إذا كانت العديد من المؤلفات الإسبانية قد قامت بجرد الألفاظ ذات الأصل العربي في اللغة الإسبانية وبينت حضورها الغزير في هذه الأخيرة، فإن استبيان الوجه الآخر لنفس العُملة، أي الوقوف على الحضور الكبير للكلمات ذات الأصول الإسبانية في الدارجة المغربية (والعامية المستعملة في شمال المغرب بشكل خاص) لم يحظ بالاهتمام المناسب على أهميته الكبرى على المستويين الجيوثقافي والجيوسياسي.
من أجل تدارك هذا الفراغ، صدر مؤخرا للدكتور محمد نوري كتابان يعنيان بجرد ما تيسر من هذا المتن اللغوي الثري والغزير، وقد قسمهما الكاتب إلى:
-مؤلف أول عبارة عن معجم مختصر للألفاظ الإسبانية الأصل المتداولة على المستوى الشعبي في شمال المغرب، ونعني بها الكلمات المشتركة بين كل الفئات المجتمعية باختلاف مستوى تعليمها، وذلك منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات إلى يومنا هذا. في هذا الكتاب الأول، تم الاقتصار على الكلمات التي تعرف تغييرا ما على مستوى النطق (وبالتالي على مستوى الكتابة) و/أو المعنى عند انتقالها من الإسبانية إلى الدارجة المحلية حتى تتأقلم مع اللسان العربي-الأمازيغي المحلي باختلافاته المرتبطة بالانتماء القبلي والجغرافي والمستوى الدراسي ونسبة التمدن.
-مؤلف ثاني يضم، فضلا عن محتويات الأول، ألفاظا كثيرة أخرى من أصل إسباني يتم تداولها أيضا على المستوى الشعبي دون أدنى تغيير، إضافة إلى تعابير تستعمل في المعيش اليومي لهذه المنطقة، ألعابا خاصة بالأطفال وبالكبار أيضا وأسماء أماكن كثيرة.
وللإشارة، فإن هذا المتن اللغوي يضم كلمات (وتعابير) ما زالت تستعمل لحد الآن بشكل واسع ومن طرف مختلف الأجيال في حين أن أخرى ينحصر تداولها فقط عند الأجيال التي ولدت قبل الثمانينات من القرن الماضي وبالتالي لا ندري هل ستظل تُشكل جزء من الدارجة المحلية أم ستنقرض بانقراض هذه الأجيال.
ومن أجل توضيح الاختلافات (عند وجودها) في نُطق هذه الألفاظ، قام المؤلف بإدراج:
-نطقٍ أول خاص بالفئات المتعلمة (على أن هذه الأخيرة تنزع في بعض الحالات إلى النطق الشعبي على خطئه مستجيبة للمأثورة العربية التي تقول بأن “خطأ شائعا أفضل من صواب مهجور”).
-نطقٍ ثاني يهم الأشخاص ذوي المستوى الدراسي البسيط أو بدون لكنهم ازدادوا بحواضر مدن شمال المغرب أو يعيشون فيها منذ مدة طويلة ولسانهم تعَوَّد نسبيا على هذه الكلمات الإسبانية.
-نطقٍ ثالث يتعلق بالأشخاص الذين ينحدرون من أوساط قروية ولم يستقروا في هذه المدن إلا منذ فترة قصيرة لا تتجاوز بعض العقود على أقصى تقدير ولسانهم لم يُصقل بعد.
أيضا، تجدر الإشارة إلى أنه ثمة حالات تم الاكتفاء فيها بنُطق واحد فقط وهي تلك التي تستوي فيها الفئات الثلاث على اعتماد نُطق مُعين (ولو مُحوَّر) وحالات أخرى أفردت فيها المؤلف نوعين من النُّطق لمَّا يكون النطق الثاني مشابها للثالث. كما تم العمل، عند الاقتضاء، على تِبيان الفروق على مستوى مخارج الحروف بين مختلف مناطق الشمال.
ومن أجل جمع مادة المؤلَّف الثاني وتصنيف ألفاظه، قسَّمها الكاتب إلى مجالات استعمال مع إدماج المجالات المترابطة في مجال واحد لاختصار عدد هذه الأخيرة. ويتكون كل مجال من جدول من أربعة أعمدة تضم من اليمين إلى اليسار:
1-الكلمات ذات الأصل الإسباني كما تُنطق في لهجة شمال المغرب مكتوبة بحروف عربية بالإضافة إلى حروف پ، تش و ڭ.
2-هذه الكلمات العربية منسوخة باللغة الإسبانية وفق نظام المقابلة الصوتية بين الإسبانية والعربية.
3-مقارنة بين معانيها أو استعمالاتها في دارجة شمال المغرب واللغة الإسبانية (لأنه ثمة اختلاف في بعض الأحيان).
4-المصدر اللغوي للكلمة في اللغة الإسبانية.
أما بالنسبة للألفاظ التي لا تندرج ضمن المجالات التي تم تحديدها، فتم جمعها في جداول مشابهة أخرى في آخر الكتاب حسب تسلسلها الأبجدي في اللغة العربية مع إدراج حرفي الباء الأعجمية (پ) والكاف الأعجمية (ڭ) -اللذين لا يوجدان في اللغة العربية مباشرة بعد الحرف الذي يقترب منهما نطقا وكتابة أي حرفي الباء والكاف.
