في سياق الرؤية المتبصرة لجلالة الملك، أمير المؤمنين، لإشكالية الفتوى وارتباطها بمظاهر الفتنة، نظمت مؤسسة محمة السادس للعلماء الأفارقة، ندوة علمية دولية بمشاركة أزيد من 350 عالما وعالمة من مختلف الأقطار والقارات، للتباحث في موضوع ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي.
ومن منطلق استيعاب التراث الغني، المتمثل فيما رسخه السلف الصالح، عبر القرون، من الروابط المتينة والمتعددة الأبعاد بين المملكة المغربية وبلدان إفريقيا جنوبي الصحراء، القائمة على الثوابت المشتركة بين المغرب وبين أشقائه الأفارقة في العقيدة وفي المذاهب السنية المعتدلة، فقد أضحت الضرورة ملحة، لإنشاء إطار مؤسسي للتواصل بين العلماء والفقهاء والمفتين، من أجل بناء تصور علمي متين عن الفتاوى الشرعية، مقيد بالأصول الشرعية المعتمدة، ومحصن من آفات الغلو والتطرف والتقول في شرع الله بغير علم.
ولعل التحديات عديدة وجسيمة، إذ تنبهت الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين إلى أنه في هذا العصر، لا يأمن بلد إلا بقدر ما يكون البلد الجار آمنا، إذ نرى أن الفتنة تعبر الحدود كما تعبرها الزوابع والرياح. هذا فضلا عن ما تطرحه التحديات المستجدة، المرتبطة بتطور الحياة الاجتماعية والحضارية في شتى مناحيها، وضرورة تنزيل الأحكام الشرعية عليها، الأمر الذي يلقي على عاتق العلماء مهمة التأثير الإيجابي في الناس، وذلك بأن يبينوا لهم محاسن الوسطية والاعتدال، وأن يقوموا مقابل ذلك بنفي التأثير السلبي للأصناف المتطرفة الجاهلة في عقول الأبرياء، لاسيما وأن هؤلاء المنحرفين يدرجون جل كلامهم عن الدين في صنف الإفتاء والفتوى، لما لها من القدسية في أذهان الناس.
وعن توجيهات الرسالة السامية، فقد ورد فيها أن اللقاء العلمي “حري بأن يعمق لدى المسلمين اليوم معنى الوسطية، امتثالا لقوله تعالى : “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”. وهذا التوجيه الإلهي يجسد اليوم مدى ضرورة تجنب التطرف والتفرقة، وهو دعوة الناس دعوة ملحة إلى الاعتدال، والحرص على طمأنة ضمائر الناس فيما يتعلق بالخلاف في بعض الجزئيات، والعزم الأكيد على التعاون والتشاور الدوري بين العلماء على الصعيد الإفريقي، لمتابعة المستجدات في باب الطلب والاستجابة في باب الفتوى، وحرص المفتين على الاجتهاد لإدماج السلوكات الثقافية المحلية في دائرة المقبول الشرعي، ما لم يكن فيها ما يناقض القطعيات”.
كما أشارت التوجيهات السديدة لصاحب الجلالة إلى أهمية الأخذ بإيجابيات التواصل عبر التقنيات الحديثة، مهيبة بالحاضرين إلى استغلال حسنات التواصل، الذي سيمكن من الاجتهاد المستمر وتبادل الخبرات والتجارب، “حيث تستفيد كل جماعة من العلماء، في بلد من البلدان، من علم مجموع علماء إفريقيا الملتزمين بهذه المبادرة، مع احتفاظ علماء كل بلد بحقهم في مراعاة خصوصيتهم”.
وما كان لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة وبإجماع الحاضرين إلا أن تنوه بالنموذج المغربي في مجال الإفتاء، الذي أضحى بفعل النظر السديد لأمير المؤمنين عملا مؤسسيا، مسند إلى هيئة مختصة، لها اختصاصات حصرية في الإفتاء وتصدر أحكامها بشكل جماعي. وهو ما جنّب المغرب ـ حسب البيان الختامي ـ من ظاهرة التسيب في إصدار الفتاوى، الذي أدى في كثير من البلدان المسلمة إلى آفات من النزاع والصراع والتعدي على المنهج وانتهاك المحرمات.
وخلُص العلماء الحاضرون إلى الإجماع على جعل مضمون الرسالة الملكية السامية بمثابة خريطة طريق للعمل مستقبلا في خدمة الإفتاء الشرعي المنضبط، ولاسيما منها الالتزام بتوحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين من المغرب وباقي البلدان الإفريقية الإسلامية للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها، إلى جانب القيام بمبادرات من شأنها تفعيل قيم الوسطية والاعتدال والاجتهاد في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في إفريقيا، فضلا عن إدماج الواقع المعيش في الدين الذي ابتكر فيه علماء المملكة المغربية مفهوم ما جرى به العمل، بما يقتضي من مراعاة الممارسات الثقافية الفضلى للناس وعدد من عوائدهم الاجتماعية ومصالحهم الدنيوية المنسجمة مع توجيهات الدين.
كما توحدت مخرجات العماء في ضرورة التأثير الإيجابي في الناس، وذلك بأن يبينوا لهم محاسن الوسطية والاعتدال، وأن يقوموا مقابل ذلك بنفي التأثير السلبي للأصناف المتطرفة الجاهلة في عقول الأبرياء، مع التمييز بين الفتوى التي تمت مأسستها في هيئة علمية مختصة تفتي في الأمور ذات الصلة بالحياة العامة، وبين ما يقوم به العلماء كأشخاص بإرشاد الناس وبيان الأحكام الدينية المقررة، وذلك على غرار ما قامت به المملكة المغربية من جعل الفتوى في الشأن العام موكولة لمؤسسة جماعية من العلماء العدول الوسطيين الذين يلتزمون بثوابت بلدهم ومذهبهم الشرعي.
ويشار في الأخير إلى أن رؤساء فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بمعية كافة العلماء الحاضرين اغتنموا فرصة اللقاء لإطلاق نداء أخوة وتراحم إلى كل المتدخلين من خارج إفريقيا في الشأن الديني لبلدان هذه القارة، حتى يكفوا عن التأثير على العقيدة التي اختارها الأفارقة بفطرتهم، داعين إلى الكف عن التأثير على المذاهب الفقهية السنية التي شكلت عبر القرون ثوابت الممارسة الدينية عند أهل البلدان الإفريقية، خاصة بالنظر إلى ما يجرّه هذا التأثير على المسلمين الذين هم أحوج ما يكونون إلى السلم واليقين وإظهار الإسلام على ما ينبغي أمام العالم.
أمل عكاشة