لم تنتظر جمعية الكشاف الملكي بطنجة أن تحظى بدعم أي جهة، فقد استمرت رغم الإكراهات وقلة الإمكانيات بكل عزيمة وتفانٍ، تسجل حضورها في جميع المحافل الوطنية. إيماناً منها بأن العمل الجاد والدفاع عن الموروث الفني والثقافي المتنوع والثري في بلادنا العزيزة هو واجب وطني، تعكف الجمعية على تعزيز حضوره انطلاقاً من تخصصها.
لقد كانت قوة الفن المغربي ولا تزال تكمن في هذا التناغم المتشكل من مختلف هويات ومكونات ثقافة مملكتنا المغربية الحبيبة. ومن هذا المنطلق، أدركت الجمعية أن العمل الثقافي رسالة سامية تُبنى بها الجسور بين القلوب والعقول.
مشوار طويل من التضحيات
تعمل جمعية الكشاف الملكي بطنجة بلا توقف لنشر الجمال والفكر، دون انتظار أي مقابل سوى رؤية التأثير الإيجابي في المجتمع. فقد قدم أعضاؤها جهودًا مضنية لتقديم الفن في صورته النقية، معتبرين أن الثقافة ليست مجرد نشاط عابر، بل هي أسلوب حياة يزرع الإبداع والأمل.
في كل مبادرة أطلقتها الجمعية، كانت هناك رغبة خالصة في الحفاظ على التراث الوطني ودعم الإبداع، وتمكين المجتمع من الوصول إلى الفنون بجميع أشكالها. عبر برامجها المتنوعة وعروضها المميزة، أظهرت الجمعية أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للتغيير الاجتماعي.
التأثير على المجتمع
أسهمت جمعية الكشاف الملكي بطنجة في تعزيز الوعي الثقافي والفني، حيث ساهمت مبادراتها في ربط الأجيال المختلفة بقيم الفن والحوار. كما عملت على دعم الشباب الموهوبين، ووفرت لهم منصات للتعبير عن إبداعاتهم، ما جعلها حاضنة للمواهب التي أبدعت وأثرت الساحة الفنية المغربية.
ختام يحمل الأمل
إن العطاء الثقافي، حين يُقدم من القلب، يتحول إلى شغف يشعل الأرواح ويمدها بالأمل. وتبقى جمعية الكشاف الملكي بطنجة مثالاً حياً على أن العمل الثقافي ليس وظيفة تُؤدى، بل رسالة تُؤمن بها القلوب.
اليوم، تواصل الجمعية مسيرتها بإصرار وعزيمة، حاملة شعلة الثقافة لتضيء بها دروب الأمل لكل من يؤمن بأن الفن والثقافة هما قوة قادرة على بناء مستقبل أكثر إشراقاً.
تاريخ الكشاف الملكي بمدينة طنجة
خلال فترة الاستعمار، حين كانت مدينة طنجة تحت الحكم الدولي بين عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، شهدت المدينة نشاطًا مميزًا لعدد من المجموعات الموسيقية الصغيرة. إلى جانب الفرق الموسيقية الإسبانية واليهودية التي ازدهرت في تلك الفترة، برزت مجموعة الكشاف كعنصر فاعل في المناسبات المحلية، وخاصة تلك المرتبطة بالأعياد المسيحية أكثر من الإسلامية، نظرًا للتواجد الإسباني والفرنسي في المدينة. لا يزال العديد من سكان طنجة يتذكرون الاستعراضات الباهرة التي ميّزت المدينة، حيث كانت تُقام احتفالات ضخمة بألوان موسيقية غنية ومتنوعة، ما منح فرقة الكشاف أسلوبًا فريدًا في العزف وجماليات الأداء.
مع أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، برزت فرقة الكشاف كجزء من الحركة الوطنية التي نادت بالاستقلال. كانت الفرقة على صلة وثيقة بحركة التحرر الوطني بقيادة الزعيم علال الفاسي. وقد شهدت تلك الفترة تأسيس “كشاف الوحدة” تحت إشراف مباشر من المغفور له الملك الحسن الثاني. وكان لزيارته التاريخية إلى مدينة طنجة، وخطابه الشهير في مقر الكشاف، أثر كبير في ترسيخ دور هذه المجموعة في الدعوة للوحدة الوطنية، حيث أشاد جلالته بإسهامات الكشاف في تعزيز روح النضال وترديد الأناشيد الوطنية التي ألهمت أبناء الوطن.
في خمسينيات القرن الماضي، تأسست رسميًا “جمعية الكشاف الملكي بطنجة”. ضمّت الجمعية في صفوفها أفرادًا من الشرطة ورجال المطافئ وموظفي الدولة، وحملت اسم “الحرس البلدي”. لعبت الجمعية دورًا بارزًا في المناسبات الوطنية والدولية، حيث كانت تشارك في استقبال سلاطين الدولة العلوية أثناء زياراتهم الرسمية لطنجة، إلى جانب تنظيم استقبالات رفيعة المستوى للخليفة المقيم بالمدينة، محمد التازي، عند أدائه صلاة الجمعة بمسجد القصبة. وقد اشتهرت الاستعراضات الضخمة التي كانت تُقام في ساحة المشور بالقصبة بأناقتها وجمالها.
