نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (17)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (17) )
الأربعاء 27 يناير 2016 – 18:29:17
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
فابتسم القائد الكبير، وكان في نحو الخامسة والثمانين من العمر وقال: «ليعد منكم من يريد، أمّا أنا فقد خرجت في سبيل اللّه، ولن أعود إلاّ أن يشاء اللّه، والجنة في آخر هذا الطريق».
ثم امتطى حصانه واستعدّ للهجوم فاجتمع حوله الجند. وبعد ساعات كان الحصن قد استسلم.
المعروف عن المتنبي أنه كان لا يكفّ عن مدح الكرم وأهله، وكانت فيه كبرياء وعلوّ همّة، ومع ذلك اشتهر بالبخل والحرص على المال، وقد قيل له: «إن بخلك ينافي ما تتّصف به من خلال وما تمدح به الناس».
فقال أبو الطيب:
«إن للبخل عندي سبباً… وردت من الكوفة إلى بغداد في صباي، ومررت ببائع فاكهة عنده بكورة بطيخ فسألته: بكم تبيع البطيخة؟ فقال غير مكترث: إذهب فليس هذا من أكلك. فقلت له: سألتك عن الثمن فأجبني. فقال: البطيخة بدرهمين. فعرضت عليه خمسة دراهم ثمناً لخمس بطيخات فلم يقبل. وإذا شيخ من التجار يمرّ فوثب إليه صاحب البطيخ يدعو له ويقول: يا مولاي، هذا بطيخ باكورة، فهل تأذن لي أن أحمله إلى دارك؟ فساومه الشيخ في الثمن وقبل البائع أن يبيع البطيخات الخمس بدرهمين، وحملها إلى دار الشيخ ورجع مسروراً بما فعل.
فقلت له: ما رأيت أعجب من جهلك يا هذا. عرضتُ عليك خمسة دراهم فأبيت وقبلت من ذلك الشيخ درهمين. فقال لي: اسكتْ، إن هذا الرجل يحمل مائة ألف دينار. فقلت: إن الناس لا يكرمون أحداً إلاَّ إذا كان يملك المال الكثير، وأنا لا أزال حريصاً على المال حتى أسمع الناس يقولون:إن أبا الطيّب قد ملك مائة ألف دينار.
ـ وهكذا أثرت هذه الحادثة في نفس المتنبي وطبعته بطابع في سلوكه الشخصي وشعره لم يفارقه مدى الحياة.
عن ابن الكلبي عن أبيه قال:
وفد قيس بن عاصم على رسول اللّه (ص) فسأله بعض الأنصار عمّا يُتحدثُ به عنه من الموؤودات(1) التي وأدهن من بناته، فأخبر أنه ما ولدت له بنت قطّ إلاّ وأدها. ثم أقبل علي رسول اللّه (ص) يحدثه فقال له:
كنت أخاف سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات، فما ولدتْ لي بنت قطّ إلاّ وأدتها، وما رحمت منهن موؤودة قطّ إلاّ بنيّة ولدتها أمّها وأنا في سفر، فدفعتها أمّها إلى أخويها فكانت فيهم.
وقدمت فسألت عن الحمل، فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولداً ميتاً.
ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبيّة ويفعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها شيئاً من الطيب، ونظمت عليها ودعاً، وألبستها قلادة عقيق وجعلت في عنقها قلادة بلح. فقلت، من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وعقلها. فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، كنت خبرتك أني ولدتُ ولداً ميتاً وجعلتها عند أخوالها حتى بلغت هذا المبلغ. فامسكتُ حتى إذا كانت أمها في شغل عنها أخرجتها يوماً فحفرت لها حفيرة فجعلتها فيها وهي تقول: يا أبت ما تصنع بي؟ وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول: يا أبت أمُغَطِّيَّّ أنت بالتراب؟! أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني؟! وجعلت أقذف عليها التراب حتى واريتها وانقطع صوتها، فما رحمت أحداً ممن واريته غيرها.
