نظرات في منهجية التحقيق عند الدكتور محمد كنون الحسني:
” رياض البهجة في أخبار طنجة” للعلامة محمد بن العياشي السكيرج أنموذجا
2/2
إعداد: عدنان الوهابي
- مقدمة التحقيق:
وتنقسم مقدمة تحقيق كتاب: (رياص البهجة) إلى تمهيد وأربعة محاور:
التمهيد: تحدث فيه الدكتور محمد كنون الحسني عن أهمية التاريخ ومجالات اهتمامه وحضور المدن في الدراسات التاريخية حيث أبرز أنها تحضر ضمن أبعاد مختلفة، منها رصد معالم حضاراتها وإنجازات أبنائها، والتحولات التي طرأت على شخصيتها عبر العصور المتعاقبة. وتقديم أمثلة من نماذج البحث التاريخي للمدن بالمغرب ودوره في الكشف عن كثير ما يخص تاريخ المدن المغربية سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية او الثقافية وغيرها، مما لا مناص للباحث من الرجوع إليه في كتابة تاريخ المغرب عامة، والمجالات الحضرية بوجه خاص.
المحور الأول: شذرات من تاريخ المدينة: وقدم فيه نبذة مختصرة عن تاريخ طنجة منذ تأسيسها الأسطوري إلى استقلال المغرب عام 1956م حين أنهت إسبانيا الإشراف الدولي عليها وألغي النظام الدولي للمنطقة، وعادت جزءا من المملكة. معتبرا أن أزهى فترات عاشتها المدينة كان العهد العلوي منذ استرجاعها على يد المولى إسماعيل سنة 1684م حيث يقول الدكتور محمد كنون الحسني: ” استعادت طنجة دورها العسكري والدبلوماسي والتجاري وأصبحت بوابة على الدول البحر الأبيض المتوسط، فشيدت بها الأسوار والحصون والأبواب، وازدهرت الحياة الدينية والاجتماعية”[1].
المحور الثاني: طنجة في كتابات المؤرخين: وفيه صنف المحقق الكتابات التي اهتمت بتاريخ هذه المدينة قبل منتصف القرن الماضي إلى محاور خمسة:
- ماورد في كتب المؤرخين القدامى: من إشارات بسيطة إلى اسم المدينة وتاريخها ومكانتها في العهود القديمة.
- ما جاء في بعض الكناشات والرحلات من وصف لها وحديث عن سكانها ومعمارها وأعلامها. معتمدا في ذلك على مصدرين أساسيين وهما: كناشة الفقيه العلامة أبي عبد الله بن محمد بن يحيى الأكبر الطنجي، ورحلة عبد الحفيظ الفاسي ” خطوات وخطرات”
ج– مؤلفات تتحدث عن طنجة وتاريخها وأعلامها ذكرا لفضلها أو ذما لأهلها: قدم فيه تعريفا مفيدا ومختصرا لأهم المؤلفات التي خصصت موضوعها لمدينة طنجة.
د– مؤلفات بلغات أجنبية هي الغالب حديث عن جمال المدينة وسحر طبيعتها، ووصف لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وركز في هذا المحور على يوميات أبراهام بن دلاك 1846/1755م نظرا لأهميتها الكبيرة فقد دون فيها ما ارتسم في ذاكرته من ملاحظات تتعلق بالفترة الممتدة من 1821 حتى 1829.
هـ – مؤلفات في تراجم أعلام المدينة تتضمن لمحات تاريخية وإشارات إلى مكانة المدينة العلمية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. وهي أعمال رأى المؤلف أنه يمكن ضمها إلى ما كتب عن تاريخ المدينة باعتبارها تتضمن لمحات تاريخية مهمة إلى مكانة مدينة طنجة العلمية وأوضاعها الاقتصادية.
و – ببيوغرافيا متكاملة لأهم الأعمال التي اهتمت بجوانب مختلفة من تاريخ المدينة قدم المحقق للقارئ جردا لتسعة وثلاثين للقارئ 39 مرجعا مهما من بينها: طنجة عبر التاريخ لمحمد بولعيش، فصول من تاريخ طنجة لعبد الصمد العشاب، نساء طنجة الرائدات لزبيدة الورياغلي وغيرها.
وتظل لهذه المقدمة قيمة علمية كبيرة لكل من أراد أن يطلع على بيبليوغرافيا هذه الحاضرة المغربية، قدم الدكتور محمد كنون الحسني للباحثين جردا لأهم المراجع التي جعلت طنجة موضوعا لها، أو أحد جوانبها إما تاريخيا أو علميا أو ثقافيا أو ترجمة للأعلامها.
- التعريف بالكاتب:
خصصه المؤلف للتعريف بالكاتب وبيئته العائلية ومحيطه الذي عاش فيه، مستندا إلى الترجمة التي خطها الفقيه العلامة محمد بن العياشي السكيرج لنفسه وتقع في ست عشرة صفحة، وعليها اعتمد معظم المؤرخين الذين ترجموا له فيما بعد، مثل محمد بن الفاطمي السلمي في إسعاف الإخوان[2]، ومحمد كنون في مواكب النصر [3]، وعبد العزيز خلوق التمسماني في مجلة دار النيابة [4]،وغيرهم[5].
