رسالة في كيفية تسفير الكتب،
للعلامة المتفنن أبي فارس عبد العزيز الرسموكي،
تحقيق وتقديم: الدكتور المهدي بن محمد السعيدي.
تقديم:
إن للتراث المغربي لأوجها عديدة ومجالات مختلفة كثيرة، شاملة مختلف العلوم والفنون، والتاريخ والآداب والفكر والفلسفة، والمهارات والعادات والثقافة، تبرز تجليات الحضارة المغربية، وقوتها وأصالتها وعمقها، المستند إلى خبرات الأسلاف، وإلى ما تراكم عبر السنين من معارف وأفكار، وتواطأت على ثوارته الأجيال، فكان كل جيل يأخذ من سلفه، ليضيف ما تمليه حاجته، وما يقتضيه زمنه، وما تبدعه قريحته، ثم يسلم ذلك إلى خلفه، ليحسن وينمق، وهكذا استمر العطاء والإبداع عبر السنين.
وقد شمل هذا التطوير وذاك الإنماء مختلف الأنماط المعرفية والمهارات الفكرية، ومنها ما تعلق بصناعة الكتاب وهو ما يدور حوله هذا الكتاب، فقد وردت هذه المهارات من المشرق مع ورود الكتاب العربي، ثم ما لبث الغرب الإسلامي أن أسهم في تطوير الكتاب، بل ابتكر خطوطه الخاصة، وطوّع الوراقة لما توفر في بيئته من مواد، وما أمكن صنعه من حاجات، وكانت حواضر المغرب كفاس وسبتة ومراكش وغيرها رائدات في هذا المجال، نافست الحواضر الأندلسية، ثم ورثت نبوغها بعد اندراسها، مع اتساع حركة التعليم في المغرب، وظهور المدارس في مختلف بقاعه، حتى وصلت إلى المناطق النائية في الجبال والصحارى، ونبغ المغاربة في صناعة الكتاب، وظهرت مقيدات ورسائل خاصة بالتأليف في النساخة والتزويق والتسفير وسائر ما تعلق بالوراقة، ومنها: رسالة «التيسير في صناعة التسفير» لبكر بن إبراهيم اللخمي الإشبيلي نزيل فاس في العصر الموحدي (ت 628هـ) (حققها ونشرها الأستاذ عبد الله كنون في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، المجلدان السابع والثامن، مدريد1959/1960، ومن غريب الوقائع أن هذه الرسالة سطا عليها بعضهم ونشرها بالرباط ونسبها لنفسه، مع أن محققها هو العلامة گنون رحمه الله تعالى.) ومنظومة في تسفير الكتب، لأبي العباس أحمد بن الحسن بن يوسف ابن عرضون (ت 992هـ) (أشار إليها الأستاذ المنوني في الوراقة المغربية، ص:86.) و«تدبير السفير في صناعة التسفير»، لأبي العباس احمد بن حميدة المطرفي دفين مراكش (ت1001هـ) (نشر بالرباط سنة 2012.) ثم رسالة «تسفير الكتب وحل الذهب» للسفياني (ت 1029هـ) (نشرها الفرنسي ريكار جامعا بين الأصل العربي وترجمته إلى الفرنسية، بالمطبعة الشرقية بباريز سنة 1925) ورسالة في كيفية تسفير الكتب لعبد العزيز بن أبي بكر الرسموكي، (ت1065هـ)( وهي التي نحن بصددها هنا بحول الله.) و«نظم لالئ السمط في حسن تقويم بديع الخط» لأبي العباس أحمد بن محمد الرفاعي الرباطي (ت1256هـ) (صدرت ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بتحقيق محمد صبري سنة 1434/2013.) وشرحه عليها بعنوان «حلية الكتاب ومنية الطلاب» (صدرت ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بتحقيق عمر أفا، سنة 1441هـ/2020.) وغيرها مما لم تصل إليه أيدي الباحثين بعد، ومعلوم أن وجود أمثال هذه المؤلفات دليل على نشاط كبير في صناعة الكتب، شهده المغرب عبر القرون، وهو ما استعرضه الأستاذ العلامة المرحوم محمد المنوني في كتابه النفيس تاريخ الوراقة المغربية.
أسباب الاهتمام بالرسالة:
وفي هذا السياق يأتي اهتمامي بنشر هذه الرسالة الطريفة النفيسة للعلامة المتفنن أبي فارس عبد العزيز الرسموكي، (ت1065هـ) المشهور بنباهته في العلم والقضاء والفروسية والتربية والتعليم، إضافة إلى إتقان الصنائع المتعلقة بالوراقة، وناهيك بتلميذه الإمام اليوسي الذي وصفه بالإجادة في النساخة والتسفير، وتعد هذه الرسالة مهمة جدا لأنها تدل على:
- حذق العلامة الرسموكي حرفة التسفير، وضبطه وإتقانه مختلف مراحلها، كما وصفها في رسالته هذه، كما أخذها تطبيقا على أحد شيوخها المجيدين، حسب ما ذكر في كتابه هذا.
- تمكن العلماء السوسيين وطلبتهم من مختلف مهارات الوراقة، من نسخ وتسفير وتزويق، وتحفل المصادر بأسماء كثيرين منهم.
- تمثيل مختلف مهارات هذه الحرفة التي كانت منتشرة في سوس قديما، في المدارس والمراكز العلمية، لحاجة الناس إليها، ثم صارت تختفي وتتقلص شيئا فشيئا بانتشار الطباعة، وإقبال الناس على المطبوعات حتى اختفت أو كادت إلا أفرادا قليلين مهروا فيها وزاولوها.