فدمعتْ عينا النبي (ص) ثم قال: «إن هذه لقسوة، وإنّ من لا يرحم لا يُرحم».
كان عمر بن الخطّاب يجوب شوارع المدينة ليلاً وطال به المسير والطواف حتى أصابه شيء من التعب فاتّكأ إلى جدار أحد البيوت وإذا بأصوات نسائية تخترق حجب الليل وتطرق أذنيه فتبينّ حديث امرأة تقول:
قومي، يا بنيّة، إلى ذلك اللبن فاخلطيه بالماء!
وعقب عبارتها سكوت. فأنصت عمر، يريد أن يعرف ماذا تجيب الأخرى فسمعها تقول:
يا أمّاه أوما علمت بما كان اليوم من عزمة أمير المؤمنين؟
فقالت الأم: وما كان من عزمته يا بنيّة؟؟
قالت: إنه أمر مناديه فينادي ألاّ يشاب اللبن بالماء!
فقالت الأم: قومي يا بنيّتي إلى اللبن فاخلطيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك فيه عمر ولا منادي عمر.
فأجابت البنت قائلة: لا، يا أمّاه، واللّه ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصاه في الخلاء.
إن كان عمر لا يعلم، فإلاه عمر يعلم!…
وسمع عمر ذلك كله. وكان معه رجل يدعى أسلم فقال له:
يا أسلم، علّم المكان واعرف الموضع! ثم مضى مواصلاً طوافه. وإذ أصبح الصباح قال:
يا أسلم، امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقوله لها، وهل لها بعل؟
وذهب أسلم يستقصي الأمر، ثم عاد إلى عمر بن الخطاب وأخبره أن الفتاة أيّم لا بعل لها، وأنها تعيش مع أمها وليس لهما رجل.
ثم دعا عمر أولاده فاجتمعوا فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوّجه؟..
ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية.
فقال عبد اللّه: لي زوجة!
وقال عبد الرحمن: لي زوجة!
وقال عاصم: لا زوج لي يا أبتاه، فزوجني!
وهكذا زوج عمر بن الخطاب تلك الفتاة التي أعجبته بقوتها وأمانتها وخلقها، ابنه عاصم فولدت له بنتاً، وولدت هذه البنت عمر بن عبد العزيز.
قال الجاحظ: قال أبو الحسن: حدثني أعربي كان ينزل بالبصرة قال: قدم أعرابي من البادية فأنزلته، وكان عندي دجاج كثير، ولي امرأة وابنان وابنتان، فلما حضر الغذاء جلسنا جميعاً أنا وامرأتي وابناي وابنتاي والأعربي. قال: فدفعنا إليه الدجاجة وقلنا له: اقسمها بيننا ـ نريد بذلك أن نضحك منه ـ فقال: لا أحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمتي بينكم. قلنا: فإناّ نرضى. فأخذ رأس الدجاجة فقطعه فناولني إياه وقال: الرأس للرأس. وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين. ثم قطع الساقين وقال: الساقين للابنتين. ثم قطع الزمكى (ذنب الطائر) وقال: العجز للعجوز. وقال: الزور للزائر. ثم أخذ الدجاجة وسخر منّا. قال:… فلما كان الغد قلت لا مرأتي: اشوي لنا خمس دجاجات. فلما حضر الغذاء قلت: أقسم بيننا.
قال: إني أظن أنكم غضبتم في أنفسكم.
قلنا: لا، لم نغضب في أنفسنا فاقسم.
قال: أقسم وتراً أو شفعاً؟
قلنا: أقسم وتراً.
قال: أنت وامرأتك ودجاجة ثلاثة، ثم رمى إلينا بدجاجة. ثم قال: وابناك ودجاجة ثلاثة، ثم رمى إليهما بدجاجة. ثم قال: وابنتاك ودجاجة ثلاث، ثم رمى إليها بدجاجة. ثم قال: أنا ودجاجتان ثلاثة، وأخذ دجاجتين وسخر مناّ.
