جديد الإصدارات:
«التّْخْنِيشَهْ»
السيرة الذاتية
لصاحب كتاب (الأنصاص القرآنية)
بقلم: ذ. عبد الرحيم الوهابي
تفضل البحاثة المقتدر المتخصص في الدراسات القرآنية الدكتور عبدالعزير العيادي العروسي ـ مشكوراـ ، بإهدائي نسخة ممهورة بخطه من إصداره الجديد: (التخنيشة)، وهذا الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية موسعة، حافلة بالإفادات القيمة عن أدبيات التعلم والتحصيل التي كانت سائدة في قرى وبوادي منطقة شمال المغرب، واستعراض وافي لمساره قي درب التعلم والدراسة النظامية واسترجاع لذكرياته في مضمار التربية والتعليم الذي قصى فيه عقودا من الزمن، وفي المهام الوظيفية التي شغلها، أو أثناء عضويته في المجلس العلمي بطنجة.
وقد نسق هذا الكتاب وأعده للنشر الصديق الفاضل ذو الصيت المحمود د.محمد ححود التمسماني.
و(التَّخْنِيشَهْ) مصطلح قديم في شمال المغرب، والمقصود به رحلة الطالب، من أجل حفظ القرآن ودراسة العلم الشّرعيّ، خارج قريته، فيرحل بحثا عن فقهاء ومحفّظين أكفاء لحفظ القرآن الكريم على أيديهم، وللتخصص في (الحطّيّات) و(الوزنيات) و(الأنصاص)، كما يبحث عن علماء أجلاء لأخذ العلم عنهم. ويسمى صاحب الرّحلة عندنا في بوادي شمال المغرب بـ(الْمُخَنش)، وفي الجنوب يسمّى عندهم بـ(الْمُسَافرِي).
وكلما ابتعد الطالب عن سكن العائلة وقريته من أجل الطلب ازداد قدرًا كبيرًا في أعين أسرته وقبيلته، وأما إذا لم يخنش فلا قيمة له عندهم.
وسبب تسمية هذه الرّحلة العلمية بـ(التَّخْنِيشَة) أن صاحبها كان يحمل على ظهره (خَنْشَة) تحتوي على جميع مستلزماته مدة رحلته من الملابس والأغطية والأكل واللوح والأقلام والصمغ وغير ذلك.
وتوسع صاحب السيرة في مصطلح التخنيشة فأطلقها على كلّ رحلة ومرحلة من تلقيه العلم.
ولد صاحب السيرة الدكتور عبد العزيز العيادي العروسي في أسرة ذات نسب شريف وأفرادها من القراء والمدررين، بقبيلة بني عروس ذات التاريخ الحافل، وقاعدتها جبل العلم حيث الحرم المشيشي وضريح الجد الأعلى القطب الرباني الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش. عاش ميسور الحال مقارنة مع أوضاع أقرانه إذ كان والده مشارطا ثم وكيلا للخصام ثم عدلا.
في (المعمرة):
يعطينا الكتاب نظرة شاملة ودقيقة عن فترة (الكُتّاب) ومراحل التلقي الأولى للـ(محضري) في (المسيد) والأدوات المستعملة وأسماءها المحلية و”طقوس” التلقي والاحتفالات المقترنة بالتحصيل الجزئي إلى الختمة (من الطاجين إلى البقرة الكبيرة). مرحلة تدور عجلتها بتناغمية وانسيابية دون عطل أو تعثر على مدار الأيام والأسابيع والشهور. فطرق ومراحل التلقي وتدبير وتوظيف الزمن تنبئ عن عبقرية بيداغوجية، لم يحتج فيها المدررون لا إلى جان بياجيه ونظرياته ولا إلى غيره من منظري علوم التربية.
وبعد حفظ القرآن والمتون تأتي مرحلة قراءة الأوراق أي الكتب المعتمدة وشروح تلك المتون، يُدرّس كل علم في وقت معلوم من اليوم أو السنة. فيبدأ التنقل بين المداشر والقرى والقبائل وتأمين السكن “خربيشا” والمأكل “المعروف”.
وختم مترجمنا الدكتور العيادي حفظ متن ألفية ابن مالك ونصف العصمية والفرائض وعمره لم يتجاوز الخامسة عشر.. وقد أورد المؤلف في سيرته أسماء لامعة لعلماء من بادية الشمال ممن نُسي أمرهم الآن وطوي اسمهم، على عكس علماء الحاضرة إذ تنبه تلامذتهم فحفظوا ذكرهم بالترجمة لهم والتعريف بهم. كما حفلت السيرة بحوادث تاريخية وإشارات اجتماعية مهمة في القبيلة في النصف الأول من القرن العشرين.
كما أن معجم المصطلحات المحلية المستعملة بقبائل جبالة الخاصة بالتعلم والتعليم خصب وغني. وأتمنى خالصا من الدكتور العيادي أن يفرد له تأليفا خاصا، فلا غنى للباحث عنه ولامناص له منه، خصوصا بعد أن كادت تندثر تلك المصطلحات وتؤول إلى الضياع بعد تعميم التعليم العصري. ولعل هيكلة التعليم العتيق ساهمت في انطلاقة جديدة حفظت كذلك كتب التراث التي ربما لم تكن لتبقى شائعة، ولاقتصر تداولها على شريحة جد ضيقة.
