الأستاذ محمد الخراز
اقترح المغرب منح الصحراء المغربية المتنازع عليها حكما ذاتيا تحت سيادته، وهو الحل الوحيد لانهاء النزاع القائم منذ سنة 1975 مع جبهة البوليساريو التي تتمسك باستقلال الاقليم بدعم ومساندة الجارة الشرقية الجزائر.
وقد سبق للمغرب أن عرض مبادرته للتفاوض بشأن نظام الحكم الذاتي للصحراء في أبريل 2007 استجابة لدعوة مجلس الأمن الدولي لدى الأمم المتحدة التي تتولى النظر في هذا النزاع بغرض التوصل الى حل سياسي نهائي بين طرفي النزاع.
وقد شكلت هذه المبادرة رغبة حقيقية من جانب المغرب في وضع حد للنزاع المفتعل حول الصحراء، وقد لاقت ترحيبا من قبل العديد من الجهات الدولية والاقليمية التي رأت في هذه المبادرة حلا جريئا ومنطقيا لنزع فتيل الأزمة .
يستند الحكم الذاتي على مجموعة من الأسس والقواعد التي سترسم ملامحه ويتجلى ذلك على جميع المستويات، فعلى المستوى الاداري أن يمارس سكان الصحراء الادارة المحلية والأمن المحلي والقضاء عن طريق محاكم الجهة، أما على المستوى الاقتصادي فيقترح أن يختص السكان بكل ما يحقق التنمية الاقتصادية والتخطيط الجهوي مع التشجيع على الاستثمار في كل الميادين التجارية والصناعية والسياحية والفلاحية، والتدبير المتعلق بالبنية التحتية من ماء ومنشات مائية وكهرباء وأشغال عمومية من تجهيز ونقل، وعلى المستوى الاجتماعي فالحكم الذاتي يقترح أن يتم منح سكان الصحراء المغربية اختصاصات موسعة في مجال السكن والتربية والصحة والتشغيل والرياضة والضمان الاجتماعي، والرعاية الاجتماعية والتنمية الثقافية.
من أجل تحقيق هذه الأهداف ينبغي تمكين سكان الصحراء من موارد جد مهمة، وتتمثل في الضرائب والرسوم والمواد المتحصلة من استغلا ل الموارد الطبيعية في الاقليم، بالإضافة الى الموارد المخصصة للجهة في اطار التضامن الوطني وعائدات ممتلكاتها.
ولترسيخ كل هذه الأسس في اطار الحكم الذاتي، فقد اقترح أن يتم احداث برلمان على مستوى جهة الصحراء يتكون من أعضاء منتخبين من طرف مختلف القبائل الصحراوية و أعضاء منتخبين بالاقتراع العام المباشر من طرف مجموعة السكان، أما السلطة التنفيذية فتمارس من طرف رئيس الحكومة ينتخبه برلمان الحكم الذاتي للجهة و ينصبه الملك، و يكون هو الممثل للدولة المغربية في الصحراء والمسؤول أمام البرلمان.
وفي اطار الحكم الذاتي المقترح فان المحكمة العليا الجهوية للصحراء هي التي لها حق النظر انتهائيا في تأويل قوانين الجهة دون أن تخل بالاختصاصات المخولة للمجلس الأعلى والمجلس الدستوري للمملكة المغربية، وعلى مستوى الحقوق، فقد أقر الحكم الذاتي للصحراء على أن سكان الجهة يتمتعون بكل الضمانات التي يكفلها دستور المملكة في مجال حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا.
في مقابل ذلك فقد التزم المغرب على أن يقوم بمراجعة دستوره، وادراج نظام الحكم الذاتي ضمن فصوله، واصدار عفو شامل عن كل من صدرت في حقهم أحكام لها علاقة بموضوع الصراع المفتعل في الصحراء، وقد احتفظت الدولة المغربية باختصاصات حصرية تتعلق بالسيادة، كالنشيد الوطني والعملة، وممارسة الملك اختصاصاته الدينية والدستورية ، و يكون للدولة مندوبا يزاول مهامه المتعلقة باختصاصاتها الحصرية في جهة الحكم الذاتي للصحراء.
و تجدر الاشارة في هذا الصدد أن هذه المبادرة جاءت تلبية لنداء مجلس الأمن الذي ما فتئ أن يدعو منذ سنة 2004 الأطراف ودول المنطقة الى مواصلة تعاونها التام مع الأمم المتحدة، لوضع حد لهذا الصراع المزمن، وشكلت المبادرة تعبيرا من طرف المغرب على استعداده للانخراط بكل عزم في مفاوضات جدية ومعمقة مع الأطراف الأخرى و ذلك من أجل المساهمة الفعلية في ايجاد حل سياسي نهائي مقبول لجميع الأطراف.
وتعد هذه المبادرة كذلك تعبيرا حرا وديموقراطيا عصريا بشأن الحكم الذاتي ومطابقته للشرعية الدولية، تستوعب كل القواعد والمعايير الدولية المعمول بها في مجال الحكم الذاتي، فضلا عن كونها تكفل احترام حقوق الانسان وتعزيزها ، مع الدعوة لاغتنام امكانية التحلي بالسلم للخروج من المأزق الذي تورطت فيه المنطقة ودعاة الانفصال.
وقد تبلور حول مبادرة الحكم الذاتي ترحيب دولي أكد وجاهتها ومصداقيتها، و يتجلى ذلك في مختلف القرارات الأممية منذ أن بادر المغرب بطرحها أمام المنتظم الدولي، الذي تكونت له قناعة على المستوى الجيوسياسي بفشل اقامة دويلة هشة في الصحراء، من شأنها أن تؤدي الى تلغيم المنطقة والى تقويض الأمن والاستقرار فيها، ولعل واقع منطقة الساحل و الصحراء يكشف عن المأزق الذي تعيشه القوى الكبرى بسبب تحدي الجماعات المتطرفة في المنطقة.
