ينضج الإنسان حين يّعرف الشر كأحد الابتستيمات التي لا بد من وجوده ليتعرف على الخير كسمة تعبر عن الحب ، عن السلام المتفشي بينه وبين الوجود .
ربما تفسير الباحث ” يونس الخمليشي ” أقرب إلى الصواب حين اعتبر بأن الشر يوحي للعدم وأن الخير يوحي للوجود ، وهذا معناه أن فكرة الوجود والعدم (الشر والخير) كفيلان لاستمرارية العالم ، كما لا يمكننا أن نفصل السماء عن الأرض فهذا الأخير سيكون مهددا إذا تم نقصانه من وفرة المياه ، والأشعة التي تقدم للوجود الإنساني الطاقة وتزيد من عطائه وتقدمه وهذا ما يدفعنا للقول بأهمية وجود عامل الخير والشر كصورة تتجسد في الخطأ والصواب .. تتجسد في الموت والحياة ، تتجسد في عوالم الكون.
فنقول أن الإنسان يلجأ إلى استخدام الشر كوسيلة للتعرف على ذاته؛ في وصف دقيق عن الخير والشر وحقيقة الإنسان .
تستوقفني عبارة الكاتب البرتغالي أفونسو كروش حين قال: “لا أستطيع أن أقول عن إنسان أنّه طيب إلا إذا كان لديه القدرة على فعل الشر ولم يفعل. يجب أن يكون لديك الخيارات لتعرف حقًا من أنت”.
وهذا يعني على أن القدرة على فعل الشر نابعة من الذات بتعبير “فرويد” الأنا التي تنزاح نحو الإقدام على فعل الشر بصورة تتجسد في الطبيعة ( الفطرة) وفكرته أن الإنسان شرير بطبعه ، معناه أنه يمارس فعل الشر دون إدراك .
وأعتقد بأن ممارسة الشر تقتضي أن يكون المرء مدركا لما حوله من أفعال، سيما إذا انتزعنا عنه خاصية الإدراك واعتبرناه شبيها بالحيوان.
السؤال هنا يتجلى في إشكالية الشر كعنصر سلبي يحتاج إلى مجهود عقلي؛ يفضي بنا الشر إذاً إلى الانغماس في عنصر الهو كمَكمن للغرائز والشهوات ” اللبيدو الفرويدي”، فالصورة التركيبية التي قدمها تتجلى في عداء الإنسان لأخيه الإنسان كأنه ولد وفي قلبه نزعة شيطانية تغدو نحو القتل وارتكاب الجرائم المتمثلة في البعد السيكولوجي (الأنانية égoïsme ) .
أكاد القول على أن الموت، الحياة، الحب ، الشر ، الخير.. هي تجارب وجودية (مقولات وجودية لابد أن نعيشها ونتعايشها لنتذوق طعمها فهي تنزاح تارة نحو الخضوع وأحيانا أخرى نحو الميل إلى الحرية. الحرية على اختيار الشر كملجأ لترويج النفس (الهو) بلغة فرويد وبالتالي فإن الانسان الذي يلجأ إلى فعل الشر هو الذي له ماضٍ سيء(حرمان عاطفي – انفصال الأبوين – عنف أو تحرش أو اغتصاب … ربما تجربة الألم هذه تظل راسخة في (اللاوعي) فيتشبع هذا الانسان بأفكار سوداوية قد تتحول بين لحظة وأخرى نحو النزوح إلى الشر فيفقد بذلك سيطرته على نفسه ولكي يُرضي أناه لا بد أن ينتقم لذاته فيتحمل الألم ويتحمل معاناة الماضي من أجل أن يتحرر في الاخير من ذاك الذي خلف في نفسه حقدا دفينا للعالم وكوَّن في نفسيته جرحا اليما أيضا فلكي يرممه لابد أن يقدم على فعل الشر. اذاً الشر هنا نزعة سيكولوجية اي لها دوافع واسباب نفسية.
