مباديء التشريع الجنائي الإسلامي : عمر بن محمد قرباش
يشتمل نظام التشريع الجنائ الإسلامي على جملة من مبادئ مهمة ، وأسس فريدة تكسبه الصلاحية لكل زمان ومكان وإنسان ، فهو نظام يقوم على أساس الدين ، و يحترم كرامة الإنسان ، ويتميز عن غيره بمباديء أساسية للتجريم و العقاب وأهم تلك المبادئ هي :
أولا : مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
وهو مبدأ قررته الشريعة الإسلامية ، وجعلته نقطة انطلاق للتجريم والعقاب ، حيث لا توجد جريمة أو عقوبة من موجبات الحدود والقصاص إلا وهناك نص أو دليل شرعي تستند إليه ، ويستدل على مضمون هذا المبدأ من عدة نصوص قرآنية ، منها قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) فهذه الآية تنص على أن الله لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلا ، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع ، وقد استنتج الفقهاء من هذه الآية مبدأ ( لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص ) .
ومن قوله تعالى ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) فهذا النص القرآني واضح الدلالة على أن العمل بهذه القاعدة ـ قاعدة شرعية ـ على سبيل الإطلاق بما في ذلك الشق الجنائ .
من القواعد الفقهية العامة عند فقهاء الشريعة الإسلامية ، والتي تتضمن مبدأ الشرعية الجنائية قولهم ” الأصل في الأشياء الإباحة ” .
فلما لم يرد نص بتحريمه فلا مسؤولية على فاعله أو تاركه ، فلا حرج قبل ورود النص في إتيان الفعل أو ” لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع ” أي : إن الأفعال في الأصل لا محظورة و لا مباحة ، و لذلك لا حرج في إتيانها أو تركها حتى يرد نص أو دليل على حظرها أو إباحتها ، ولا فرق بين هذه القاعدة و القاعدة السابقة عليها من حيث مبدأ : لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، فلا يمكن وصف الفعل بأنه جريمة ، ولا يمكن المعاقبة عليه حتى يقوم الدليل الشرعي على التجريم والعقاب.
وقد أقرت الشريعة الإسلامية هذا المبدأ في مجال جرائم الحدود والقصاص والدية ، فقد وردت في شأنها نصوص قطعية الدلالة واضحة في مدلولها في تسمية الجرائم التي نصت عليها وبيان الفعل أو الافعال التي تقوم بها كل منها ، وهي كذلك دقيقة في تحديد العقوبة التي تقرر لكل منها .
وبناء على ذلك نستطيع القول بأن مبدأ ” لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص ” مقرر في دقة ووضوح في مجال جرائم الحدود والقصاص والدية .
وتثور الصعوبة إذا تساءلنا عن مدى إقرار هذا المبدأ في مجال جرائم التعزير . اعتمادا على أنه لا توجد نصوص تفصيلية بشأنها تحدد الأفعال المحرمة والعقوبة المقررة لكل منها ، وأن لولي الأمر بناء على ذلك أن يؤدب من يشاء على ما يشاء . غير أن هذا القول فيه إطلاق تأباه مبادئ الشريعة وروحها ، وبهذا يسلم شطر القاعدة الأول . أما الشطر الثاني وهو تحديد العقوبة فقد دل العمل على أن ولاة الأمر لم يكونوا يحرصون على إعلام المخاطبين سلفا بالعقوبة المقررة لكل معصية ، غير أن هذا لا يعني أن أصول الشرع تحظر عليهم ذلك وتخولهم سلطة العقاب دون سبق نذارة ، بل أن روح الشرع ـ فضلا عن أصوله ـ توجب النص على العقوبة ، لأن هذا هو ما يقتضيه العدل حتى يكون كل امرئ على بينة من أمره ، وحتى لا يختل ميزان العدل إذا ترك الأمر لتقدير ولي الأمر في كل حالة على حدة ، فقد يفضي ذلك إلى اختلاف مصائر المتهمين باختلاف أولي الأمر وما يعتريهم من أهواء ، ومن هذا نرى أن قاعدة الشرعية مقررة في شطرها الأول في الشرع ، وأنها في شطرها الثاني مقررة في طائفة من الجرائم ، ولا يتعارض إعمالها في سائر الجرائم مع الشرع ، بل إن إعمالها فيه أكثر اتفاقا مع مقصد العدل .
وتماشيا مع هذا المبدأ الإسلامي ، فقد نص المشرع المغربي في القانون الجنائ في الفصلين الثالث و الرابع على ما يلي :
ـ لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون و لا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون .
ـ لا يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه .
ثانيا : مبدأ عدم رجعية العقوبة
ويؤدي هذا المبدأ ـ الذي يتفرع عن المبدأ السابق ـ أن النصوص المحددة للعقوبات لا تطبق على الحالات التي وقعت قبل تشريع هذه النصوص و إنما تطبق على الحالات على الجرائم المرتكبة بعد صدور التشريعات المحددة للعقوبة ، فالشريعة الإسلامية لا تقرر عقابا لشخص إلا إذا أنذر سلفا ، وهذا المبدأ دلت عليه الآيات السابقة وتدل عليه آيات أخرى مثل قوله تعالى ( عفا الله عما سلف) ، وقوله تعالى ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) ، وقال تعالى في سورة النساء بيانا للمحرمات ( و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) وقال تعالى ( حرمت عليكم أمهاتكم …. وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) فدل ذلك على أن ما وقع قبل ذلك لا إثم فيه و لا عقاب عليه .
فمبدأ رجعية النصوص العقابية ما هي إلا نتيجة من نتائج مبدأ الشرعية ، والتي سبق إثباتها كمبدأ من مبادئ التشريع الجنائ . وقد تحدث الدكتور محمد سليم العوا عن عدم رجعية التشريع الجنائ إلى الماضي وذكر أن ذلك من لوازم مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات ، وأنه لا يتصور في نظام قانوني أن يأخذ بمبدأ الشرعية ، ثم يهدر الأخذ بمبدأ عدم الرجعية وذلك هو الشأن في الأحكام الجنائية الإسلامية ، وقد أورد رأيا مخالفا مفاده أن قاعدة عدم الرجعية يرد عليها في التشريع الإسلامي استثناء وهو أن يطبق النص الجنائ بأثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن العام ، و النظام العام وأن هذا الرأي استدل عليه أصحابه بحالات أربع هي النصوص الخاصة بالقذف و الحرابة و الظهار و اللعان ، وقد ناقش هذ الرأي ورد عليه وخلص إلى أنه لا تطبيق بأثر رجعي ، ولا يجوز أن يكون للنصوص الجنائية أثر رجعي اللهم إلا إذا كان ذلك يحقق مصلحة لمن تطبق عليه مثل هذه النصوص ، كما هو الحال في حكم الملاعنة الذي نسخ به حكم القذف ( الجلد ) في حق الزوج إذا رمى زوجته بالزنى