هذه القناعة التي أبداها المنتظم الدولي ازدادت ترسخا بتزايد التأييد الدولي لوجاهة مقترح الحكم الذاتي، وقد تقوى بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وتجديد ادارة جو بايدن لهذا الاعتراف، الأمر الذي أنهى ما تبقى من امال الجبهة الانفصالية و من يساندها.
ان ما دعم واقعية مقترح الحكم الذاتي، هو ما انفرد به الدستور المغربي حول الجهوية التي نص عليها عززت بصدور قرارات تنظيمية متعلقة بها، حيث جاء دستور 2011 ليؤسس هذا التصور و يضع قواعد دستورية لتأطير هذه الجهوية حسب مقتضيات الفصل الأول، حيث اعتبر أن التنظيم الترابي للملكة هو تنظيم مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة، كما نص الفصل 136 من الدستور على أن ” التنظيم الجهوي و الترابي للملكة يرتكز على مبادئ التدبير الحر، و على التعاون و التضامن، و يؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة”، أما الفصل 137 من نفس الدستور فينص على :” أن الجهات و الجماعات الترابية الأخرى تساهم في تفعيل السياسة العامة للدولة وفي اعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين”.
وعليه فالجهوية تندرج في اطار السياسات العمومية للمغرب كالية لتفعيل الديموقراطية المحلية على المستوى الوطني من خلال ترك الحرية في الاختيارات ووضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للسكان المحليين حسب كل جهة يديرونها في اطار قدراتهم ومواردهم الذاتية في وحدة من التضامن والتكامل بين باقي الجهات.
هكذا أصبحت المقاربة التنموية الجديدة تفرض التحول من تنظيم اداري مبني على البيروقراطية والمركزية المفرطة أو المتشددة الى نظام يتأسس على الحكامة الجيدة و المقاربة الترابية وتدعيم سياسة القرب، أي نظام اداري يشبه الى حد ما الأنظمة المطبقة في الدول الجهوية كاسبانيا و ايطاليا.
بالرجوع الى الخطاب الملكي السامي بتاريخ 20 غشت 2010 و قد عبر فيه بان تكون الجهوية تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية، أن اطلاق ورش الجهوية المتقدمة توطيدا للحكامة الترابية الجيدة والتنمية المندمجة..، وجاء في الخطاب الملكي بتاريخ 3 يناير 2010 حول تنصيب اللجنة الاستشارية الجهوية ليبين التوجهات والمرتكزات الأساسية للجهوية، وتتجلى في التشبث بمقدسات الأمة و ثوابتها في وحدة الدولة والوطن والتراب.
فالجهوية ينبغي أن تكون تأكيدا ديموقراطيا للتميز المغربي الغني بتنوع روافده الثقافية و المجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة، كما يجب أن تقوم على الالتزام بالتضامن، اذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات، ويجب أن تعتمد على التناسق و التوازن في الصلاحيات والامكانات، وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين الجماعات المحلية والسلطات، وانتهاج سياسة اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجعة قائمة على التنسيق والتفاعل.
هكذا أكد الخطاب الملكي خلال تنصيبه اللجنة الجهوية الاستشارية لبلوغ أهداف جوهرية أهمها وجود جهات قوية ذات مجالس وأجهزة تنفيذية وليست صورية، على رأسها لجن مؤهلة و مؤطرة قادرة على حسن تدبير شؤون الجهات المشرفة عليها والاستجابة لتطلعات المواطنين وحاجياتهم التنموية.
لتكريس الجهوية يتعين على الدولة منح الجهات مزيدا من الحرية والاستقلال الاداري و المالي وتعزيز مواردها المالية والبشرية، والتخفيف من حدة الوصاية والرقابة و تعويضها بنظام المواكبة الادارية ونظام الرقابة القضائية والمالية البعدية، واصلاح النظام المركزي الاداري وجعله يعمل بشكل يخدم الجهوية وينسجم مع التوجه المعد لخدماتها و نقل الموارد المالية والبشرية لفائدة المصالح الادارية الجهوية، وتكريس المبدأ ” لا جهوية في ظل التركيز الاداري”، بحيث يجب أن يصبح عدم التركيز هو القاعدة الأساسية في توزيع المهام بين المصالح الادارية التابعة للدولة مما يسمح بتفعيل الحكامة الترابية.
لكي تتأسس الجهوية على قواعد متينة، يتعين على الادارة المركزية وأصحاب القرار أن يتخلوا أن أسلوب التحكم والتدخل والمراقبة، وعليهم أن يتحلوا بنهج الأسلوب الديموقراطي والحوار والتدبير التشاركي والتشاور والتواصل مع كل المصالح الجهوية، واحداث مراكز للتكوين المعرفي للنخب المحلية مع التنصيص على شرط توفر الأهلية العلمية، لأنه لا يعقل بناء الجهوية بنخب أمية أو تتوفر على شهادة معرفية لا تؤهلها لتدبير الشأن الجهوي.
من هذا المنطلق و تطبيقا للمبادئ الدستورية للأمة المغربية، دأب المغرب على تقديم دعم قوي وصادق للمجهودات المبذولة من طرف الأمم المتحدة من أجل التوصل الى حل نهائي لقضية الصحراء المغربية، مؤكدا أن خيار دولة صحراوية مستقلة خيار غير واقعي لتسوية النزاع، وأن الحل الوحيد الواجب اتخاذه على مستوى الاقليم والمنتظم الدولي هوالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.