صدر عن دار الإحياء للنشر والتوزيع بطنجة كتاب “انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره” لمؤلفه رائد الفكر الإصلاحي بالمغرب في النصف الأول من القرن العشرين محمد بن الحسن الحجوي (1874- 1956م)، دراسة وتعليق الباحث محمد بكور. والكتاب عبارة عن مذكرات الحجوي عن فترة وظيفه في وجدة أمينا لديوانتها وعضوا في الوفد المخزني الذي أرسله السلطان مولاي عبد العزيز لحماية وجدة من الروكي بوحمارة الذي كان قد أشعل ثورته بتازة ونواحيها. ويقع الكتاب في 184 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم قسمين: قسم أول مخصص للدراسة وقسم ثان لمتن النص.
وقد تناول المحقق في قسم الدراسة السياق التاريخي العام لأحداث ثورة بوحمارة، وذكر أن وفاة السلطان المولى الحسن عام 1894م شكلت بداية مرحلة جديدة من تاريخ الدولة المغربية، اتسمت بضعف السلاطين العلويين وكثرة الاضطرابات والفوضى الداخلية وزيادة التداخل الأوربي في الشؤون الداخلية للمملكة الشريفة الذي تعاظم بعد وفاة الصدر الأعظم باحماد عام 1900م، وتصدُّرِ السلطان الشاب المولى عبد العزيز لإدارة مملكة واسعة أنهكتها الاضطرابات الداخلية وتكالبت عليها الأطماع الأجنبية دون أن يكون مهيئا بعد لهذه المهمة، ليس فقط بسبب نقص خبرته وقضائه الست سنوات الأولى من حكمه محجورا عليه، ولكن أيضا لميله إلى الدعة والسكون وتثاقله عن اقتحام شدائد الأمور وبذله الأموال الطائلة في سبيل تحصيل أدوات التسلية والترفيه التي أنتجتها الحضارة الأوربية.
وفي خضم هذه الأوضاع اشتعلت الثورات ضد الدولة العزيزية، وكان من أخطرها ثورة الروگي بوحمارة في المغرب الشرقي، فهذا الدّعي الذي انتحل اسم مولاي مَحمد بن السلطان المولى الحسن وزعم أنه الابن الأكبر للسلطان والأحق بوراثة العرش، تلقى بيعة القبائل الواقعة بين فاس وتازة سنة 1902م، ثم التفت حوله قبائل المغرب الشرقي والريف، وعضّده ثوار آخرون مثل أبي عمامة وأبي حصيرة وعبد الملك بن الأمير عبد القادر الجزائري، فأشعل ثورة عارمة ضد المخزن مكنته من إلحاق هزائم قاسية بجيشه المتداعي، واستصفى ما بقي من أموال في خزائنه، فسقط السلطان عبد العزيز في دوامة الاقتراض من أوروبا وأصبح تحت رحمتها.
ويذكر المحقق أن كتاب الحجوي يعد نموذجا للمذكرات السياسية التي ألفها المغاربة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ تُقدم صورة جلية عن الوضع السياسي في المغرب مطلع القرن الماضي قبيل فرض معاهدة الحماية، خصوصا ثورة الجلالي الزرهوني الشهير بلقب”بوحمارة”. وتكتسي هذه المذكرات أهمية بالغة، ليس فقط لأن صاحبها كان أحد المشاركين في الحوادث التي يروي أخبارها، بل لأنه يُعد من كبار رجال العلم والسياسة المغاربة الذين عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين وخلفوا ميراثا علميا غزيرا كان له أعظم الأثر في الفكر المغربي لاحقا.
وقد عاصر الحجوي مرحلة تاريخية حاسمة شكلت منعطفا حادا في تاريخ المغرب المعاصر وأسفرت عن تحولات عميقة في البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ولم يعش على هامش تلك الأحداث، بل كان فاعلا فيها ومؤثرا في ماجرياتها، إذ انخرط منذ شبابه في الجهاز المخزني فخبر آليات اشتغاله ونقائصه، وأدرك بثقافته المنفتحة أن عتاقة بنيات الدولة المغربية تقف عائقا أمام كل محاولة إصلاحية، وأن المسار العام للحوادث بالمغرب قبيل الحماية كان يقود البلاد بخطى حثيثة نحو الاستعمار.
