بسم الله الرحمن الرحيم
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) · صدق الله العظيم.)) [سورة الفجر، الآية: 28]
في رثاء عزيزنا عبد الإلــه كنـــون الحسني
د. محمد كنون الحسني
لا شك أن المصاب عظيم والخطب جلل.. والفراق للحبيب والعزيز مثار الحزن والألم، بيد أن هذه السنة الإلهية التي يستسلم لها كل مخلوق إنما هي سنة الحياة التي قضاها ربنا على عباده الأولين والآخرين.. ونحن إن عاجلاً أو آجلا في طريقنا إليها.. إذ إن الموت حق ولكل أجل كتاب، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].
من شأن الموت أن يشل التفكير، ويكبل الحركة، ويقيد السلوك، لكنه لا يتحكم في الذكر الحسن والثناء الجميل، ولا يحجب الأعمال والمنجزات، إنه يمنع الجسد من الخلود لكنه يفسح المجال واسعا أمام الفكر والأخلاق والأعمال. لحظة أليمة تلك التي رن فيها هاتفي لأتلقى الخبر، خبر وفاة ابن العم والأخ العزيز الأستاذ عبد الإله كنون دموع صامتة خرجت بحرقة تحمل مشاعر الحزن والاسى شريط مر أمام عيني اختزل عقودا من الذكريات القريبة والبعيدة، رحلت عن دنيانا تاركا لنا طيب عملك وحسن سيرتك، ونقاء سريرتك، وأجمل ذكريات الاخوة التي ربطتني بك، تلقيت نبأ وفاتك المفجع الذي هز القلب بمشاعر مرهفة لم اقو على تحملها، ولم أعد أملك الا الدعاء والتضرع إلى الله أن يتغمدك برحمته الواسعة فهو الملاذ والمخرج الوحيد من حالة الحزن والأسى بكل هذه المشاعر الفياضة. وعندما نستحضر سيرة عبد الإله كنون بعطاءاته نجد أنه كان علامة متميزة في طريق الصعود منذ أن نشأ وترعرع، ومنذ أن طرق منابر العلم، ومجالات تتوزع على المعرفة والحقوق والسياسة، فأعطى ما استطاع أن يُعطي؛ بسخاء كبير وتواضع جم وأخلاق عالية، فسيفنى جسمه، لكنَّ آثاره ستبقى شاهدة جلية عبر
الأجيال. ففي بيت علم نشأ وعلى يد عالم كبير وشاعر مفلق تربى وتلقى مبادئ العلوم، فأبوه هو العالم الأديب الشاعر محمد بن عبد الصمد كنون، وعمه هو علامة المغرب وطوده الراسخ عبد الله کنون سرعان ما تاقت نفسه وتطلعت إلى منابع المعرفة بالشرق فرحل إلى القاهرة مسرح العلوم والمعارف آنذاك لينهل من علم كبار الأدباء والنقاد الذين كانوا يضيئون سماء المعرفة في العالم العربي، لكنه سرعان ما عاد إلى وطنه والتحق بكلية الحقوق بالرباط، ولم يكن مقامه القصير بمصر مجرد رحلة عاد منها سريعا، بل كانت منطلق مواهبه الشعرية، ومعارفه النقدية التي ظلت حاضرة معه طيلة حياته يغديها بقراءاته ويجددها بمتابعه العلمية.
وبالرغم من اشتغاله بمهنة المحاماة وانغماسه في العمل الحزبي فقد ظل رهين العمل الثقافي والفكري لا يبغي عنه بديلا ، فقد أبدع نصوصا شعرية بليغة تندرج في مجال التجديد الشعري وتؤسس لمرحلة جيل السبعينيات من شعراء القرن الماضي، وكان من المؤسسين لفرع اتحاد كتاب المغرب بطنجة رفقة الشاعر أحمد الطريبق، والمربي الشاعر أبو بكر اللمتوني، والأديب محمد الصنهاجي وغيرهم، كما أسس رفقة قرناء له نادي 21 ” وهو جمعية ثقافية أسسها رفقة ثلة من المثقفين نذكر منهم النقيب الطيب الدليرو والأستاذ الشاعر عبد اللطيف شهبون وقد استضافت كبار الشخصيات العلمية وأضاءت سماء المعرفة بطنجة بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كما كان رفقة الأستاذين المرحوم محمد مصطفى الريسوني وعبد الصمد العشاب من المشرفين على تأتيت فضاء مكتبة عبد الله كنون والإشراف على تأسيس جمعيتها والحفاظ على تراثها، وظل وفيا لهذه المؤسسة عاملا على تطويرها حتى آخر أيام عمره، ولا ننسى أن الأستاذ عبد الإله رحمه الله كان من المؤسسين المشرفين على إصدار مجلة مواسم رفقة الأساتذة: أحمد الطريبق، عبد الصمد العشاب، عبد اللطيف شهبون.
إنها مجرد لمحات جالت بذهني وأنى أستحضر سيرة هذا الرجل الذي ودعناه، والذي مهما أغدقنا عليه من مختزناتنا الكلامية فلن نوفيه حقه، ومهما أطلنا المكوث أمام منجزه الخصب.
سيسجل تاريخ هذه المدينة الأستاذ عبد الإله أنه جعل ” الوفاء لها ” سجية، وجمع المكارم وحولها من قول سائر إلى فعل وسلوك، عمل في صمت، وأسدى النصح والإرشاد من بعيد حتى فارقنا ،بغته رحمه الله الرحمة الواسعة، وجزاه الجزاء الأوفى في جنة الخلد التي وعد الله بها المتقون، آمين والحمد لله رب العالمين. وإنا لله وإنا إليه راجعون.