من أعلام طنجة
ومضات من حياة شيخي
العلامة سيدي محمد بن عبدالسلام بن عجيبة
2/2
بقلم: أحمد بن محمد المرابط (الڭنيوي)
قراءتِي ودراستِي عليه:
يقول كاتب هذه السطور: على هذه الطُّرُوس قد قرأتُ على سيدي محمد بن عبد السلام بن عجيبة ودرستُ عليه وانتفعت بعلمه أيما انتفاع في الزاوية الرَّيْسُونِية المجاورة للدار التِي كان يقطنُها بِبَابْ العْصَا بالمدينة القديمة في مدينة طنجة:
كتابَ جمع الجوامع لابن السُّبْكي بشرح الجَلال محمد الْمَحَلّي وحاشيتَي الْبُنانِي والشَّرْبِينِي عليهما، وكتابَ مفتاح الوصول إلَى بناء الفروع على الأصول لِمحمد التلمْسانِي، والْمنظومة البَيْقُونِية بشرح محمد الزُّرْقانِي وحاشيةِ عَطِيَّة الأَجْهُوري، ومَتْنَ السُّلَّم للأَخْضَري بشرح محمد البنانِي وحاشيةِ علي قَصَّارة، وكتابَ أم البراهين في علم التوحيد لِمحمد السنُوسي بِحاشية مُحمد الدسوقي، ومنظومةَ تُحفة الْحُكَّام بشرحَيْ محمد التَّاوْدي ابن سودة وعلي التسولِي، ومنظومةَ الجوهر المكنون في المعانِي والبيان والبديع لعبد الرحمن الأخضري بشرح أحمد الدَّمنهُوري، وكتابَ مختصر سَعْد الدين التَّفْتَزانِي على تلخيص المفتاح للقَزْوينِي في علم المعانِي والبيان والبديع، وكتابَ أُرجُوزة المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه لمحمد بن الجزري، وكتابَ الكافي في علمَيْ العروض والقوافِي بِحاشية محمد الدَّمنهوري، وكتاب الْمُمْتِع في شرح الْمُقْنِع في علم الفلَك لمحمد المرغيتِي، ومنظومة البردة لمحمد البوصيري بِحاشية إبراهيم الباجُوري.
أسلوبه ومنهاجه في التدريس والتقرير والتدريس والتلقين:
كان منهاجه في التعليم وسبيله في التدريس أن يُمْسِك الكتاب الْمرادَ تدريسه بيده ثُم يشرع بعد قراءة الاستعاذة والبسملة والتصلية والأدعية في سَرْد جزء من موضوع الدرس ليتعقبه بالتفسير والتبيين والتحليل والتوضيح، فيشرح الشرحَ والمشروح، ويتتَبع في الحاشية ما له صلة وارتباط بصميم الموضوع، ويُعرض ويَضْرب صفحاً عن ما لا علاقة له ولا ارتباط له بذاتِ الموضوع وجوهره كنقاشٍ بلا أثَر وجدالٍ بلا ثَمَر، فاتِحاً لطلبته وتلامذته بابَ الْملاحظة والْمساءلة والْمناقشة والْمعارضة، وعند إنْهائه موضوع الدرس الْمرادِ تقريرُه وتوضيحه يشير إلَى الطالب السارد فيَسْرُد موضوع الدرس من أوله إلَى آخره، ثُم يَختم بالدعاء وينصرف رحمه الله تعالَى.
وكانت أيام تدريسه وتعليمه تَشْمل الأسبوع كله بَيْدَ أن يومَيْ الخميس والجمعة كان يُخصصها للكتب الصغيرة الحجم ككتاب الكافِي في علمَيْ العَروض والقوافِي وكتاب أرجوزة المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يَعْلمه وغيرهما من مثلهما.
وكان وقت تدريسه وتعليمه في الزاوية الريسونية الْمتواجدة قرْب منْزله بالمدينة القديمة في مدينة طنجة يبتدئ من الساعة السادسة صباحاً إلَى الثامنة منه، وكان رحمه الله تعالَى أثناء الدرس وخلالَه يُخَلِّله بنكتة طريفة وطرائفَ فريدة وبِحكايات أدبية حكيمة لبعض الأدباء والشعراء وأخرى فقهية عجيبة لبعض الفقهاء والعلماء.