قال: … فرآنا ننظر إلى دجاجتيه.
فقال: ما تنظرون لعلكم كرهتم قسمتي. الوتر لا يكون إلاّ هكذا. فهل أقسم لكم قسمة الشّفع؟ قلنا: نعم.
فضمهنّ إليه، ثم قال: أنت وابناك ودجاجة أربعة، ورمى إلينا بدجاجة. ثم قال: والعجوز وابنتاها ودجاجة أربع، ورمى إليهن بدجاجة. ثم قال، أنا وثلاث دجاجات أربعة، وضم إليه الثلاث ورفع يديه إلى السماء وقال:
اللهم لك الحمد أنت فهّمتنيها!.
روى محمد بن عون عن ابن عيينة أن المأمون جلس فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين مات أخي وخلّف ستّمائة دينار، فأعطاني ديناراً وقالوا: هذا نصيبك. فقال المأمون: هذا خلّف أربع بنات؟
قالت: نعم.
قال: لهن أربعمائة دينار، وخلف والدة؟
قالت: نعم.
قال: لها مائة دينار، وخلف زوجة لها خمسة وسبعون ديناراً، باللّه ألك إثنا عشر أخاً؟
قالت: نعم.
قال: لكل واحدٍ ديناران ولك دينار واحد.
قيل: إن فتى من ذوي النعم، قعد به دهره، وألحّ عليه الفقر، وكانت له جارية من أحسن الناس وجهاً وجمالاً، وكان يحبها حباً شديداً، وهي كذلك، فلما ضاق عليه الحال واشتد به الأمر قال لها: ما ترين ما نحن فيه من الشدّة، ورقّة الحال، فإن رأيت أن أبيعك لبعض الممّولين، فأتّسع في ثمنك، وأنت تتمتّعين عنده، فعلتِ؟
فقالت: واللّه، إن فراق روحي من جسدي، عليّ أهون من فراقك.
ثم إنه طيّب خاطرها وخرج بها واستشار بعض أصحابه أن يعرضوا ذكرها لبعض التجار ليشتريها أحد منهم.
فقالوا له: إن كان ذلك لا بدّ منه، فابعثها إلى عبد اللّه بن معمر، وكان عاملاً على العراق.
فحملها إليه وعرضها عليه فاستحسنها ووقعت منه موقع الإعجاب.
فقال: كم رجوت فيها؟
فقال: أربعين ألفاً.
فدفع له ثمنها، وعشرة آلاف لنفقته وعشرة رؤوس خيل وقال له: هل رضيت بذلك؟
قال: نعم! وسّع اللّه عليك ورضي عنك.
فأمر عبد اللّه أن تدخل الجارية إلى داره ويكرم مثواها. فأمسكت الجارية بجانب السرير وجعلت تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد أخذته ….. ولم يبق في كفيَّ غير التفكّر
أقول لنفسي وهي في كرباتها ….. أقلّي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن في الأمر عندك حيلة ….. ولم تجدي بداً من الصبر فاصبري
فلما سمع الفتى ذلك، بكى حتى ارتفع نحيبه، ثم قال:
لولا قعود الدهر عنك فلم يكن ….. يفرّقنا شيء سوى الموت فاصبري
أروح بهم من فراقك مؤلم ….. أُناجي به قلباً قليل التصبُّرِ
عليك سلام لا زيارة بيننا ….. ولا وصل إلاّ أن يشاء ابن معمر
فقال عبد اللّه بن معمر: إن شئت خذها، وخذ المال الذي صار إليك.
فأخذ الفتى المال، والخيل، والجارية، وانصرف داعياً له على فعله الجميل وإحسانه. .
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الموؤودات: اللواتي يدفن وهنّ أحياء، وهي عادة كانت شائعة عند البعض في أيام الجاهلية وأسبابها كثيرة (راجع: «الأغاني»، 72:14)