ما بين كسب رهان إشاعة العدل والسكينة والأمن بين المواطنين، وضرورة تنزيل العقاب على المجرمين، وبين مطالب الزجر والعقاب واعتماد مقاربات التأهيل والإصلاح.. ينزل إشكال العقوبات السجنية والحبسية ببلادنا بأحمال ثقيلة على حكامة تدبير المرافق العمومية، سواء منها مرفق السجون أو الجهازين القضائي والأمني.
وما فتئت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، أن دقت الأسبوع الماضي، ناقوس الخطر حول الوضعية الحالية للسجون، داعية كلا من السلطات القضائية والإدارية إلى الإسراع بإيجاد الحلول الكفيلة لمعالجة إشكالية الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية.
وحذرت المندوبية في بلاغها من قلقها البالغ من التزايد المهول في أعداد نازلي السجون، ومنبهة إلى ما يرتبه هذا الوضع الإشكالي المقلق من اختلالات أو حتى انفلاتات أمنية، علاوة عن المشاكل التي من المفروض أن تنتج عنه في ما يتعلق بظروف الإيواء والتغذية والتطبيب والاستفادة من برامج التأهيل لإعادة الإدماج.
ولتجسيد الإشكال، أعرب بلاغ المندوبية أن عدد السجناء بالمؤسسات السجنية قد بلغ، بتاريخ 7 غشت 2023، ما مجموعه 100 ألف وأربعة سجناء، وهو رقم قياسي، علما أن الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية حاليا لا تتجاوز 64 ألف و600 سرير، وذلك رغم المجهودات المتواصلة التي بذلتها المندوبية العامة لتحديث وتوسيع حظيرة السجون بالمغرب.
وخلصت المندوبية إلى أنه من المرتقب أن يستمر تزايد الساكنة السجنية مستقبلا إذا ما استمر الاعتقال بالوتيرة الحالية، ولم تتخذ الإجراءات الضرورية والاستعجالية لتدارك الوضع.
ولم تستسغ رابطة قضاة المغرب مضامين بلاغ مندوبية السجون، حيث سارعت إلى إصدار بلاغ تعرب من خلاله عن استغرابها وتفاجئها، واعتبرت أن المندوبية تحمّل السلطة القضائية سبب الاكتظاظ والتزايد المهول الذي تعرفه المؤسسات السجنية الناتج عن ارتفاع وتيرة الاعتقال، والذي على حد قولها من شأنه أن يؤدي إلى انفلات أمني واختلالات في التسيير.
وأعربت رابطة القضاة عن رفضها المطلق لأي تدخل من شأنه المس باستقلال السلطة القضائية أو التأثير على قرارات قضاتها الملزمين فقط بالتطبيق السليم والعادل للقانون، بما في ذلك تعليل قراراتهم المرتبطة بالمتابعات في حالة اعتقال أو سراح، كما رفضت أي توجيه أو تدخل في الشأن القضائي، الذي لم يغيب يوما توجهات الدولة في السياسات الجنائية واستراتيجية مكافحة الجريمة وإنزال العقاب وجعل الاعتقال استثناء وليس أصلا.
وفي انبرائها دعت الرابطة مندوبية السجون للإطلاع على المجهودات التي يبدلها كل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة في مجال ترشيد الاعتقال، وخلصت إلى القول بأن المخاطب الوحيد لبلاغ المندوبية العامة لإدارة السجون هي رئاسة الحكومة، باعتبارها الوصية على هذا القطاع، لدعوتها لتوفير الإمكانيات المادية واللوجيستيكية اللازمتين لحل هذه المعضلة.
وفي موقف أقل حدة وأكثر روية وحكمة، قالت رئاسة النيابة العامة في بلاغ لها أنها ما فتئت تعمل جاهدة على مواكبة موضوع الاعتقال، والتفاعل مع وضعية المؤسسات السجنية التي تعرف بعضها اكتظاظا في ساكنتها، من خلال توجيه عمل النيابات العامة بمقتضى دوريات أو عقد اجتماعات مع مسؤوليها، وكذا عبر تنظيم دورات تكوينية في هذا المجال، مؤكدة على أهمية ما ورد في بلاغ المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من حيث تشخيص وضعية المؤسسات السجنية والمطالبة بالإسراع في إيجاد الحلول الكفيلة بمعالجة إشكالية الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية لتفادي الانعكاسات المشار إليها بالبلاغ.