بركة تعليمه وتدريسه:
كان تعليمه رضي الله عنه وأرضاه مبارَكاً نافعاً مفيداً، وخيرُه ظاهراً ملموساً جزيلاً، يبقى تعليمه عالقاً بالأذهان، لاصقاً بالألباب، راسخاً في الذاكرة، مَحفوظاً في الأفئدة، لا يعتريه زوال، ولا يَلحقه نسيان، ومِنْ بركة تعليمه وسِرِّ تدريسه أن صورة شخصه وهو جالس بين طلبته وتلاميذه في مجلس التدريس يُلقي درسهَ ويُمْليه تبقى مُخَيِّمة على ذهن التلميذ مُصوَّرة مجسَّمة في ذاكرته، سِيَّما إذا أخذ كتاباً للمطالعة والْمراجعة أو قلماً ودفتراً للتأليف والكتابة، فتتجلى صورته رحمه الله تعالَى الْمعهودة خلال التدريس أمام الطالب لا تغيب عنه وهو يطالع ويُراجع أو يكتب ويؤلِّف.
ومن بركة تعليمه وقراءته أيضاً أنه إذا قرأ مع طالب فنّاً من فنون المعرفة أو نوعاً من أنواع العلوم أصبح هذا العلم طوع يده لا يجد صعوبة فيه، وذاك الفن في قبضته وتحت تصرفه يتحكم فيه، إنْ كانت للطالب رغبةٌ في حيازة قصَب السبْق فيه.
وظائفه ومناصبه:
شغل رحمه الله تبارك وتعالَى وظائف كثيرة، وتقلَّد مناصب عديدة، منها وظيفة العدالة والإفتاء والقضاء والتدريس، فكان أستاذاً مدرِّساً في المعهد الدينِي العالِي “الكلية الإسلامية” نيابةً عن سيدي عبدالله كنون بِمدينة تطوان، وقاضياً في محكمة الاستئناف الشرعي بنفس المدينة، ثُم قاضياً في محكمة الاستئناف الشرعي بِمدينة طنجة، وعدْلاً مبرّزاً، ومفتياً في الأحكام الشرعية، وخطيباً للجمعة وواعظاً مرشداً، عِلاوةً على الدروس التطوعية الاختيارية التِي كان يُدرسها ويُمليها في مختلف العلوم والمعارف والتِي ثابر وداوم عليها منذ انتهائه من الدراسة في مدينة فاس إلَى حين وفاته وانتقاله إلَى الْملأ الأعلى، وكان يراها أجمل عوالِمه وأفضل أحواله وأحسن عوائده وأعزَّ وأسعد أوقاته، فكان التدريس والتعليم والدعوة والتبليغ قرَّةَ عينه وراحةَ قلبه، جزاه الله خيراً ورضي الله عنه وأرضاه.
كتبه ومؤلفاته:
ترك شيخي سيدي محمد بن عجيبة رحمه الله تبارك وتعالَى بعص الأعمال التأليفية المفيدة في موصوعها منها:
ـ تقييد في شرح أرجوزة شيخه في الطريق سيدي المفضل أزيات الخرشفي رحمه الله تعالَى في علم التوحيد.
- تقييد في ترجمة جده سبدي أحمد بن عجيبة، اختصره من فهرسته، وذيله بنبذة من حياة أبنائه وأحفاده.
- تقييد وجيز في رحلته الحجازية.
- رسالة في تطبيق قواعد التجويد على سورة الفاتحة التِي لا تصح الصلاة إلا بِصحة إخراج مخارج حروفها.
- مجموعة من الفتاوى القيمة الْمحررة نافت عن مائة فتوى.
