مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
حَمْداً لِلَّهِ على آلائه.. وشُكراً للَّه على نَعْمَائه..
وبعدُ،
فقد شاءَ اللَّهُ أن أحظى بصُحْبةٍ إنسانيَّةٍ وعلميَّةٍ كريمة مع عزيزي المرحوم سيدي عبد الله المرابط الترغي..
وكانت صُحبتُنا مؤصَّلةً بين والِدَيْنا رحمهما الله، ممتدَّة بيْننا طيلة خمسة عقود..
وبالتفاتةٍ طيِّبَة من سيدي الأمين المرابط الترغي -حفِظه الله- أسْعَدُ بكتابة هذا التقديم لهذه الموسوعة التَّرغيّة التي تُدَلِّلُ على بزوغ فضائل سيدي عبد الله وعموم فواضله التي مدَّ ويمُدُّ الله ظلَّها في أرض بحوث وعلومٍ.. ورفَعَ ويرفع الله مَحِلَّهُ في سماء نبوغٍ وفهوم..
تستوقفنا المنجزات العلمية لسيدي عبد الله وهي غزيرة وفريدةٌ وجلها غير مطبوع.
وسأكتفي في مقام التقديم هذا بالإلماع إلى عَمَليْن جليليْن، حازَ بهما سيدي عبد الله قَصَب سَبْقٍ في فضاء الدراسات المغربية.
أولا- توسَّع سيدي عبد الله في عمله الموسوم بـ «فهارس عُلماء المغرب..» في بَسْط سياقٍ مفْهومِيٍّ للفهارس (بإشراف أستاذنا المرحوم الدكتور سيدي عبد السلام الهراس):
– تناولَ برامج وفهارس ومعاجم ومَشيخات وأثْباتٍ وكُتب رجال وأسامي شيوخٍ ومسموعاتٍ ومَرْوياتٍ وتَواليف ومجاميع ومَسانيد وإجازاتٍ وكُنَّاشاتٍ..
– أوضَحَ مُكوِّنات هذه الفهارس من حيث مَرْوياتُها وأسانيدُها وشيوخُها وطرقُ أخذِها وأثرُها..
– حَدَّدَ حوافزَ تأليفها..
– صَنَّفها تصنيفاً دقيقاً ومُبْتَدعاً إلى فهارسَ جامعةٍ وانتقائيةٍ وجُزئيَّةٍ واسْتدعائيّةٍ وسَنديّةٍ وطَبَقيّة ورِحْليّة وإجازيّةٍ وصوفيّةٍ ونَظْميّة..
– دَرَسها في سياقيْن حضارِيَيْن؛ مغربيٍّ وأندلسيٍّ.
– أبرز خاصياتِها من حيث الاستقلاليةُ والإيجازُ.. في إطارٍ زَمنِيٍّ جديدٍ يُغطِّي مساحات المئة الخامسة حتى نهاية المئة الثانية عشرة للهجرة.
– ختَم بالتذكير أن مُنجَزَهُ مَحكومٌ بضَرْبٍ تأليفيٍّ، وَسَمَ العمل التربويَّ والتعليميَّ والعلمي بالوظيفيَّة والجوْدة والقيمة..
ثانيا- في عمله الثاني الموسوم بـ «حركة الأدب في المغرب على عهد المولى إسماعيل (1082-1139هـ) دراسة في المكونات والاتجاهات» (وهو أول دكتوراة/ دولة نُوقِشتْ بآداب تطوان مطلع تسعينيات القرن الماضي بإشراف أستاذنا العميد الدكتور سيدي محمد الكتاني حفظه الله).
– أبرز سيدي عبد الله رحمه الله اتجاه علماء المغرب في شُروحهم الأدبية إلى مُدوَّنات الشعراء ومُطوَّلاتهم ومقْصُوراتهم؛ حيث عرَفَ الشَّرحُ الأدبيُّ اهتماماً خاصا بالمديحيات والوصْفيات والرثائيات.. وارتكزَ مِنهاجُهم الإبلاغيُّ على تحديد الأهداف وتعميق الوعي بالقضايا وإبراز الكِفايات العِلمية والأدبية.. مع إيلاء اهتمامٍ خاص بالنَّبويَّات والوَلَوِيَّات..
