محاضرة رئيس المجلس العلمي المحلي بإقليم الفحص أنجرة في المهرجان السنوي العنصرة المتوسط ..الدورة الثامنة
جريدة طنجة ( مهرجان السنوي العنصرة المتوسط )
الثلاثاء 25 يوليوز 2017 – 13:16:27
لحظات اعادت لذاكرة القارة السمراء صورا ناصعة لأمجاد عريقة، وركزت انظار المتتبعين من القارات الخمس على الدور المحوري الذي ما فتئ المغرب يضطلع به في توحيد جهود دول القارة لتحقيق النهضة الشاملة المنشودة والمبتغاة.
وفي كل زيارة يقوم بها جلالة الملك الى افريقيا، يتم استقباله كقائد جديد يحمل امال شعبها وحلمها بمستقبل واعد، ويتقدمهم للدفاع عن مصالحهم قائد. وثقت فيه شعوب افريقيا وقاداتها، وابان عن انشغاله بهموم تنمية القارة من خلال زيارته لمدنها ولقراها ولأدغالها.
ومن ثم فان الخطاب الذي القاه جلالة الملك بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء من مدينة دكار عاصمة السنيغال، يحمل في شقه الأول سابقة تاريخية لملوك المغرب، وفي شقه الثاني أن الخطاب انطلاقا من السنيغال ليس مدعاة للتعجب، بل هو أمر طبيعي نظرا لمواقف السنيغال التاريخية في مساندته لقضايا المغرب العادلة، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية.
ومواكبة لهذا المسار التنموي الهائل وشعورا منا بضرورة تسجيل هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ افريقيا المعاصرة سأخصص كلامي عن افريقيا المسلمة وجودها التاريخي ودورها الحضاري وتعلقها بالسلام.
و قد تكلم السيد المحاضر على ان القار الافريقية تعتبر من أكبر القارات الخمس من حيث المساحة، وسكانها من أطيب الناس أخلاقا وأحسنهم أرومة، كما يعتبر موقعها الجغرافي من أحسن المواقع الاستراتيجية وأمنعها حمى.
وإذا كانت الظروف القاسية التي مرت بها جعلت الغربيين خاصة يصفونها ببعض الصفات المغرضة، حيث كانوا يعبرون عن الأمكنة المجهولة بانها مثل مجاهل افريقية، فان العرب والمسلمين بالعكس من ذلك، اتصلوا بها من قديم، وعرفوا عنها الكثير ولاقت اهتمامهم وعنايتهم وحبهم ما لاقته بلادهم نفسها.
والقارة الافريقية انجبت كثيرا من المفكرين والمصلحين والقادة المحنكين. لقد كانت القوافل تذهب اليها وتعود منها سواء من البلاد المغربية او عن طريق صعيد مصر منذ قرون خلت فكانت متصلة بتلك الأقطار المجاورة لها بسبب تلك القوافل التجارية التي كانت تحمل اليها السلع المختلفة، وتعود بريش النعم والعاج والذهب.
والأفارقة اتصلوا بالإسلام منذ زمن بعيد، و تقوت عرى الاخوة بينهم و بين إخوانهم العرب المسلمين منذ القرن السابع و الثامن الميلاديين، و كان التزاور يقع بين الجانبين باستمرار؟، فكان العرب يقصدون القارة الافريقية بقصد التجارة أحيانا و بقصد نشر الدعوة الإسلامية أحيانا أخرى و كان الأفارقة يقصدون البلاد العربية للتجارة و الحج و زيارة قبر الرسول عليه الصلاة و السلام، يقول الدكتور احسان حقي في كتابه عن افريقيا الحرة لم تقف الرحلات العربية عند شواطئ القارة بل كان العرب يضربون في البلاد و لم يبرحوها بعد ذلك، وكان للعرب والمسلمين في هذه القارة مماليك و امارات امتدت حتى المحيط الأطلسي و لا أدل على ذلك من انتشار اللغة العربية و الدين الإسلامي في كل بقعة من بقاع هذه القارة مع العلم بان المسلمين لم يرسلوا مبشرين بالدين يحترفون التبشير خاصة ـ ولا فتحوا البلاد فتح حرب، و قد سمعت محاضرة لأحد السياح الفرنسيين قال فيها : لقد وصلت الى بعض القبائل التي قلما يصل اليها انسان لانعزالها عن العالم فرأيت القوم يدينون بالإسلام.
لقد دانت شمال افريقيا بالإسلام ابتداء من القرن الأول لهجرة الرسول كما وصل الإسلام الى غرب افريقيا عن طريق الصحراء من المغرب العربي والطريق الساحلي الى السينغال، ومنها الى بقية انحاء غرب افريقيا.
ولقد تكونت امبراطوريات وممالك ذات سلطان كبير، وانتشر الإسلام بين جنباتها انتشارا عظيما خصوصا بعد قيام دولة المرابطين 1042 م.
وكانت هذه الامبراطوريات تدعى بإمبراطوريات غانا ومالي والسنيغال، كما أن الإسلام انتشر انتشارا عظيما بين قبائل الفولا والهوسا والمادنجو وغيرها.