وإن كان الدكتور محمد كنون الحسني قد اعتمد على هذا التقييد بشكل أساس في صياغة ترجمة للمؤلف، فإنه توسع في صياغتها بالاطلاع على بقية المصادر الأخرى التي ترجمت للمؤلف مثل رياض البهجة، ومواكب النصر وكواكب العصر لمحمد عبد الصمد كنون، ومن أعلام طنجة للأستاذ عبد الصمد العشاب رحمهم الله.
2-2- القسم الثاني: القسم المحقق
- المنهج المتبع في التحقيق:
اعتمد المحقق أثناء انجازه لهذا العمل على النسخة الأصلية بخط المؤلف والتي كانت توجد عند عند العلامة سكيرج، وقد أطلعته عليها ابنته المرحومة زبيدة سكيرج، وتوجد منها ثلاث نسخ مصورة، الأولى بالمكتبة الصبيحية بسلا تحت رقم: 936/403، و الثانية بالمكتبة الوطنية مكروفيلم رقم 1452، والثالثة بمكتبة عبد الله كنون بطنجة تحت رقم 10843 أهداها للمكتبة مؤرخ المملكة المغربية المرحوم الدكتور عبد الوهاب بن منصور. ويكاد الدكتور محمد كنون الحسني يجزم أن للعلامة محمد بن العياشي السكيرج نسخة أخرى من هذا الكتاب وقد بنا رأيه على مجموعة من القرائن والأدلة من بينها[6]:
– إشارة المؤلف نفسه في بعض صفحات كتابه إلى أن عمله هذا يحتاج إلى مزيد من الإضافات، ورغبته في تنقيحه، مثل قوله: ” وسنعود لهذا الموضوع بنوع من التفصيل”، أو قوله: ” وسنشرح ذلك في حينه…” إلى غير ذلك من العبارات الدالة على نية الكاتب في مزيد من الشرح والتوضيح، واستحضار أحداث أخرى من تاريخ المدينة بالرجوع إلى المضان والوثائق المختلفة.
– أن المؤلف بدأ التدوين هذا الكتاب سنة 1333هـ 1915م، وتوفي عام 1385هـ /1965م، فهذه السنون الطويلة بين بداية الكتابة ووفاة الرجل كفيلة بعودته إلى كتابه وتنقيحه وتشذيبه.
– أن صفحات كثيرة من الجزء الثالث عبارة عن مسودة تحتاج إلى ترتيب وتنقيح
– أن الجزء الرابع برمته مسودة لمواضيع سبق الحديث عنها في الجزئين الثاني والثالث، أو إشارات إلى أمور تحتاج إلى بسط في الكلام وتوسع في القول.
وليقطع الشك باليقين، زار الدكتور محمد كنون الحسني يتوجه إلى ابنة المؤلف زبيدة سكيرج ببيتها بالرباط سنة 2014 رفقة المرحوم الدكتور عبد الله المرابط الترغي وسألها عن هذه النسخة، لكنها أكدت له أن الموجود من الكتاب هو النسخة المتداولة المحفوظة بالمكتبة الوطنية والخزانة الصبيحية، وخزانة عبد الله كنون، وأمدته رحمها الله بنسخ من مخطوطات أخرى للمؤلف.
وللأمانة العلمية، قام المحقق أثناء تحقيقه لرياض البهجة بالمحافظة على النص دون تدخل أو تحريف أو تصويب الأخطاء الواردة في النص حيث اكتفى بتخريج الأقوال والأحاديث والتعريف بالأعلام، محترما بذلك المنهج العلمي الذي يقتضي الإشارة إلى الأخطاء الواردة في المتن في الإحالات، وتصويبها في النص، ودافعه في ذلك ترك النص على طبيعته[7].
وقام المحقق أيضا بإدخال علامات الوقف، ورتب الفقرات، ورسم الكلمات بالرسم الإملائي الحديث – عثمن/عثمان، رجا / رجاء، مونة/ مؤونة- نلقا/ نلقى- تسهيلا للقراءة.
كما ذكر المصادر التي نقل عنها العلامة السكيرج واستعان بها في تأليف كتابه، ومن بينها: المسالك والممالك لأبي عبد الله البكري، تاريخ ابن خلدون، الاستقصا للناصري، معجم البلدان للحموي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام للسهيلي، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار للسان الدين ابن الخطيب وغيرها.
- عمل المحقق:
استغرق تحقيق النص الصفحات من 51 إلى 273، وأهم ما يميزه:
- وجود 551 إحالة ثرية.
- تخريج الآيات القرآنية: ومثال ذلك ما ورد في: ص51، ص 52، ص70، ص71، ص111.
- تخريج الأحاديث النبوية: ومن ذلك على سبيل المثال: ص70،145، 152، 182، 197.
- تعريف المصطلحات الواردة في المتن: ديدون. وديدو ذو أصول فينيقية تعني الرحالة. كما سميت بأليسا التي يعتقد أنها كلمة فينيقية مشتقة من كلمة أليشات ص 82.
