جديد الإصدارات
كتاب:
شذرات من أدبنا الشعبي بتطوان
عرض وتقديم: ذة. حسناء محمد داود
من آخر ما صدر لي من منشورات مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة مع دار النشر “باب الحكمة” بتطوان بمناسبة المعرض الدولي للكتاب المنعقد في الرباط بداية شهر يونيه 2023، كتاب بعنوان: “شذرات من أدبنا الشعبي بتطوان”.
وكان الدافع إلى إصدار هذا الكتاب هو ملاحظتي أنه إذا كان الأدب الشعبي المنبثق من صميم المجتمع – والذي يسير الآن في طريق الاندثار- كثيرا ما يتم حفظه عن طريق السماع، فإنه من الجدير بنا، أو على الأقل، بمن توفرت لديه أسباب جمع هذه المادة، أن يساهم في تدوينها والتعريف بها، حتى لا تطويها الأيام وتمحوها الأعوام.
نعم، لقد تم تسجيل بعض جوانب هذا الأدب من طرف الباحثين الكبار، وذلك على الصعيد الأكاديمي العالي الذي يتيح المجال لتداوله بين فئات الباحثين الأنثروبولوجيين، والمحللين الاجتماعيين، والدارسين لمختلف الظواهر الأدبية ومقوماتها وحيثياتها وخصوصياتها، لكننا اليوم أمام ظاهرة نحسّ فيها بأن العامة ممن لا صلة لهم بالبحوث الأكاديمية ولا بالدراسات المعمقة، هم أيضا في حاجة إلى أن نقرب إليهم هذا الطبق الشهي، وأن نطلعهم على هذه المادة الدسمة بطريقة مباشرة تعتمد أساسا على مرجعيات منهم وإليهم، كالمحفوظات الشفوية، والروايات السماعية، وكذا ما تم حفظه ضمن الدفاتر والكنانيش الشخصية، التي كان أسلافنا يعتنون فيها بتدوين ما يهمهم من المعلومات ومن الوقائع والأحداث الهامة في حياتهم وحياة أفراد مجتمعهم، وكذا ما يروقهم من الطرائف والأدبيات.
هذه إذن هي الفكرة التي دفعتني إلى إخراج هذا الكتاب، وإلى جمع ما علق بالذهن، وما سمعته من كبيرات العائلة، وما أخذته عن الصديقات والرفيقات، وما وقفت عليه في المذكرات والكنانيش والأوراق المتفرقة من أدبنا الشعبي الوارد باللهجة المغربية العامية (قصايد – حضْرات – عْرُوبيات – أَحاجي، مقاطع العد في الأغاني الشعبية …)، على لسان الهواة أو المحترفين بالأدب والفن رجالا ونساء في مدينة تطوان، بغض النظر عن كون هذه الأشعار أو الأزجال المغناة أو غيرها من المقاطع المحفوظة، صادرة عن شعراء أو زجالين أو هواة من تطوان أو من غيرها، إذ أن الغاية من تدوين كل ذلك، هي الوقوف على ما تمت العناية به في مدينة تطوان بالخصوص، وما حفظه أو دوّنه أبناء هذه المدينة في دفاترهم وأوراقهم، مع تسجيله وحفظه من الضياع.
يشتمل هذا الكتاب على:
مقدمة تعريفية بالجو الذي دار أو يدور فيه هذا الأدب الشعبي، مع تطرق للباعث على البحث في هذا الموضوع، تلاها فصل يضم فقرات حول مادة الكتاب والتعريف بها، علما بأنها تقوم أصلا على أساس ما هو متداول في تطوان من الأدب الشعبي باللهجة العامية العربية المغربية (القصايد والحضرات والعروبيات والعديدات والأحاجي).
ثم تم عرض نصوص هذه المادة عموما، فكانت البداية بالباب الأول المشتمل على عرض لنصوص (القصايد) والمنظومات، وقد صنفتها صنفين: أولهما قصايد ومنظومات لشعراء أو زجالين من تطوان (كالأديب الشيخ سيدي محمد الحراق والأديب الفنان الحاج امحمد بنونة … إلخ)، واشتمل هذا الصنف على 32 قصيدة.
أما ثانيهما فهو الذي خصصته لعرض قصايد لشعراء مشهورين من خارج تطوان (كالشيخ سيدي قدور العلمي والحاج محمد ابن مسايب والحاج ادريس السناني الحنش والجيلالي متيرد وأحمد ابن تريكي … إلخ)، وغيرهم ممن تردد قصائدهم باستمرار في هذه المدينة، وعدد هذه القصايد 29 قصيدة.
ولعل من طرائف هذا الصنف من الأدب الشعبي والذي جلب انتباهي وأنا أتصفح بعض النوادر من المخطوطات الأدبية المحفوظة بخزانتنا الداودية بتطوان، هو ما وجدته بين صفحات مخطوط طريف نادر لصاحبه الفقيه العدل الأديب عبد الله بن علي شْطِيَّر([1])، وهذا المخطوط عبارة عن كناش سجل فيه صاحبه من الفوائد العلمية والتاريخية والأشعار والأدبيات والمواعظ والحكم واللطائف شيئا عجيبا، والمخطوط بعنوان “نضار الأصيل، في بساط الخليل” ويحتوي على نحو أربعمائة صفحة مكتوبة بخط صغير جدا وذلك ضمن مقاطع متداخلة تصعب قراءتها أحيانا.