اما افريقيا الشرقية، فقد شرح الله صدرها للإسلام، بواسطة التجار المسلمين الذين كانوا يفدون عليها بقصد التجارة، وكانوا يقومون في الوقت نفسه بواجبهم في الدعوة والتبشير فهدى الله على يدهم اقواما كانوا في منتهى التطلع لمن يعطيهم المثل في السلوك الحسن والاستقامة واتباع الدين الذي ينقذ الإنسانية من الضلال.
والواقع ان المسلمين سواء منهم البربر المغاربة او العرب المهاجرين كانوا يتحملون الصعاب ويخترقون الصحاري ولا يبالون بالأخطار في سبيل نشر عقيدتهم فلقد ذكر السيد بوني موري صاحب كتاب الإسلام والنصرانية في افريقيا:” ان زنوج السودان تلقوا القران من جهتين احداهما البربر المسلمون المغاربة والثانية قوافل العرب التي تخترق فزان والواحات الى تمبكتو”.
والتاريخ يشهد للمرابطين بما قاموا به من نشر الدعوة خصوصا الأمير أبا بكر ابن عمر الذي امتد نفوذ المملكة التي أسسها سنة 1087 الى جميع البلاد المعروفة الان بساحل الذهب والداهومي وبلاد نيجيريا الى بحيرة التشاد. وكانت سفائن هذا السلطان تسري في النيجر وقوافل الصحراء تحمل البضائع الى أطراف السلطنة.
وأبو بكر ابن عمر هذا من تلامذة مؤسس الدولة المرابطية الفقيه الداعية المجاهد عبد الله بن ياسين المتوفي 451 هـ، والمدفون بموضع يعرف “بِكْرِيفِلَة” في قبيلة زعير قرب مدينة الرباط.
وعبد الله بن ياسين هو الذي ولى أبا بكر بن عمر الرئاسة بعد وفاة أخيه الأمير يحي بن عمر اللمتوني.
لقد ذكرت أن قوافل العرب كانت تخترق الواحات الى “تمبكتو”. ومدينة تمبكتو هذه مدينة شهيرة اختطها الطوارق سنة 1077 م وكانت مركزا علميا ممتازا ومكانا لنشر الإشعاع الإسلامي في ارجاء افريقيا جميعها كما كانت سوقا للتجارة في أواسط افريقيا.
ومن المعلوم ان الإسلام كان يجد طريقه الى قلوب الأفارقة دون ضغط او اكراه وكانوا يرون فيه المنقذ من عوامل النقص والمركبات التي كانوا يشعرون بها، خصوصا بعد تسلط الاستعمار الغربي عليهم، فلقد كتب المستر “أتبوري” يقول:” بمجرد ما يدخل الزنجي في الإسلام يشعر بكرامة نفسه؟، وبعد ان كان يعتقد ذاته عبدا يصبح في نظر نفسه حرا”.
وابتداء من القرن السابع عشر للميلاد، اتجهت أطماع الدول المسيحية الى الاستيلاء على افريقيا فنظمت البعوث والارساليات من البروتستانتيين أولا ثم الكاثوليكيين ثانيا، ونشط هؤلاء في الدعوة لديانتهم ومحاولة تمسيح بعض الأفارقة. ومنذ ذلك الوقت والصراع بين الإسلام والمسيحية على الأراضي الافريقية يتزايد ولقد اشتد هذا الصراع ابتداء من أوائل القرن التاسع عشر للميلاد فكانت المسيحية تعتمد على رجال الاستعمار الذين وطئت اقدامهم الأراضي الافريقية وكان الإسلام يدافع عن نفسه بنفسه أي بواسطة جماعات المتطوعين من رجال الصوفية الصالحين.
وهنا جاء دور رجال الطرق القادرية والتيجانية والشاذلية والسنوسية، فقد ابلى هؤلاء البلاء الحسن في نشر الدعوة الإسلامية بالتي هي أحسن والحفاظ على طابع افريقيا الإسلامي وتربية المريدين ونشر العلم والمعرفة والقرآن فيما بينهم.
ولقد برز من الأفارقة الذين تثقفوا وتربوا التربية الإسلامية السليمة، عديد من الاشياخ والعلماء والمجاهدين أمثال الشيخ عثمان دان جُودًيُو الذي قام بحركة اصلاح كبرى في الحوسة نيجريا والنيجر والذي ترك بعد وفاته تسعين تأليفا ومخطوطا.
وكذلك اخوه الشيخ عبد الله الذي ترك بدوره خمسة وسبعين مؤلفا وكان الشيخ عثمان من المريدين للشيخ عبد القادر الجيلاني.
وحفيده الشيخ عثمان هو الشهيد الداعية المرحوم احمد أبيلو الذي اغتالته الايادي القذرة بنيجيريا سنة 1965 و الذي كان له دوره العظيم الممتاز في نشر الإسلام و الدفاع عنه في نيجيريا.