كما كانت الجمعية تشارك في إحياء موسم الوالي الصالح سيدي بوعراقية خلال ذكرى المولد النبوي الشريف، حيث تُنظم احتفالات مهيبة تنطلق في مسيرة موسيقية عبر أحياء المدينة العتيقة، من سوق
الداخل مرورًا بساحة 9 أبريل وصولًا إلى ضريح سيدي بوعراقية. وقد تميزت هذه الاحتفالات بما يُعرف بـ”الليلة والهدية”، التي أصبحت جزءًا من تقاليد المدينة العريقة.
ساهمت جمعية الكشاف الملكي بشكل كبير في الحفاظ على التراث الحضاري المغربي الأصيل، حيث نقلت فنونها الموسيقية وأسلوبها المميز إلى الأجيال الجديدة. هذا الدور المستمر عزز قيم المواطنة وروح الانتماء الوطني حتى يومنا هذا.
ولابد من الإشادة برؤية الملك الراحل الحسن الثاني طيّب الله ثراه، الذي لم يقتصر دوره على تأسيس الجمعية، بل اقترح ضم عدد من أعضاء الكشاف إلى صفوف الحرس الملكي. كان ذلك بناءً على إعجابه الكبير بعزفهم وأدائهم المتميز. وقد ساهم هذا القرار في نقل خبراتهم إلى الشباب بالقصر الملكي في الرباط، حيث استمر العديد من أبناء طنجة في أداء دورهم ضمن الجوق الوطني، الذي لا يزال يجسّد روح الفن المغربي الأصيل.
برج الصياغين التاريخي
شُيّد برج الصياغين خلال فترة الاحتلال الإنجليزي لمدينة طنجة، بين عامي 1661 و1684. وقد أُطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى الملكة البرتغالية كاثرين دي براجانزا، زوجة الملك الإنجليزي تشارلز الثاني. كما كان يُعرف في تلك الفترة باسم “حصن كاثرين” أو Catherine Tower، وأيضًا باسم Catherine Street.
كان برج الصياغين أو “برج الحية” يمثل حصنًا دفاعيًا منيعًا للإنجليز، إذ شكّل جزءًا أساسيًا من منظومتهم العسكرية بالمدينة. وقد شهد البرج محطات مهمة خلال فترة الاحتلال، حيث كان أحد مراكز الدفاع الرئيسية. ومع اقتراب نهاية الاحتلال الإنجليزي لطنجة في عام 1684، حاول الإنجليز تدمير البرج بالكامل قبل انسحابهم، بهدف حرمان القوى المحلية من الاستفادة منه. إلا أن محاولاتهم لم تُسفر سوى عن تدمير جزئي للبرج، في حين صمدت معظمه، مثلما صمدت أجزاء كبيرة من الحصون الأخرى في المدينة.
لعب القائد المغربي علي بن عبد الله الريفي الحمامي دورًا حاسمًا في تحرير المدينة وإنهاء الحصار الإنجليزي، ما أسهم في الحفاظ على جزء كبير من هذا المعلم التاريخي الذي لا يزال شاهدًا على فترة مهمة من تاريخ طنجة.
برج كاترين بعد الإصلاح
البرج العريق: من معلمة تاريخية إلى واجهة سياحية وثقافية
في إطار مشروع إعادة تأهيل المدينة العتيقة، حظي “برج كاترين” بنصيب وافر من الإصلاحات التي منحته حلة جديدة تُعيد إليه مجده التاريخي. فمنذ بنائه، لم يشهد البرج تطورًا كهذا، ليصبح اليوم تحفة معمارية تستقطب الأنظار وتبرز كواجهة ثقافية وسياحية للمدينة.
لعبت ولاية جهة طنجة تطوان الحسيمة دورًا محوريًا في تحقيق هذا التحول، حيث وضعت رؤية طموحة لتحويل البرج إلى فضاء ثقافي يعكس تراث المنطقة ويستقطب الزوار من داخل المغرب وخارجه. في هذا السياق، أبرمت الولاية اتفاقية شراكة مع جمعية الكشاف الملكي بطنجة، التي كانت تستغل البرج منذ عام 1959 كمقر لتدريباتها، وذلك لإدارته وتسييره بما يخدم الأهداف الثقافية والسياحية المنشودة.
منذ توقيع الاتفاقية، بذلت وتبذل جمعية الكشاف الملكي جهودًا حثيثة لتحقيق أهدافها، بما في ذلك السعي إلى عقد شراكات مع مؤسسات محلية مثل الجماعة الحضرية ومجلس الجهة، لكنها لم تحظَ بالدعم المنتظر رغم تقديم العديد من الطلبات المتكررة. ورغم هذه التحديات، تظل الجمعية ملتزمة بمواصلة العمل لتحقيق رؤيتها، مستمدة الدعم من الجهود الكبيرة التي بذلتها ولاية الجهة في إعادة تأهيل البرج.
إن تطلعات الجمعية لا تقتصر على تسيير البرج فحسب، بل تمتد إلى تعزيز دوره كفضاء ثقافي نابض بالحياة، يشهد أنشطة متنوعة ويصبح نقطة جذب للسكان والزوار. ولتحقيق ذلك، يبقى التزام المنتخبين والمسؤولين المحليين بدعم هذا المشروع خطوة أساسية لاستكمال ما بدأته ولاية الجهة، وضمان استدامة هذا التحول الذي يمزج بين عبق التاريخ وطموحات المستقبل.
عن مكتب الجمعية