ولأجل ذلك شكل الهاجس الإصلاحي عنصرا محوريا في كل كتاباته سواء الفقهية أو السياسية أو التاريخية. وقد تضمن كتابه “انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره” معطيات كثيرة عن قضية الإصلاح والنظام والحكومة المخزنية ومؤهلات كوادرها ووضعية المؤسسة العسكرية والجهاز المالي، إضافة إلى موضوعها الرئيسي أي تتبع أخبار ثورة بوحمارة.
وبخصوص ظروف التأليف يرجّح المحقق أن يكون الحجوي قد ألف كتابه هذا في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، إذ من الواضح أنه جاء للرد على ما كتبه ابن زيدان في الجزء الأول من كتابه “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس” المنشور سنة 1929م عن ثورة الروگي بوحمارة، حيث عمد إلى الاختصار الشديد في عرض أطوار هذه الثورة وقفز على أحداث ذات أهمية بالغة، كما تجاهل الأدوار التي قام بها رجال الوفد المخزني في وجدة لمحاربة الثائر، ومن ضمنهم المؤلف الحجوي. ومن ذلك يتبين أن الحجوي كتب مذكراته لتصحيح أخطاء ابن زيدان وعرض “الحقيقة التاريخية” كما يسميها، إضافة إلى رد الاعتبار لنفسه وتوضيح مساهمته في أعمال المخزن بوجدة لمواجهة الروكي بوحمارة.
ويحظى نص الحجوي بمصداقية علمية قوية لأن صاحبه عايش تلك الأحداث ودوّن تفاصيل أخبارها حين وقوعها، إضافة إلى حيازته لوثائق رسمية من ظهائر ورسائل مخزنية. وقد حرص على تضمين تلك الوثائق (أزيد من ثلاثين وثيقة) في ضميمة خاصة جعلها ملحقا لكتابه، غير أنها للأسف مفقودة ولا توجد ضمن مخطوطات الحجوي المحفوظة بالمكتبة الوطنية بالرباط.
ويضم الكتاب في أصله المخطوط مائة وإحدى عشرة صفحة، إضافة إلى رسالة مفتوحة إلى السلطان المولى عبد الحفيظ. وتناول حوادث ثورة بوحمارة من بدايتها إلى تاريخ استعفاء الحجوي من مهامه بوجدة، مع إشارات إلى الثورة الحفيظية وسقوط الدولة العزيزية. ويتصف عرض الحجوي بدقة المعلومات وكثرة التفاصيل، مع القدرة على استخلاص العبر وربط الأحداث بعللها ومسبباتها. وفي كثير من الأحيان كان الحديث عن ثورة بوحمارة يجر الحديث عن مواضيع أخرى مثل أعطاب المخزن، وحالة المالية، ومؤهلات رجال الدولة، والوضعية المزرية للجيش المغربي، والفرص التي تم تفويتها لتدارك الوضع وإنجاز الإصلاحات اللازمة. إضافة إلى عرض سِيّر بعض الشخصيات التي ساهمت في فتنة بوحمارة مثل عبد الملك بن الأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ بوعمامة وابنه الطيب، وبوحصيرة العتيقي، أو رجال المخزن الذين قادوا وجدة أثناء الصراع مع الفتان بوحمارة مثل أحمد الركينة، وابن عبد الصادق الريفي، وابن كروم الجبوري، وابن بوشتى البغدادي، وغيرهم.
