نظرات في منهجية التحقيق عند الدكتور محمد كنون الحسني:
” رياض البهجة في أخبار طنجة” للعلامة محمد بن العياشي السكيرج أنموذجا
1/2
إعداد: عدنان الوهابي
التراث جزء مهم من تاريخ الأمم وحضارتها، وتحقيقه خدمة جليلة لهذا التاريخ، وصيانة للإرث الفكري، لذلك انبرت الأمم إلى إحياء التراث بصور شتى تراوحت بين النشر والتفسير والتلخيص والنقد والتعليق والتحقيق.
وقد انصب علم التحقيق على نصوص التراث العربي الإسلامي حيث كان العلماء المسلمون سباقين في هذا المجال، وخاصة علماء الحديث الذين أرسوا دعائم علم الجرح والتعديل، وفي هذا يقول الدكتور محمد كنون الحسني: ” ونحن نعلم بداية التحقيق النصوص وتوثيقها ارتبطت في التراث العربي بجمع الحديث النبوي الشريف وترتيبه وتبويبه، واجتهاد رجاله في المقارنة والمقابلة بين النصوص المحفوظة في صدور الرجال”( [1]).
وإسهاما في إحياء التراث المخطوط، تعريفا ودراسة وتحقيقا، نهض عدد من العلماء الأجلاء عرب ومغاربة بشكل خاص بعبء تحقيقه ونشره في حلة جديدة، مثبتين جدارتهم في هذا المجال، أمثال: عبد الله كنون وعلال الفاسي ومحمد بن تاويت الطنجي ومحمد المنوني، وسعيد أعراب … ومن لحق بهم من الأساتذة الباحثين أمثال: محمد بن شريفة، وعبد السلام الهراس، وعبد الله الترغي…
ويرجع اهتبال الدكتور محمد كنون الحسني بالتراث إلى ثلاثة أسباب وهي: البيئة، الصحبة، الممارسة:
- البيئة: تتجلى في محضنه الأسري التربوي، إذ ورث عن أبيه مكتبة فيها نفائس ومخطوطات وهذه كافية للارتباط، بل وعشق التراث.
- الصحبة: فالدكتور محمد كنون صحب أعلام التحقيق في شمال المغرب، مثل عمه العلامة عبد الله كنون الذي كان يجلس إليه كثيرا وينهل من علمه وفكره، والدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله جالسه مرارا لسنوات عديدةوذاكره، وسعيد أعراب شيخ المحققين بشمال المغرب، وغيرهم…
- الممارسة: عمله أستاذا جامعيا في كلية الآداب تطوان، وإشرافه على مكتبة عبد الله كنون ومساهمته في فهرستها، واطلاعه على نواذر مخطوطاتها، وقيامه اثناء مسيرته العلمية المباركة بتحقيق كثير من النصوص المخطوطة ودراستها ونشرها. كما أشرف على بحوث العديد من الطلبة في تحقيق نصوص من الأدب المغربي.
- قيمة التحقيق:
كانت طنجة أوائل القرن العشرين مدينة استثنائية ، فهي أقرب حاضرة مغربية إلى أورربا، يحدها بحران، تعاقبت عليها حضارات عديدة و استقرت بها ثقافات مختلفة، إلا أننا نتفاجأ بأنه لم يكتب عن هذه الحاضرة أحد من المؤرخين العرب والمسلمين ونتفاجأ أكثر حينما نجد أن جميع من كتب عنها وتحدث عن تاريخها هم مؤرخون وكتاب أجانب، إلى أن ألف العلامة محمد السكيرج عمله هذا: (رياض البهجة)، فانتقلت مركزية النص للنص العربي مصححا ” ما شاع بين جمهور المؤرخين، بنية حسنة أو بغيرها، أن طنجة ليست مدينة علم، فالكتاب يسرد أخبار علماء طنجة وينتخب لهم فوائد، ويضمن لهم مكانة بين نظرائهم من علماء باقي حواضر المغرب، بصورة تبعث على وصف طنجة بأنها: طنجة العالمة، قياسا على سوس العالمة”[2].
وأصبح لايمكن الحديث عن تاريخ طنجة دون العودة المتجددة للتأمل في أرصدة المؤرخ محمد العياشي السكيرج، واستيعاب السياقات الكبرى لتحولات المجتمع المحلي ولنظم عطائه الحضاري والمعيشي وعلى رأسها كتابه ” رياض البهجة في تاريخ طنجة”.
