظف فيه؛ كالتكثيف، والمفارقة، والتجريب وغيرها كثير، وأن لا تقتصر، كما يذهب البعض، على الاختزال والدقة والوضوح والمفارقة والحجم. فالحجم، مثلا، ليس وحده الذي يعطي القيمة للقصة القصيرة جدا كما يرى البعض، فهو عتبة من عتباتها.
وعلى النقاد المشتغلين على القصة القصيرة جدا أن يكونوا موضوعيين وهم يقرؤون هذه النصوص، بعيدين عن النقد الإخواني والمجاملات التي بدل أن تقوّم وتوجه تجعل بعض الكتّاب يسقطون في وهم الإبداع ويستسهلون الكتابة فتكون، نتيجة لذلك، فوضى إبداعية، إن جاز لنا وصفها إبداعا.



