وينطلق الحجوي من اعتبار حادثة قيام الجيلالي الزرهوني المدعو بوحمارة من الحوادث العظيمة التي هزت المغرب بعد وفاة الوزير أحمد بن موسى، بل كانت أعظم حادث وأقوى سبب في فساد الدولة العزيزية ووهن قوتها المادية والأدبية. فهذا الروكي الذي تعُود أصوله إلى مدشر أولاد يوسف بجبل زرهون، قدم أول أمره فاسا وانتظم في خدمة الخليفة السلطاني المولى عمر بن السلطان الحسن. ثم لما توفي السلطان عُزل خليفتُه وسُجن الجيلالي الزرهوني. وبعد تسريحه من السجن غادر المغرب قاصدا القطر الجزائري يجوب البلاد في صفة ناسك متقشف. وفي عام 1320ه دخل وجدة، وتردد بين قبائل آنكاد يبث دعوته. ثم زار مدينة فاس ووجد بها إعراضا عن السلطان وكلاما في سيرته وسياسته. فخرج من فاس على ظهر أتان وقصد قبيلة الحياينة، وصادف في القبيلة المذكورة موسم أبي عبد الله مَحمد بن الحسن الجاناتي، وانتهز الفرصة لبث دعوته بين أعيان قبائل الشرق من غياثة والتسول والبرانيس وغيرهم، فأخذ يعيب على السلطان ميله للأجانب، ويرمي رجال دولته بالظلم وإهمال القيام بشؤون الرعية وحياطة البلاد من أطماع النصارى. ولأن تلك القبائل كانت ميالة بطبعها إلى الفوضى والخروج على السلطان، فقد وجد فيها أرضا خصبة لزرعه، وانتشرت دعوته مثل النار في الهشيم، ولم تمض إلا مدة يسيرة حتى كانت قبائل المغرب الشرقي قد ناصرت دعوته، وأشعل ثورة حارقة أهلكت ما فضُل من ثروة البلاد، ورفعت ما بقي من حجاب الهيبة عن المخزن.
ومنذئذ اندلعت حرب مُهلكة بين الجيش المخزني وأتباع بوحمارة، واضطر المخزن العزيزي لتجهيز الجيوش تلو الجيوش، وتسخير الأموال ذات البال حتى أُفرغت خزائن البلاد، فلجأ إلى الاقتراض من البنوك الأوربية. ورغم جهوده عجز المخزن عن الظفر بهذا الفتان وكسر شوكته، خصوصا في ظل الخلافات التي استشرت وسط أعضاء الحكومة المغربية وفقدان معظم رجالها للحس الوطني، وكذلك بسبب الدعم الخفي الذي كان يتلقاه بوحمارة من الفرنسيين والإسبان. وساهمت كل هذه العوامل في اندحار الدولة العزيزية وقيام الدولة الحفيظية التي تمكنت بعد جهد جهيد من إلقاء القبض على بوحمارة يوم 21 غشت 1909م في بني مستارة إحدى قبائل جبالة، ونقله إلى فاس حيث تم إعدامه يوم 13شتنبر من نفس العام.
وعموما فإن كتاب الحجوي الذي اختار له عنوانا بليغا وقويا: انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، يعد وثيقة نفيسة تؤرخ لمرحلة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر. ومما زاده قيمة ذلك النفس الإصلاحي الواضح الذي يطغى على جل فصوله. فالحجوي مؤرخ كبير امتلك رؤية سياسية عميقة واستوعب مفهوم الزمن وما يرتبط به من مفاهيم من قبيل التطور والتقدم والتأخر، وعِلل كل ذلك. ويندُر أن تجد بين أقرانه من امتلك فهما عميقا للتطورات التي عرفها العالم الإسلامي تاريخيا، أو وعيا بالأسباب التي أدت إلى تدهور الحضارة الإسلامية وانتقالها من عصر تميز بالازدهار والانتشار إلى عهد اتسم بالتأخر والاندحار.
وكان ذلك هو الدافع الذي جعل المحقق – كما صرح في مقدمة الكتاب- يختار هذا النص الثمين ويبذل جهده لإخراجه ووضعه بين أيدي القراء، معتمدا على نسخته الوحيدة التي كتبها المؤلف بخط يده والمحفوظة بالمكتبة الوطنية بالرباط.