ما أثارني أيضا في تحليل الاستاذ ” يونس الخمليشي” في تقديمه لمثال ” المرأة والرجل” كزوجان ” الرجل هنا سيفرح ويسعد إذا حصلت زوجته على شهادة الدكتوراه وسيحتفي بها ويشجعها على الاستمرار لكن بعد أن ينفصلا وتتحصل هذه المرأة شهادة دكتوراه أخرى سيغضب وسينتابه شعور القلق والغيرة وهذا لأنها لم تعد جزءا منه فالعامل الاول يتمثل في ” الحب (كخير) فقط في صورته اللحظية بتعبير ” الخمليشي” لكن عندما تحول هذا الحب إلى كره اخترق في لاوعي الرجل عنصر الشر وهذا يتطابق تماما مع التفسير النفسي للشر إلى حدٍ ما… إذا قاربنا مشكلة الشر في البعد الديني فهل يمكن أن نقول بأن الله شرير؟ يترتب الاجابة عن هذا الاشكال استحضار نظرة الملاحدة لوجود الله يقول يونس الخمليشي أن” الملحد عندما يربط وجود الله إنما يفكر فيه في معناه اللاهوتي لأن الشر العلماني يجعل الشر خارجا عن نطاق العدم، خارج نطاق وجود الله تعالى – كما يقر على أن بعض الفلاسفة الغربيين يعتقدون بأن الشر لا وجود له بل هناك حركة عمياء متوحشة للعالم، سائرة نحن من نضفي عليها المعنى” يستفاد من هذا القول على أن الشر مجرد وهم للطبيعة الانسانية فقط، فإذا اعتبرناه كذلك فقد أسقطنا في فخ اللامعنى وأصبحنا أسيران للخير فقط فهل هذا مقبول؟ اعتقد بأن الشر في بعده الديني يجرنا نحو الإيمان بالعدم والايمان بالوجود لماذا؟ لأن الإيمان بالعدم يقتضي منا بالضرورة الرجوع إلى الوجود(الخير) ( وجود الموجودات هو بحد ذاته خير أي منفعة لنا ( الحيوانات كل الاشياء الموجودة في الطبيعة جاءت لتنقذ هذا الانسان من الهلاك ؛ فلولا الشر لما كان للخير وجودا ( سيرورة التحول) تقتضي العودة إلى الخير كمفهوم نفعي للإنسان. إدراك الانسان لأخطائه لن يتم إلا بفعل الشر. فكيف سينتقل الانسان من مرحلة الفشل إلى النجاح؟ إلا إذا دار في حلقة الفشل(الشر) ليدافع عن نفسه ويرتب أفكاره اي انه سيعاني لفترات طويلة من عمره ، ولكن سيكتمل نضجه بعد أن يصل إلى النجاح ( الخير). فقول الله شرير معناه أسقطنا صفاتنا على صفاته وهذا مكمن الخطأ اي لا بد أن نقول أن الله الواجد ( واجد كل الموجودات قد خلق الخير والشر معاً لكن هذا لا يعني أن الله فطرنا على الشر بل خلق فينا القدرة على ممارسة فعل الشر ويكون الانسان بعقله هو الذي يتحكم في الشر أي عملية توظيف عنصر الشر يقتضي بالضرورة العودة إلى إيمان الإنسان بعوالم الكون وربط القرابة مع الله -تعالى- . كما أن نزعة الشر تعود إلى الشيطان الذي يكون هو الحلقة الأضعف بالنسبة للمؤمن الضعيف ، والحلقة الأقوى بالنسبة للمؤمن القوي وبالتالي فإن الشر مرتبط هنا بدرجة إيمان الإنسان فكلما كثر إيمانه قلّ شره…”ففي علم الكلام نجد أن المعتزلة ترى بأن “الحسن والقبح” ذاتيان في الأفعال (أي أن الخير والشر يرجعان إلى صفة هذه الأفعال وليس لأن الشرع أمر أو نهى عنهم)، وأن الشرع يأمر بالفعل لما فيه من حسن وينهى عن الفعل لما فيه من قبح، وأن العقل مكلف ورود الشرع (أي أن الإنسان سيحاسب على أفعاله حتى لو لم يصله شرع). ” تحضرني هنا النظرة الصوفية لرابعة العدوية أثناء خطابها مع الله تقول: “اللهم إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها وإن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها إنما أعبدك لأنك أهل العبادة ” هنا إشارة لكيفية تعبد الإنسان لربه التي لا يجب أن تكون عبادة للعبيد للخدم؛ وإنما هي عبادة مبنية على الاستحقاق ، عبادة غير مشروطة ينجلي في لُبها السلام الذاتي أي الحرية في التعبد دون الشعور بالخوف أو الطمع. هذا يشكل خطا متوازيا بين الخير والشر فأن نعبده لأنه حق بذلك فهذا خير وأن نعبده لأننا نخاف من ناره أو لأننا نطمع في الحصول على جنته فهذا بحد ذاته شرا.