- مجاراة بادية سوس الحواضر المغربية في مضمار الوراقة، بفضل انتشار مدارس العلم، وكثرة الخزائن الخاصة والعامة بها، فكان لزاما ظهور مقومات صناعة الكتاب لتفي بحاجة الناس للكتب والمؤلفات، وقد نبغ من النساخ السوسيين جماعة من الأعلام المهرة الكبار، الذين استقروا بالحواضر وظهروا على الأقران.
المؤلف العلامة الرسموكي:
أما مؤلفها العلامة الرسموكي، فكان نابغة عصره، مجليا في عدة علوم وفنون، ويكفي ما حلاه به علماء عصره، قال عنه الرسموكي في وفياته: «العلامة الدراكة النحوي اللغوي الأديب الحيسوبي القارئ شيخنا سيدي عبد العزيز بن أبي بكر بن أحمد بن يعقوب الرسموكي البرجي، رحمه الله وغفر له وأسعده بلقائه، شهيدا غريقا في الوادي بهشتوكة يوم الجمعة التاسع من جمادى الثانية عام خمسة وستين وألف ودفن يوم السبت بحصن بني زكرياء بهشتوكة، وهو على قضاء الجماعة بإيليغ لوفاته رحمه الله، وكان تقليده للقضاء العام، أواخر المحرم عام أربعة وستين وألف.» (وفيات الرسموكي، حققه وهيأه للطبع العلامة محمد المختار السوسي، ص: 15، مطبعة الساحل الرباط، 1408/1988.) وحلاه الإمام الحضيگي، بقوله: «كان رحمه الله عالما عاملا، نحويا أديبا حسابيا، علامة دراكة، له تآليف عديدة مفيدة، وقصائد ومقطوعات عجيبة مليحة، من مصنفاته نظم العلوم الفاخرة.» ( طبقات الحضيگي، تحقيق أحمد بومزگو، 1/504، دار النجاح الجديدة1427/2006) وقال عنه تلميذه الإمام اليوسي: «الإمام الماهر أبو فارس عبد العزيز بن أحمد الرسموكي قرأت عليه جملة من محتصر خليل، قراءة تحقيق. وحضرت عنده في تصريف الفعل. وله ولأهل بلده في ذلك طريقة نافعة… وكان رحمه الله مشاركا في فنون من العلم. وألف عدة تآليف. وكانت له نجدة وقوة وحزم في أموره كان يعلف فرسه بيده، ويباشر مآربه بنفسه، يركب الجياد من الخيل، ويتقلد سلاحه. وكان له خط رائق، يكتب ويتقن غاية الإتقان.» ( فهرسة اليوسي، تحقيق زكرياء الخثيري، ص:59 دار الكتب العلمية، بيروت لبنان 2009.)
موضوع الرسالة:
تناول أبو فارس الرسموكي في رسالته تقنيات تسفير المخطوطات، والمواد المستعملة، والمهارات المطلوبة، مبينا ما ينبغي القيام به، ليكون التسفير جيدا وافيا بالمراد، في الحفاظ على الكتاب وصيانته من التمزق والتلف والاندثار، فكلما كان التسفير متقنا، طالت مدة بقاء الكتاب ودامت الاستفادة منها، وهكذا تحدث عن صناعة دفتي الكتاب، وصنع الغراء، وخرز الكراريس ولصقها، ثم تسفير الكتاب، وصناعة الحبك، وأخيرا صنع اللوحة، ووضع الطابع عليها.
ولا تكون غاية المسفر تمتين الكتاب، وجعله مقاوما لعوامل الزمن، متجاوزا تقلبات الأيام، وحيثيات التناول والاستعمال، واختلاف أحوال الجواء، حرارة ورطوبة، وإنما يهتم كذلك بجمالية التسفير، وزخرفة الجلد أو تذهيبه بمختلف الأشكال والألوان، لتكون صنعته حماية للمخطوط وصيانة له من الناحية العملية، وتمثيلا لمحبته للكتاب، واعتزازه بالعناية به، وتفانيه في إسهامه في صيانة مصادر المعرفة، وتنميقها وتجميلها من الناحية المعنوية.
هكذا تكون هذه الرسالة النفيسة في غاية الأهمية، إلى جانب كونها مما ألف عبر التاريخ في مختلف بلاد المغرب والأندلس المنضوية تحت لوائه في عهدي المرابطين والموحدين، وقد صدرت نشرة سابقة للرسالة في جزء صغير بالرباط2008، غير أنه اعتورتها أخطاء كثيرة وتصحيفات عديدة، مخالفة للمنهج العلمي للتحقيق، إضافة إلى اعتماد النشرة على نسخة وحيدة، ولمّا وقفت على عدة نسخ، رأيت أن أنهض بتحقيقها، وأضفت إليها ترجمة واسعة مستفيضة لمؤلفها العلامة الرسموكي، جامعة لأشتات ما ورد عند السابقين، ومضيفة ما جدّ العثور عليه في المصادر والمراجع، مع نشر نصوص مخطوطة له، لم تنشر قبل، مثل قصيدته في نصح الأمير أبي حسون السملالي، وقصيدته في الحث على قيام الليل، ثم نشر نموذج لخطه من نسخه كتاب درة الخواص لابن فرحون، فرغ منه في ذي الحجة عام 1052هـ، وهو محفوظ بمؤسسة عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء.
صدرالكتاب في 120 صفحة من القطع الصغير، عن مطبعة صوم برانت بأگادير، هذا الأسبوع من شهر محرم / غشت 1445هـ/2023.