وأوضحت رئاسة النيابة العامة، أن عملها في هذا الإطار يأخذ بعين الاعتبار التلازم بين مواجهة استفحال الجريمة وحماية المواطن والمجتمع من آثارها كأولوية، انطلاقا من مبدأ التزامات الدولة في هذا الاتجاه، وتفاديا لنسف جهود المصالح الأمنية والشرطة القضائية في محاربة الجريمة من جهة، وتكريسا لدور القضاء في تفعيل مبدأ حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحريتهم وأمنهم القضائي، من جهة أخرى، مؤكدة في نفس الصدد، أنه انسجاما مع هذا التوجه، ووعيا من النيابات العامة بضرورة عقلنة تدبير الاعتقال، فقد دأبت على عدم اللجوء إلى إعماله إلا عند الضرورة، وهو ما تعكسه نسبة الاعتقال التي لم تتجاوز 24 في المائة من بين المقدمين أمامها والبالغ عددهم 309 ألف و259، خلال النصف الأول من هذه السنة، وهي نسبة تبقى جد معقولة مقارنة مع النسب المرتفعة المسجلة لدى بعض الدول الأخرى.
واعتبرت رئاسة النيابة العامة أنه انطلاقا من هذه الإكراهات، فإن مقاربة معالجة الجريمة تختلف من دولة لأخرى حسب خصوصيتها والثقافة السائدة لدى مواطنيها، وبالنسبة لبلادنا فإن الأمر يتطلب العمل المتواصل من أجل تغيير الثقافة السائدة حاليا لدى فئات من المواطنين الذين يرون أن العدالة الجنائية الناجعة تكمن في الاعتقال، وأن الردع الصائب هو العقوبات السالبة للحرية في جميع القضايا، وإلا فإن هذه العدالة تبقى منتقدة وغير مجدية، علما أن القضاء بصفة عامة لا يأبه بهذا الاتجاه، وإنما يحرص على التطبيق السليم والملائم للقانون.
وشددت على أنه أمام هذه الوضعية، فإن الأمر يقتضي معالجة موضوع اكتظاظ المؤسسات السجنية من خلال مقاربات متعددة تروم أنسنة المؤسسات السجنية، وتوفير الظروف الملائمة للعاملين بها لأداء مهامهم بيسر، مع استحضار استمرارية ضمان أمن وسلامة المجتمع.
وعلى صعيد تقديم الحلول، قالت إنها سوف تواصل دورها التأطيري والتحسيسي لقضاة النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم من تدابير وفق ما يفرضه القانون، من أجل بذل المزيد من الجهود بهدف ترشيد الاعتقال الاحتياطي، فيا دعت إلى عقد لقاء، خلال الشهر المقبل، يجمع المؤسسات والجهات المعنية لمناقشة الموضوع، وكل الآراء والمقترحات والإمكانيات المناسبة لتجاوز كل الصعوبات والإكراهات التي ترتبط بتدبير الاعتقال الاحتياطي ووضعية المؤسسات السجنية، في أفق تدخل المشرع في المنظور القريب لإيجاد الحلول التشريعية المنتظرة، سواء ما يتعلق بسن مقتضيات حديثة من شأنها تعزيز بدائل الاعتقال الاحتياطي، والتعجيل بإخراج المقتضيات المتعلقة ببدائل العقوبات السالبة للحرية، وأيضا قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بصفة عامة.
وخلصت إلى القول بأنه بالنظر إلى التطور النوعي الذي عرفته مظاهر الجريمة في السنوات الأخيرة، سواء من حيث خطورة الأفعال المرتكبة، أو الوسائل المستعملة فيها أو طبيعة الأشخاص الذين يقترفونها، بذلت المصالح الأمنية والشرطة القضائية بكل أصنافها ولا تزال، جهودا مضنية لمواجهة كل الخارجين عن القانون، وضبطهم وإحالتهم على النيابات العامة المختصة، وذلك بهدف الحفاظ على أمن وسلامة الأشخاص وحماية ممتلكاتهم، وإشاعة الطمأنينة والأمن بالمجتمع.
وختاما، يمكن القول أنه من الحكمة البحث عن علاج أسباب الجريمة قبل مناقشة أسلوب العقاب، فضلا عن كون أسلوب رمي الكرة وتحاشي تحمل المسؤوليات لا يليق بمؤسسات الدولة من حجم مرفق العدل، ويبقى أنسب حل هو البحث عن حلول عميقة متقاطعة ومتكاملة، وفق مقاربة شاملة وبنيوية، من أجل إيجاد حلول لتفشي الجريمة بداية، ثم البحث عن العقوبات البديلة وكيفيات تجاوز إشكال الاكتظاظ بالسجون.
أمل عكاشة