الانتقال من التعليم العتيق إلى العصري:
أفصح مترجمنا لوالده عن رغبته في الالتحاق بالمدرسة العصرية، وجوبه بالرفض غير مرة. وكان عليه أن يواجه نظرة المحيط وقتئذ لـ (السكويلة): المدرسة، على أنها رجس من عمل الشيطان وأن من التحق بها فقد تنصر حقيقة. ومع إصراره المستميت وافق والده على الانتقال إلى المدرسة العصرية. وكانت تدرّس فيها اللغتين العربية والإسبانية والعلوم العصرية والمواد العلمية، والفرق شاسع بين أجواء وطرق التدريس، وحيث المأوى والمأكل أيضا. فانتقل إلى مركز القبيلة (خميس بني عروس)، ثم إلى العرائش فتطوان.
ويمتلك مترجمنا ذاكرة قوية يستحضر أسماء المعلمين والأساتذة والإداريين وزملاءه في الأقسام. وكان من عادة أهل الطلب – لتسهيل الاستيعاب- اللجوء لحفظ المنظومات، وقام مترجمنا بوضع معجم إسباني عربي على شكل منظومة طويلة، مفتتحها:
وهاكا يا طالبا ** إذا كنت راغبا
تفهم لغة الإسبان ** ولا تبقى في جهالة
فأبي هو (بَادْري) ** وأمي هي (مَادْري)
(أبْويلُو) جدي فادري ** و(تِيُو) هو الخالَ.
وبعد حصوله على الباكالوريا (1961) التحق صاحب السيرة بثانوية (البيلار) بتطوان لدراسة السنة التوجيهية، وتكون قبل الجامعة، وذلك بمنحة مغربية. وكان أساتذة المعهد كلهم آباء يسوعيين، يفتتحون حصصهم بالصلاة المسيحية، ويجبرون الطلبة من غير ملّتهم على تلاوتها، فاتفق المغاربة على الوقوف وقراءة سورة الإخلاص جهرا، فأخبروا بعدها بأنهم معفوون من تلك الصلاة.
وإثرها نال منحة مع ثلاثة من رفقائه من الطلبة لاستكمال الدراسة بالجامعة الأمريكية ببيروت، مع توفير أستاذ لتعليمهم الإنجليزية قبل التحاقهم. غير أن ظروفا سياسية طارئة اضطرتهم للعودة لبلدهم. ولج بعدها مترجمنا المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، ليلتحق بعد فترة وجيزة من تخرجه بمدينة طنجة أستاذا للرياضيات، وكان تلامذته في سنه أو أكبر منه قليلا، وخلق معهم انسجاما مثاليا. وكان يحثهم على تعلم اللغات ويوجههم للمطالعة بالمكتبة الأمريكية بطنجة، فاقترح مديرها اسمه في قائمة المستفيدين من رحلة إلى الولايات المتحدة دامت شهرين.
من اللوغاريتم إلى (يوصكم الله في أولادكم):
وفي إحدى العطل المدرسية زار د.العيادى والده بقريته وطلب منه هذا الأخير افتتاح السلكة معه، فلم يستطع مسايرته في الحفظ، خصوصا وأنه مرت عشرون سنة على مغادرته الكتّاب، فحز الأمر في نفسه خصوصا بعد تقريع والده له. فحال عودته التحق لكلية أصول الدين، وداوم على الحزب الراتب فجرا ومغربا يوميا بالزاوية العيساوية بطنجة حتى استرجع القرآن الكريم غضا طريا.
وبعد الحصول على الإجازة، تسجل بدار الحديث الحسنية، وحصل منها على دبلوم الدراسات العليا بدرجة حسن جدا في علوم القرآن، وكان موضوع الرسالة: (الأنصاص القرآنية المتداولة في حفظ القرآن الكريم وتعليمه – رواية ورش). ومن أساتذته وشيوخه في دار الحديث: فاروق النبهان، رشدي فكار، إبراهيم بن الصديق، حسن وكاك، نوري معمر، محمد المنوني، عبد الله الداودي وغيرهم.
ثم التحق بسلك الدكتوراه بكلية الآداب بتطوان بإشراف مشترك بين د.عبد السلام شقور و د.التهامي الراجي. وكان موضوع أطروحته (الهمزة في القراءات القرآنية من خلال مؤلفات الغرب الإسلامي)، وفي تلك الأثناء قام بتدريس مادة (القراءات وعلاقتها باللغة العربية والتفسير) بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية تطوان لمدة خمس سنوات.
انغمس الدكتور العيادي بعد تقاعده – من مهامه التربوية (سنة 2002م)- في التأليف وإحياء تراث الأنصاص القرآنية وتوثيقه. وأنجز في الموضوع ما يزيد عن 12 مؤلفا بطبعات عديدة. وأصبح الرجل اليوم مرجعا يرجع إليه في هذا الأمر.
وترأس عدة لجان تحكيم وساهم في إصلاح التعليم العتيق، وكان عضوا في لجنة المناهج ومفتشا به. وشارك ندوات علمية وقام بزيارات تأطيرية عديدة، بما فيها التي تهض بها خارج الوطن كالجزائر وموريتانيا وبوركينا فاسو والجامعة الإسلامية بتايلاند.
وماذا عسى المرء يقول عن سيرة محمودة، ومسيرة حافلة بالإنجازات، وعطاء متميز. لقد أدى ما عليه، لا يرجو -غير ربه- جزاءا ولا شكورا. جعل الله ما قدمه من علم نافع في ميزان حسناته وسجل مكرماته، وتقبل منه ونفع به، وبارك في صحته وولده.
وقد صدر هذا الكتاب عن دار السليكي أخوين. يطنجة. ط1. (1444هـ/2023م)، ويقع في 567 صفحة من القطع المتوسط.