- تعريف الأماكن مثل: مرو الرود وتسمى أحيانا مرو الصغرى، مدينة تاريخية قديمة قريبة من مرو الشاهجان وتقع بقرب نهر المرغاب غرب أفغانستان ص 56. الطري بضم الطاء وتشديدها وكسر الراء وتشديدها، منطقة مطلة على البحر بأعلى الجبل الكبير، قريبة من شاطئ أشقار بها منارة تهتدي بها السفن ص 67.
- تعريف الأعلام البشرية مثل : محمد بن عبد الله ص 72، محمد بن العربي الطريس ص 75، الحسن بن القاسم كنون ص 123، الحسن الغسال ص128، أبو القاسم الزياني ص 221، حميد بناني الفاسي ص 224.
- الإضافات المقتبسة من بقية المظان التي اعتمد عليها العلامة محمد السكيرج في التأليف مثل: المسالك والممالك ص 81، الاستقصا للناصري ص 131، معجم البلدان ص 139، الإحاطة في أخبار غرناطة ص 173، تاريخ ابن خلدون ص 192: سلوة الأنفاس ص 233.
- تصحيح الأخطاء: منها مسلمون سبعة وثلاثون: هكذا في الأصل ويقصد سبعة وثلاثون ألفا ص 61، قبيلة بوقوية: هكذا في الأصل ولعلها بقيوة.
- نسبة الأبيات الشعرية إلى أصحابها وذكر بحورها: ومنها على سبيل المثال: ص 53، ص 54، ص 55، ص 120، ص 121، ص 141، ص 153، ص 166.
- المصادر والمراجع: استعمل المحقق مجموعة من المصادر والمراجع لتحقيق هذا الكتاب تمكن من الاطلاع عليها بالمكتبات المغربية حيث استخدم إضافة إلى القرآن الكريم عددا كبيرا من المصادر والمراجع باللغة العربية وهي كما يلي بلغة الأرقام: المصادر: 114 مصدرا من ضمنها المصادر المغربية وخاصة كتب التاريخ. أما الدراسات والمراجع فقد بلغ عددها 23 دراسة ومرجعا، وهو ما يؤكد حرص المحقق على القيام بتحقيق علمي جاد.
إن التحقيق مهمة شاقة ونبيلة في الوقت نفسه، وتتطلب جهدا كبيرا من طرف المحقق، وتزداد الصعوبة أكثر حينما يكون العمل كبيرا وأغلب صفحاته عبارة عن مسودات بخط المؤلف لم يتم تحريرها بصيغة نهائية، وعليه فالجهد الذي قام به المحقق لم يكن يتعلق بالدراسة والتحقيق فقط، بل قبل ذلك بملئ فراغات ظلت مبتورة في الأصل. والذي يمكن قوله إن الدكتور محمد كنون الحسني قد نجح في إعادة الحياة إلى كتاب رياض البهجة، حيث جمع شتاته، ثم قام بتحقيقه تحقيقا علميا أثرى به المكتبات العلمية، فضلا على أنه وفر مادة دفينة وقيمة تسمح للباحثين بإنجاز دراسات مستفيضة حول مدينة طنجة.
لقد قدم هذا العمل مجهود المحقق الدكتور محمد كنون الحسني في مجال التحقيق، على أنه مجهود ممنهج محكم، ينطوي على خبرات، وتمرس بمجال التحقيق، حصلتها قراءات كثيرة، وجولات واسعة، وتتبع لأعمال المحققين الكبار يستقرئ منحهم، ويتابع أعمالهم، ويخبر ألوانهم بالإجلاء والكشف. كما كشف هذا العمل عن شخصية الدكتور محمد كنون الحسني المحقق، وطريقة عمله، وإخلاصه فيه وتفانيه، وضبطه وتيقنه مما يخطط له، ويقوم به، وتصوره للعمل على أنه إضافة وإغناء في سبيل التطوير والنهوض بالفكر، لا تكرار وتراكم، وملء للبطاقات الشخصية بالعناوين، وتصميمه وصبره على مغالبة عقبات البحث، وإرضاء ضميره العلمي، وصدقه وصراحته فيما يواجهه ويعانيه، واعترافه بالجميل والفضل لذويه، مما يحمل أن يتزين به العالم الحقيقي، لا المتنطع المدعي، والتطلع إلى الأفضل، وإيمانه برسالته، وخدمته للعلم، بجهده ووقته وراحته وروحه.
[1] – رياض البهجة- ص12
[2] – محمد بن الفاطمي: إسعاف الإخوان ص: 273-277
[3] – محمد كنون: مواكب النصر ص 58/61
[4] – عبد العزيز خلوق التمسماني: دار النيابة- عدد 27/26- سنة 1990 ص 51-54
[5] – عبد الغني السكيرج: الروض المتأرح في تراجم بعض آل سكيرج ص 54.
[6] – رياض البهجة- التقديم- ص 46
[7] – انظر مثلا هامش ص 78 من الكتاب