ومقاربة لهذا الإ شكال نستحضر مفارقة الأشاعرة والمعتزلة في هذا الأمر بحيث أننا نجد الأشاعرة أقروا القول بأن الله -تعالى- يخلق الشر كما يخلق الخير؛ لأنه تام القدرة .. في مقابل ذلك نجد المعتزلة اعتقدوا أن هناك نوعين من الشرّ:
النوع الأول : وهو الصادر عن أفعال الإنسان، ويمكن أن نسميه بالشرّ الخلقي، وتتعدّد أشكاله في الكفر والقتل والسرقة، وغير ذلك من الجرائم والمعاصي؛
النوع الثاني: وهو نوع لا دخل للإنسان فيه، كالأمراض والزلازل والمجاعات والبراكين، ويمكن أن نسمّيه بالشرّ الطبيعي.
أما فيما يخصّ النوع الأول، فإن المعتزلة قد اعتقدوا أن الله عادل بشكل مطلق، واستندوا في ذلك لما ذكر في سورة الكهف : “ولا يظلم ربك أحداً” ولما ورد في سورة فصلت: “وما ربك بظلّام للعبيد”، وأيضاً لما جاء في صحيح مسلم “يا عبادي أني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّماً، فلا تظالموا” وإلى غير ذلك من الآيات والأحاديث النبوية.
من هنا فإن المعتزلة قد رفضوا بشكل قاطع الاعتقاد بأن الله -تعالى- مصدر للشرور، لأن الشرّ يتعارض مع العدل الإلهي. وقاموا بنسبة الشرّ إلى الإنسان نفسه، فالعبد عندهم هو المسؤول عمّا يقترفه من شرور، وتوافقت تلك النظرة مع إيمان المعتزلة بأن العبد هو الذي يخلق أفعاله، وأنه يُحاسب على تلك الأفعال، فيُثاب أو يُعاقب.” أعتقد بأن نظرة المعتزلة للشر نظرة عقلانية تحمل في طياتها بعداً صوفيا كما الحال لذلك الزاهد ، العابد، المتشوق، المريد الذي يزهد في الطاعة لغاية استيعاب حقيقته الباطنية، الروح توَّاقة للوصول إلى مرتبة الإحسان( اُن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك)
لا يمكن لهذا الصوفي أن يعتقد أن الشر من صنع الله مادام أنه عثر على وجدانه في صورة الله العليا كخير أسمى، وتتجسد روحانية الصوفي أساسا بين الترجي والاستغاثة دون الشعور بالقنط من رحمته.
هذه الحقيقة الصوفية تمرر في أذهاننا أن طريق الخير والشر منفصلان عن بعضهما البعض إلا أن طريق الشر عنصر مهم للوصول إلى اللذة الروحية( أن تمارس طقوسا تتفرد بها عن نفسك في معزل عن الناس وتستحضر كل ما لديك لتحظى بالسكينة) معناه أن تنعتق من داء النفس الشريرة لتتعرف على الذي زرع فيك هذا الحب من حيث أنك موجود داخل عالمه المضيء، معنى هذا أن الصوفي تخلص من الألم ومن الحزن ايضا ، من القلق الوجداني/النفسي عن طريق تدريب نفسه على الطاعات، فالعلاقة هنا تتأصل بين العاشق والمعشوق( حضور القلب والتمسك بوحدانية الخالق الذي خلق الأضداد(الشر والخير) ليعيش العالم ، الصوفي يدرك تمام الادراك أن الخير والشر موجودان في العالم لكنه يرى بأن الشر نابع من الانسان وفقا لتصرفاته وسلوكياته لأنه في الحالة التعبدية الروحية التي يكون فيها متواصلا مع ربه لا يكون للشر مدخلا ، في تلك اللحظة يحس أن نفسه تفيض بالرحمة وهذا لأنه يترفع عن كل الصفات القبيحة ( الكره- الأنانية – العداء …) ليحظى في آخر المطاف بالهناء الذاتي ، ويتطابق هذا الاستنتاج -ضمنيا- مع فكرة جان جاك روسو بقوله :” إن الانسان يولد خيِّرا ولكن المجتمع هو الذي يفسده” . أي أنه في حالة الطبيعة يقدم على فعل الخير والتعاون مجبول على الرحمة والمحبة والتسامح… وعندما ينتقل هذا الإنسان إلى حالة الثقافة( النظام الرمزي (ارنست كاسيرر) ينتابه شعور بالغيرة والاندفاع نحو الغضب والاحساس بالسوء تجاه تقلبات المجتمع. ربما الظروف تفرض على الإنسان أن يتعامل بقسوة وبصرامة مع أخيه الإنسان حتى تصبح تصرفاته وسلوكياته مع مرور الزمن من طبائعه.