و في السنيغال برزت شخصيات إسلامية فذة تولت القيام بالدعوة الى الله و نشر الإسلام و هي شخصيات عديدة يطول المجال لعرضها، و من أهمها شخصية الحاج عمر بن سعيد طال و الشيخ امادو بامبا مؤسس الطريقة المريدية 1886 و غيرهم كثير.
هذا و إن الدارس لأحوال اقطار افريقيا الغربية يلاحظ أن نسبة المسلمين العددية تفوق غيرهم بكثير فهنالك اقطار يبلغ فيها المسلمون ازيد من تسعين في المائة كالسنيغال و غينيا مثلا، و أقل نسبة للمسلمين في بعض الأقطار كساحل العاج تبلغ خمسين في المائة.
ومعلوم انه كان للمغرب دور مهم في نشر الإسلام وبالأخص على حوض السنيغال وأعالي النيجر حتى بلاد التشاد ، حيث كانت القبائل في عهد المرابطين تدخل في دين الله افواجا الامر الذي أدى الى قيام دول افريقية إسلامية قوية في بلاد السودان الغربي مثل صنغاي و مالي و غيرها، كما كانت للمغرب علاقات تجارية واسعة مع بلاد السودان و البلاد الواقعة جنوب الصحراء بالإضافة الى انه كلا من الطريقة التيجانية و الطريقة القادرية بالمغرب قامتا بدور فعال في نشر الدين الإسلامي و التبشير به.
ومن دون شك كذلك ان هذا التواصل الثقافي قد امتد و نما في العصر المريني بعد ذلك خاصة و اننا نجد المغرب و السودان خلال هذه المرحلة تجمعها علاقات تجارية متعددة ، كان المغرب فيها يستود من السودان الذهب و الجلود و العاج و غيرها، في حين كان يصدر اليها المواد الغذائية و الخيول و المنسوجات و بعض المعادن.
كما ان هنالك جوانب من اسهام الفقهاء المغاربة في انشاء المذهب المالكي بالصحراء المغربية و السودان الغربي، حيث ان المغرب يعتبر قلعة المذهب المالكي الصامدة منذ القرون الأولى للهجرة، مما جعل منه مصدرا لهذا المذهب على حد قول الدكتور عبد الهادي التازي و حاضنا له و الحارس الأمين عليه، الى درجة ان هذا المذهب صار شعارا من شعارات الدولة المغربية، و اذا كانت تعاليم هذا المذهب قد انتشرت لتصل الى الصحراء المغربية و الى بلاد من اسلم من السودان.
فقد نجحت الدولة المرابطية في التمكين للمذهب المالكي في الصحراء و السودان الغربي.
و يكفي أن نشير الى استمرار هذا التواصل في العصر الموحدي و في جميع الدول التي تعاقبت على حكم المغرب من مرينيين ووطاسيين وسعديين و الدولة العلوية الشريفة. ويكفي هنا ان نشير الى تجديد بيعة اعيان تنبكت للسلطان مولاي الحسن ثم من دون شك بموجب عقد بيعة قديم يعود في الأصل الى الحملة السعدية على بلاد السودان، كما عبر المغرب عن قلقه الشديد إزاء التطورات المستمرة في مالي و التي أدت الى تدمير طوعي لمواقع تاريخية و ثقافية و دينية في مدينة تمبكتو الاثرية، خصوصا و ان اكثر من 30% من هذه الوثائق التاريخية مصنفة تراثا إنسانيا عالميا تهم مباشرة المغرب، و من ضمنها عدة مراسلات تهم المغرب و العلاقات الاقتصادية و الثقافية بين المملكة و دول أخرى بإفريقيا الغربية، ووثائق أخرى كتبها علماء و فقهاء مغاربة.
والأكيد ان نجاح السياسة الحالية التي نجني ثمارها من خلال المجهودات الجبارة المتتالية التي مافتئ يقوم بها صاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك محمد السادس في ترسيخ و تطوير هذه العلاقة مع العديد من اخوانه قادة وزعماء القارة الافريقية لها جذور راسخة و أقدام ثابتة تركها العديد من الملوك الذين تداولوا على حكم المغرب بالإضافة الى تلك الادوار الهامة التي قام بها العديد من الرحالة و المستكشفين المغاربة وأصحاب القوافل التجارية و العلماء و طلاب العلم حيث كانت مسالك الصحراء المغربية و طرقها تعج بحركة نشيطة اقتصادية و اجتماعية ودينية و سياسية للربط بين اسواق المغرب في الشمال و مراكز التجارة في غرب القارة الافريقية.
لذا وجب علينا احياء رسوم هذه العلاقات وتوعية شبابنا المعاصر بها للدفاع عنها و بث روح الاستمرارية في نفوسهم لخلق وحدة افريقية متجانسة لشعوبها مفتخرة بتاريخها معتزة بنضال ملوكها وزعمائها في الدفاع عن الوحدة الترابية لكل دولة ومواجهة أطماع المستعمر الاجنبي الذي حاول بكل الوسائل تمزيق هذه الوحدة، وخلق كيانات سياسية وهمية خدمة لأغراضه الاستعمارية.
أكتفي بهذا و اشكُركم على حُسنِ استِمـاعكم . !