نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (21)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (21) )
الإثنين 22 فبراير 2016 – 15:10:53
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
من وصايا رابعة العدوية: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم. وقالت لأبيها: يا أبة، لست أجعلك في حب من حرام تطعمينه، فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلا حراماً؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع خير من أن نصبر في الآخرة على النار. وكانت إذا جن عليها الليل قامت إلى سطح لها ثم نادت: إلهي هدأت الأصوات وسكنت الحركات وخلا كل حبيب بحبيبه، وقد خلوت بك أيها المحبوب، فاجعل خلوتي منك في هذه الليلة عتقي من النار.
ولقي سفيان الثوري رابعة ـ وكانت مزرية الحال ـ فقال لها: يا أم عمرو أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلاناً لغير بعض ما أرى، فقالت له: يا سفيان وما ترى من سوء حالي؟ ألست على الإسلام فهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه والأنس الذي لا وحشة معه؛ والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها؟ فقال سفيان وهو يقول: ما سمعت مثل هذا الكلام. وقالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام معدودة فإذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فاعمل.
كان أبو سليمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم غلة ثمانين ألف درهم، فبعث إلى علماء البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها فأجمعوا على رابعة العدوية فكتب إليها: أما بعد فإن ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم وليس يمضي إلا قليل حتىى أتمها مائة ألف إن شاء الله، وأنا أخطبك نفسك، وقد بذلت لك من الصداق مائة ألف وأنا مصير إليك من بعد أمثالها، فأجيبيني، فكتبت إليه: أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي فهيء زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك ولا تجعل وصيتك إلى غيرك، وصم دهرك واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام.
كان سالم الخاسر ماجناً يتظاهر بالخلاعة والفسق، قدم بغداد ومدح المهدي والهادي والبرامكة، وكان من الشعراء المجيدين من تلامذة بشار بن برد. سميّ الخاسر لكونه باع مصحفاً واشترى بثمنه طنبوراً.
اشتهر شعره حتى صار يقول أرقّ من شعر بشّار. وكان بشّار قد قال:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته …… وفاز بالطّيبات الفاتك اللّهجُ
وقال سالم: من راقب الناس مات غماً …… وفاز باللذّة الجسور
فغضب بشار وقال: ذهب واللّه بيتي، يأخذ المعاني التي تعبت فيها فيكسوها ألفاظاً أخفّ من ألفاظي، لا أرضى عنه، فما زالوا يسألونه حتى رضي عنه.
وقال أبو معاذ النميري: رأيت بشاراً لما قال هذا البيت وهو يلهج به كثيراً: من راقب الناس لم يظفر بحاجته … البيت
قلت يا أبا معاذ، قد قال سالم الخاسر بيتاً في هذا المعنى هو أخف من هذا، وأنشدته:
من راقب الناس مات غمّاً
قال: ذهب واللّه بيتي، واللّه لا أكلت اليوم شيئاً ولا صمت.
وكانت وفاة سالم المذكور سنة وثمانين ومائة.
هو أبو محمد سليمان بن مهران مولى بني كاهل من ولد أسد المعروف بالأعمش الكوفي الإمام المشهور.
جرى بينه وبين زوجته كلام، وكان يأتيه رجل يقال له أبو ليلى مكفوف فصيح يتكلم بالإعراب يتطلّب الحديث منه، فقال: يا أبا ليلى، امرأتي نشزت علي وأنا أحب أن تدخل عليها فتخبرها مكاني من الناس وموضعي عندهم، فدخل عليها وكانت من أجمل أهل الكوفة فقال: يا بنتاه إن اللّه قد أحسن قسمك، هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا وحلالنا وحرامنا فلا يغرنك عموشة عينيه ولا حموشة ساقيه، فغضب الأعمش وقال: يا أعمى يا خبيث، أعمى اللّه قلبك كما أعمى عينيك، قد أخبرتها بعيوبي كلها، اخرج من بيتي.