نجد أيضا في الفلسفة الإغريقية تحديدا مع أرسطو في توظيفه لمفهوم السعادة باعتبارها الخير الأسمى التي منها تستقي كل المعارف الأخلاقية بحيث السعادة هنا ينبع منها هذا الخير المتمثل في الفضيلة فالإنسان الأكثر سعادة هو الفاضل. إلا أن أفلاطون يرى بأن الجمال هو بهاء الخير وأن الإنسان يرتكب الشر بسبب الجهل، كما الحال بالنسبة لأبيقور الذي يرى بأن تحقيق الخير الأسمى لا يتم إلا عبر اللذة التي تفضي طريقها إلى السعادة . وأيضا بنحو مفارق نجد بأن المقاربة الكانطية لمفهوم الشر تتمثل في البعد الأخلاقي ” الشر والخير عنصران يتجهان نحو إرادة الإنسان فحسب كانط لا يمكن أن نعتبر بأن الإنسان شرير بطبعه أم خير وإنما إرادته هي التي يرجع لها الفضل في الانزياح إما مع الخير أو الشر. إذن نحن هنا أمام عنصر المسؤولية ، أي أن الإنسان هو المسؤول عن طبعه وليست الطبيعة . لماذا نذكر الشر؟
لامسني تعبير الأستاذ الباحث ” يونس الخمليشي ” حين قال : بأننا منغمسين في الخير ، لنا ألف نعمة في حين أنه لنا نقمة واحدة فننسق كل ذلك إلى الشر. ذكرني هذا بالقاعدة الرواقية التي تقول بأن الخير هو لذاته وليس لشيء أخر ولا يجب النظر إليه كوسيلة لتحقيق المنافع. لأن الإنسان حسب المذهب الرواقي هو الذي يتماشى مع العقل الكلي ” الإرادة الإلهية” وفعله للخير أو الشر هو سلوك مبني على قناعاته. نجد بأن الفيلسوف الرواقي أبكتيتوس الذي كان عبدا وتحرر قال ” قدم لي ما تشاء من مرض أو مصيبة أو فقر أو حتى الموت وأحوله لك بعصا سحرية على نقيضه ” ما أكرم هذا الرحيم الذي أنعم علينا من فضله وقدم لنا حياة في منتهى الجمال والروعة ” الخير” هنا أنه استضافنا عنده لنأكل ونشرب ونعيش وحين ينادي الموت نرحل بكل هدوء وأدب ولطف ولا داعي لأن نحزن ونقلق ونجزع في مواجهة الموت. الموقف هنا يعبر عن الكرم الإلهي الذي يفيض بالرحمة في حين أن نزعتنا الشريرة هي التي تعتقد بوجود الشر ورده أساسا إلى الطبيعة ، أما عين الصواب فيتجلى في الاعتراف بالأصل ” لا بد أن نرجع إلى الأصل لنعيش حياة كريمة. قد نعيش الألم لكنه ينبغي علينا مسايرته وليس الوقوف أمامه، فالصورة هنا تعود إلى كيفية العيش لنحصل على الخير فالأهم ليس أن تحقق الآمال وإنما أن تنجز ما هو مطلوب منك.
بقلم: ذة . زينب خلوق