تلامذته والآخذون عليه:
ترك العلامة سيدي محمد بن عجيبة رحمه الله تعالَى جَمًّا غفيرًا وكَمًّا كبيرًا وعددًا وافرًا وجماهير كثيرة من الطلبة والتلاميذ الذين يعدون بالمئات الذين كانوا يفدون عليه زارافات ووحدانا من كافة قبائل وحواضر منطقة شمال، وقد وجدوا ضالتهم في حلقات مجالسه المباركة الزاخرة بالفوائد، وانتقعوا بالعلوم التي نهض بتلقينها بكل تفان وإخلاص، طوال أيام الأسبوع دون كلل ولا سأم، وهو فترة اشتغاله بالتدريس كان يباشر وظيفة سامية حيث كان يتقلد منصب القضاء الشرعي سواء في تطوان أو طنجة. وكان طليته بِحَق أهَمّ كتبه وأنفسها وأفضل مؤلفاته وأحسنها، كانوا أحسنَ فرْع لأفضل أصل وخيرَ خلف لِخير سلَف.
أخذتُ نسبة الطريق ووردَه أولاً عنه:
قلتُ له رحمه الله تعالَى يوماً إن جدَّك سيدي أحمد ذكَر في شرحه لِحكَم ابن عطاء الله سلسلة أسْماء شيوخه في الطريق من شيخه المباشر سيدي محمد البوزيدي إلَى شيخ الْمشايخ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رحمه الله: نَعم، ثُم نظر إلَيّ وقال: أتريد أن تتسلسل وتتحلَّق معهم فترْبط حلقتك مع حلقاتِهم وخَرْصَك مع خُرْصانِهم، قلتُ: نعمْ، فلقَّننِي الوردَ الْمورودَ للطريقة العجيبية الدرقاوية الشاذلية ونسْبتَها، وهذا في حياته وقبل وفاته، لكن بعد انتقاله إلَى الرفيق الأعلى جدَّدتُها على أخيه سيدي ومولاي سندي ووسيلتِي سيدي عبد القادر بن سيدي عبد السلام بن عجيبة رحمهما الله تبارك وتعالَى.
اختتام:
وبالجملة، فقد كان رحمه الله تعالَى جامعاً بين الفنون الرسْمية الحَرفِية وبين العلوم اللدنية الغيبية، بين العلوم البيانِيَّة اللسانية والْمعارف الْجَنانية الربانية، بين العلوم الكتابية الظاهرة والْمواهب والأسرار الباطنة، جامعاً بين الشريعة والحقيقة، والسلوك والطريقة، بين البقاء والفناء، والحس والْمعنَى، بين الفرْق والجمْع، والصحو والجذب، ظاهرُه مع الحكمة، وباطنُه مع القدرة، جسمُه في عالَم الْمُلْك، وقلبه وروحه في عالَم الْملكوت، دائمٌ في حضرة علاَّم الغيوب، لا يغيب عنه الْملِك الْمعبود، مواظبٌ لعبادته، مداوم لشهوده، ملازم لِمراقبته، مثابرٌ لطاعته، امتلأتْ عروقه وأوْرِدَتُه وأوصالُه وشَرَيانُه بالْمعرفة الربانية والْمحبة الْمحمدية، ففاضتْ عيناه بِها دمعاً ولسانُه ذكراً وجوارحُه طاعة وسَمْعاً وجَنانُه فرحاً وخوفاً وأُنْساً وحُبّاً وتعلقاً وشوقاً وخضوعاً وذُلاًّ.
تنبيه:
اعلم أن ما ذكرتُه فيما يتعلق ويرتبط بِجانب سيدي محمد بن سيدي عبدالسلام بن عجيبة ما هو إلا شيء ضئيل، ونَزْرٌ يسير، وذَرة من مَجَرّة، وقُلٌّ من كُثْر، وجزءٌ من كُل، وغَيْضٌ من فَيْض، وقطرة من بَحْر، وجُزَيءٌ مِنْ كَمّ، ونقطة من يَمٍّ، وأنَّى لِي بِحصْر البحر والبحرُ زاخر.
رحمه الله تبارك وتعالَى، ونفَعه ونفعنا بِمحبته، وجزاه عنا أحسن ما جزى به نبيّاً عن قومه ورسولاً عن أمته، آمين آمين آمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على الْمرسلين والحمدُ لله رب العالَمين.
كتب هذه السطور على هذه الطُّروس، عُبَيْد ربه وأقلُّ عبيده، الفقير إليه والغنِي به، أحمد الْمرابط، لطف الله به