وقد تم اعتماد هذه المنهجية المختلفة عن تلك المعتمدة في المؤلَّف الأول -الذي جاء في شكل معجم كما قلنا-لأنها ستساعد على:
-أولا: توفير قراءة سلسة وممتعة للقارئ المغربي المنحدر من شمال المغرب تُمكِّنه من استطلاع المتن العجيب والغزير من الكلمات ذات الأصل الإسباني التي يستعملها في كلامه اليومي والاستمتاع به حتى ولو لم يتوفر على مستوى دراسي عالي.
-ثانيا: جمع عدد أكبر من الكلمات ذات الأصل الإسباني المستعملة في دارجة شمال المغرب لينتبه القراء الإسبان إلى الكم الهائل من الكلمات ذات الأصل الإسباني المستعملة من طرف سكان شمال المغرب.
ثالثا: منح معلومات أكثر وأدق حول هذه الألفاظ والتعابير التي لا يُسعِف المعجم -الذي يقتضي الإيجاز- بتقديمها.
-رابعا: تدقيق حجم التأثير اللغوي في كل مجال وبالتالي تحديد طبيعة النواقل اللغوية والثقافية.
-خامسا: السماح للقارئ والباحث، بفضل تصنيف الألفاظ حسب مجال استعمالها، من الذهاب رأسا إلى اللفظ، معرفة أصله، معناه أو معانيه، هل طرأ عليه تغيير أم لا، مشتقاتُه، التعابير التي يُستعمل فيها، إلى غير ذلك من المعلومات.
-سادسا: تمكين القراء والباحثين الإسبان من استكشاف كلمات كثيرة تم اشتقاقها من مصدر إسباني لكن بما يناسب طريقة تركيب الكلمات في الدارجة المحلية التي تنهل من البناءات اللغوية المحلية المتأثِّرة بالعربية، الأمازيغية، العبرية والإسبانية. عبر مثل هذه الألفاظ، سيتم وضع اليد على التغييرات والمُواءمات التي تحدث عند المرور من الإسبانية إلى الدارجة المحلية.
-سابعا: إطلاع هؤلاء على عدد مهم من الألفاظ الفريدة التي اختفى عدد مهم منها تماما من الاستعمال اللغوي اليومي بإسبانيا بينما لا زالت تستعمل في دارجة شمال المغرب.
-ثامنا: معاينة بعض الاستعمالات المحلية الجديدة التي عرفتها بعض الكلمات ذات الأصل الإسباني.
-تاسعا: تعريفهم ببعض الألفاظ ذات الأصل الإسباني التي تم اختراعها أو تطويرها محليا لتدل على معاني جديدة.
-عاشرا: تمكينهم من استطلاع ألفاظ كثيرة عرفت خلال قرون طوال رحلة ذهاب وإياب مُشوِّقة بين عدوتي مضيق جبل طارق تعكس العلاقة بين ثقافية التي ظلت تجمع ضفتي هذا الفضاء الجغرافي-الثقافي. لهذه الألفاظ العجيبة تم إفراد رعاية خاصة مع العمل على استبيان مصدرها اللغوي.
-إحدى عشر: جعلهم يستكشفون عددا كبيرا من ألعاب الأطفال الموروثة من فترة الحماية والتي اندثر جزء هام منها في إسبانيا كما في شمال المغرب.
وتعكس وفرة هذه الألفاظ من أصل إسباني في المتنَيَين الاثنين حضورا قويا للرافد الإسباني في الواقع والمخيال الشعبِيين لهذه المنطقة الجغرافية بشكل خاص وللمغرب بشكل عام، مثلما تدل الآلاف من الكلمات ذات الأصول العربية في اللغة الإسبانية على الحضور العربي (والمغربي بشكل خاص) في الوعي والثقافة الإسبانيين.
وكِلا الحضورَين في آخر المطاف ينِمَّان عن خصوبة الرَّكازة اللغوية-الثقافية المشتركة بين البلدين، عن تأصل رؤية مشتركة للعالم لدى الشعبين، وعن وجود سجل نفسي-عاطفي جماعي مُقتسم بين الثقافتين.
بيد أنه لا بد من الانتباه إلى مفارقة تستوقفنا اليوم وهو أنه إذا كانت إسبانيا قد تحولت في ظرف وجيز إلى الشريك الاقتصادي الأول للمغرب، وهو ما يُحسب لسياسيي البلدين الذين استطاعوا ضخ جو من الثقة ساعدت على تدفق الاستثمارات والتبادل التجاري، فإنه ثمة تآكل وأفول تدريجيان للحضور اللغوي والثقافي للجار الشمالي في المغرب (وشمال المغرب بصفة أكبر) وذلك لأسباب كثيرة ومتعددة.
وكما يشير الكاتب، فما يهم هو أننا اليوم إزاء إمكانيات هائلة لإعادة بناء العلاقات المغربية الإسبانية وتقعيدها على أسس جديدة لا تهم فقط البعدين الجيواقتصادي والجيوسياسي بل تستنفر أيضا البعد الجيوثقافي الذي يميز البلدين والذي يأتي هذان الكتابان لتسليط الضوء عليه.