ويعتبر هذا المخطوط مجموعة علمية أدبية تاريخية، وقد رتبه صاحبه على أقسام أربعة: (الأول كتاب العلم – الثاني كتاب الأدب – الثالث كتاب الحكايات – الرابع كتاب الشعر) هو نسخة فريدة لا ثاني لها، يحمل رقم 70 بين مخطوطات الخزانة الداودية بتطوان. وقد اخترت منه بعض ما له علاقة بموضوع الكتاب، وهو النصوص الشعرية الزجلية التي كتبت باللهجة العامية، دون غيرها من الأشعار الفصيحة، ويبلغ عدد القصائد المنضوية تحت هذا الفصل: 19 قصيدة. بعد ذلك أوردت نصوص 11 قصيدة ومنظومة تعتبر من التراث الشعبي المتوارث المعروف بين سكان تطوان، دون ضبط لصاحبها.
وبهذا يكون عدد القصايد والمنظومات المدرجة في هذا الباب 91 قصيدة.
الباب الثاني من هذا الكتاب يتناول نصوص بعض “الحضْرات والمولديات” المعروفة في تطوان، فمنها ما هو من حضرات الشرفاء المعروفين بهذه المدينة، كحضرة الريسونيين وحضرة العجيبيين وحضرة الوزانيين وحضرة الحراقيين، ومنها ما هو شائع معروف بالخصوص عند النساء، مما قد يكون مأخوذا أصلا عن حضرات معروفة بين الرجال، ومنها ما هو من نظم بعض النساء المعروفات بفن الحضرة التي تردد في مختلف الأعياد والمناسبات الدينية بالخصوص. وقد بلغ عدد نصوص الحضرات المدرجة في هذا الباب 18 حضرة.
انتقلت بعد ذلك إلى إدراج الباب الثالث من أبواب الكتاب، ألا وهو باب ما يعرف بـ “العْرُوبيّات”، وهذا الباب يعتبر من الطرافة بمكان، لأته يضم أزجالا ومقاطع أدبية قصيرة صادرة أساسا عن النساء، وذلك من باب الأدب الطريف المعروف عالميا عند بعض المجتمعات المتحضرة، ولذلك نجدها معروفة في مدينة تطوان، كحاضرة من الحواضر التي احتضنت مجتمعا راقيا معروفا بانتمائه إلى أصول عريقة تهتم بالفنون والأدبيات بصفة خاصة. علما أن هذه الأشعار توجد أيضا في بعض حواضر المغرب كمدينة فاس، كما توجد في أقصى بلاد المشرق، وذلك ما يعرف من شعر “الكيشات” في بلاد اليابان. وقد بلغ عدد نصوص هذه “العروبيات” المدرجة في الكتاب 95 نصا.
الباب الرابع من أبواب الكتاب يتعرض لجانب له علاقة بفن معروف بالخصوص في مدن المنطقة الشمالية بالمغرب، ذلك هو فن الأغاني الشعبية المعروفة باسم “لالا يْلاّلي”، وهي نوع من الغناء الذي يقوم أصلا على ترديد وصلات غنائية ذات لحن معين وإيقاع معين وجمل موسيقية تتردد وتتكرر عند كل مقطع، مع ترديد كلام موزون مقفى لا يتعدى بيتين من الشعر الزجلي الذي تتخلله في الغالب عبارة (لالايْلاّلي)، والذي تتباين مقاصده التي تقوم عادة على معاني الحب والعواطف وما يتفرع عن تلك المواضيع من غراميات ووصف وشوق وعتاب … إلخ. وتعرف هذه المقاطع المغناة في هذا النوع من الفن الشعبي باسم “العُدَّيْدات”، من العد، وقد أدرجتها في هذا الكتاب اعتبارا لقافيتها، وهي 21 قافية (من الألف إلى الياء)، حيث يتراوح عدد المدرج منها تحت كل قافية ما بين عُدّيْدة واحدة و18 عُدَّيدة.
أما الباب الخامس من الكتاب، فقد ضم مجموعة من الأحاجي والألغاز الكلامية التي يتداولها الناس داخل المجتمع، وخاصة في مجالس الأنس والبسط والانشراح، حيث يتبارى الحاضرون في طرح نصوص هذه الألغاز التي تعرف عند العامة باسم “المحاجْيات”، والتي يقصد من يطرحها إلى اختبار مدى ذكاء الحاضرين ومدى قدرتهم على استكناه المعنى المطروح والوصول إلى الحل المطلوب. وقد بلغ عدد المحاجيات التي ضمها هذا الكتاب 63 لغزا.
ختاما أقول إن هذا الكتاب إنما هو خلاصة تجربة أولية، حاولت من خلالها أن أفتح الباب لمن له ولع بمثل هذا النوع من التراث الأدبي الشعبي الذي لا شك أنه غني ودال على حقيقة ما يندرج في إطار وسائل التعريف بالقيمة الحضارية للمجتمع، اعتبارا لما يضمه تراثه من عوامل تدل على مدى رقيه وحضارته، حتى يجمع ويدون ما تمكن من جمعه ورصده، وحتى يساهم في تدوين هذا النوع من الأدب الذي هو في طريق الاندثار كما أكدت في بداية هذه العجالة. والله الموفق.
[1] – الفقيه العدل الأديب عبد الله بن علي شطِيّر (1181 – 1215 هـ = 1767 – 1800 م) له ترجمة ضافية في كتاب “تاريخ تطوان” لمحمد داود – تنسيق ومراجعة حسناء محمد داود – المجلد 6 – تحت باب (من رجال تطوان في القرن الثالث عشر للهجرة).