– أوضحَ أن قصيدة كَعب بن زُهير احتلَّت مركزيَّة الصدارة..
– بَيَّن انصراف الشُّرَّاح على الغريب وتحقيق الرواية..
– بَسطَ اهتمام الشراح بكُتب السيرة النبوية الشريفة خاصة سيرة ابن هشام..
– قدَّم بياناتٍ عن تفاوُت هذه الشُّروح من حيث التوسُّع والإيجاز وتنوع الشروح اللغوية والأدبية والصوفية والإخبارية.. واهتمام الشراح بثلاثة مَناحٍ:
أ- منحى الاهتمام بالسيرة النبوية (نموذج: شرح ابن يجبش في مغازيه والكلاعي في «الاكتفاء» والسُّهيلي في «الروض الأنُف» والخُشَنِيّ في شرح غريب السيرة.
ب- منحى يرتبط بشرح النص منذ البداية من قبيل شرح أبي زيد خالد بن عبد الجبّار المرْواني وشرح عيسى بن عبد العزيز الجزولي وشرح محمد العربي بن يوسف الفاسي.
ج- منحى عام، حيث تندرج فيه شروح محمد بن سعيد المرغيتي والناصري واليوسي وبناني والحضيكي والسجلماسي وبنسودة وغيرهم..
والخلاصة إن هذا الجزء من أطروحة سيدي عبد الله والذي خصصه للشروح كشفاً وتبْييناً وإيضاحاً وتفسيراً وفهماً وافتضاض أفكار..
وفي مُكوِّن خاص بالمفاهيم النقدية والأدبية والبلاغية والشعرية توقّف سيدي عبد الله على قضايا في غاية الدقة من قبيل:
التوجيه الأدبي والبلاغي.. والقصْد.. ومعايير فصاحة الكلام.. والقصد اللغوي في صُنع المجاز.. والكناية.. ومفهوم دلالتَيْ التضمين والالتزام وما يترتَّب عنها..
وعزّز ذلك كله بالوقوف على شِقِّ تطبيقي تناول فيه قضايا المشاكلة والاقتباس والتوْرية والتوجيه عند اليوسي، وقضية الاقتباس عند جسوس، وقضايا التقْفية والموازنات الصوتية والتفريع من خلال تقييد محمد بن حمدون بناني.
وحصر سيدي عبد الله هذه القضايا المتعلقة بالدرس النقدي والأدبي في اتجاهيّن؛ اتجاه عقلي مثّّله الولاّلي في كتابه «مواهب الفتاح» واتجاه فني مثّله شرح ابن زاكور ببديعية الحِلِيِّ.
وفي مُرتكز خاص بعوالم التأليف الأدبي في الفترة موضوع الدرس اهتم سيدي عبد الله برصْد أجناس قوليّة مع التعريف بأصحابها واستحضار نماذج من مراجعاتهم ومُكاتباتهم ومساجلاتهم ومجاميعهم ودواوينهم..
واهتم سيدي عبد الله بتحليل ظاهرة الحركة الأدبية في الزمن الإسماعيلي فقدّم قراءة سياقية همّت جوانب التاريخ والسياسة والاقتصاد والفكر والثقافة.. رابطا ذلك بجدلية عمل المراكز العلمية في الحواضر والبوادي وما قامت به الزوايا الصوفية في المجاليْن التربوي والعلمي..
ولم يغب عن اهتمام سيدي عبد الله بسْط موضوع أدب الرحلة في العصر الإسماعيلي مُتوخياً دقة وتحرياً واستقصاءً ونظراً جامعا مُحيطا؛ التزاما بمقولات المنهج التاريخي.
أسْدى سيدي عبد الله -رحمه الله- خدمات على قدر كبير من العلمية؛ التزاماً بمَسير شيوخه المُبرَّزين فأغنى المكتبة المغربية وفتح آفاقا بحْثية كُبرى في مجال الأدب المغربي والأندلسي (وهو فارس لا يُضاهى).
فالله سبحانه نسأل أن يُثيبه على دلائل خيراته، والحمد لله على ذلك.
عبد اللطيف شهبون
أستاذ التعليم العالي