وأراد إبراهيم النخعي أن يماشيه فقال الأعمش: إن الناس إذ رأونا معاً قالوا: أعور وأعمش، قال النخعي: وما عليك أن نؤجر ويأثموا؟ فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم؟
وجاء رجل يطلبه في منزله ووصل وقد خرج مع امرأته إلى المسجد فجاء فوجدهما في الطريق فقال: الأعمش: هذه، وأشار إلى المرأة.
ودخل الحمام يوماً وجاء رجل حاسر، فقال له الرجل: متى ذهب بصرك؟
فقال: مذ بدت عورتك.
قال محمد بن حميد، حدثنا جرير قال: جئنا الأعمش يوماً فوجدناه قاعداً في ناحية فجلسنا في ناحية أخرى وفي الموضع خليج من ماء المطر، فجاء الأعمش رجلٌ عليه سواد، فلما بصر بالأعمش وعليه فروة حقيرة قال: قم فأعبرني هذا الخليج، وجذب يده وأقامه وركبه وقال:{سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين} (الزخرف:١٣) فمضى به الأعمش حتى توسط به الخليج فرمى به وقال: {رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين} (المؤمنون:٢٩) ثم خرج وترك الأسود يخبط في الماء.
وكان الأعمش إذا رأى ثقيلاً قال: كم غرضك تقيم في هذه البلدة؟.
وكان لطيف الخلق مزاحاً، جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه، فخرج إليهم، وقال لولا أن في منزلي من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت إليكم.
وقال له داود بن عمر الحائك: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ فقال: لا بأس بها على غير وضوء، فقال: ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال: تقبل مع عدلين. ويقال إن الإمام أبا حنيفة رضي اللّه عنه عاده يوماً في مرضه، فطّول القعود عنده، فلما عزم على القيام قال له: ما كأني إلا ثقلت عليك، فقال: واللّه إنك لتثقل عليّ وأنت في بيتك. وعاده أيضاً جماعة فأطالوا الجلوس عنده فضجر منهم، فأخذ وسادته وقام وقال: شفى اللّه مريضكم بالعافية؛ وقيل عنده يوماً: قال ( ﷺ ): «من نام عن قيام اللّيل بالَ الشيطان في أذُنهِ » فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني. وكانت له نوادر كثيرة.
قال محمد بن الحسن الأزدي: حدّثنا أبو حاتم السجستاني قال: وفد علينا عامل من أهل الكوفة ولم أر في عمال السلطان أبرع منه، فدخلت عليه مسلّماً فقال لي: يا سجستاني، من علماؤكم بالبصرة؟ قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي أفقهنا، والشاذكوني من أعلمنا بالحديث، وأنا ـ رحمك اللّه ـ أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال؛ فقال لكاتبه: إذا كان غداً فاجمعهم إليّ، قال: هل يجزي في كفارة الطهارة عتق عبد أعور؟ قال المازني: لست صاحب فقه، أنا، صاحب عربية، قال: يا زياديّ، كيف يكتب بين بعل وامرأة خالعها على الثلث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي، قال: يا هلال، كم أسند ابن عون عن الحسن؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشاذكوني، قال: يا شاذكوني، من قرأ: { ألا أنهم يثنون صدورهم} (هود:5)، قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم، قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين تصف خصاصة أهل البصرة وما أصابهم بي وتسأله النظر بالبصرة؟ قلت: لست صاحب براعة وكتابة، أنا صاحب قرآن؛ قال: ما أقبح بالرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فناً واحداً حتى إذا سئل عن غيره لم يحل فيه ولم يمر، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كله لأجاب.
كان القاضي شريح مزّاحاً، دخل عليه عديّ بن أرطأة فقال له: أين أنت أصلحك اللّه؟ فقال: بينك وبين الحائط، قال: استمع مني، قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشا، قال: مكان سحيق، قال: تزوجت عندكم، قال: بالرفاء والبنين، قال: وأردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.
وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة، قال ابن عبد البر: وكان شاعراً محسناً، وهو أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد اللّه بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة، والأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل في الحلم، والقاضي شريح المذكور. الأطلس: الذي لا شعر في وجهه.
وعن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت، فقلت أنا: ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة، فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف عليه السلام جاءوا أباهم عشاء يبكون.
(يتبع)