لقد قيل الشيء الكثير عن هذا الكتاب، وعن صاحبه وعن ريادته فحين نتحدث عن الشيخ محمد بن العياشي السكيرج، نتحدث عن أحد أعلام الكبار الذين عرفتهم الثقافة المغربية في مجالاتها المختلفة، فهو أحد المثقفين الكبار الذين سكنوا طنجة وقضوا حياتهم ينشرون العلم والمعرفة في أرجائها: يقول الدكتور محمد كنون الحسني” كان الشيخ محمد بن العياشي سكيرج من العلماء الذين ساهموا بحظ وافر في نشر العلم والأدب بمدينة طنجة، حيث كان يعقد حلقات علمية بالمسجد الأعظم وغيره من المساجد وبالزاوية التيجانية خاصة لأنه كان مقدما لهذه الطريقة الصوفية…. ثم التحق بالتعليم النظامي بالمعهد الديني بطنجة فاستفاد من علمه ثلة من طلبة طنجة”[3].
وبإمكاننا الجزم القاطع بسطوة هذا الكتاب على اللوائح البيبليوغرافية لكل الكتابات التي اشتغلت على ماضي المدينة. يقول الدكتور محمد كنون الحسني: ” هذا الكتاب من الكتب العلمية التاريخية التي تتشوف النفوس إلى الوقوف عليها، وتتشوق الأذهان إلى رفع ستارها، واكتشاف أسرارها، والتقاط دررها، لما يحتويه من فوائد جمة ووقائع هامة انفرد بها ثغر طنجة. فلقد أراد بهذا العمل إزاحة النقاب عن تاريخ مدينة من أعرق المدن المغربية وأشهرها، فاولى بذلك كبير عنايته، وأمعن في استحضار أخبارها،وذكر معالمها ومآثرها، وتحليل الوقائع الثابتة في ماضيها وحاضرها، فجمع من ذلك الأوابد والشوارد، وأبرز للعيان ما تنوسي وأهمل من الحقائق، وجلب ما كان مدفونا في غياهب الخزائن”[4].
وإلى يومنا هذا خضع الكتاب لأعمال جامعية، ووظفت مضامينه في العديد من الأبحاث التي همت تاريخ المدينة. ولازال يفرض قوته العلمية على كل المنتسبين لدوائر البحث في تاريخ مدينة طنجة ومعها عموم منطقة الشمال، مثلما هو الحال مع المرحوم عبد الله المرابط الترغي، والمرحوم عبد العزيز خلوق التمسماني.
والغريب أن هذا المؤلف الفريد ظل مخطوطا حبيس رفوف الخزانات قرنا من الزمن يتهيبه المحققون إلى أن سمت إليه همة الدكتور محمد كنون الحسني ” رجل التحقيق بامتياز فهناك مجموعة من الأعمال تشهد بطول باعه في هذا الميدان وكتاب رياض البهجة هو نموذج لجهد أخينا محمد كنون في التحقيق “[5].
- منهج المحقق في عمله:
قسم الدكتور محمد كنون عمله في هذا الكتاب إلى قسمين: قسم أول خصصه للدراسة، وقسم ثان أفرده للتحقيق.
2-1: القسم الخاص بالدراسة
- تقديم التحقيق:
أبرز فيه الدكتور محمد كنون الحسني قيمة الكتاب ومنزلته عند الباحثين والدارسين لتاريخ طنجة فهو من الكتب العلمية التاريخية التي تتشوف النفوس إلى الوقوف عليها، وتتشوق الأذهان إلى رفع ستارها، واكتشاف أسرارها، لما يحتويه من فوائد جمة ووقائع هامة انفرد بها ثغر طنجة وتميز، قبل أن يتطرق إلى الأسباب التي جعلته يقبل على تحقيق هذا السفر التاريخي منها غياب كتب تهتم بالمدينة وبآثارها كما نجده في مدينة تطوان مثلا، وعدم إقبال الباحثين على تحقيق هذا السفر رغم أنه المصدر الوحيد الذي كتب عن تاريخ المدينة، فقد ظل رياض البهجة حبيس الخزائن الخاصة، قرنا من الزمن أو يزيد قليلا: ” دون أن يلقى عناية من أبناء المدينة أو غيرها عدا إشارات هذا العمل أو نقلا منه واعتمادا عليه دون ذكره، هذا بالرغم من أننا لا نجد لهذه المدينة كما يوجد لغيرها من مدن المغرب، بحيث ضاعت آثارها القديمة معالمها الإسلامية، حتى آثار رجالها وأعلامها ضاعت وعميت علينا أخبارها”[6].
هذا الحب الشديد للكتاب وغيرته على المدينة هو ما جعله يقتحم غمار تحقيقه يقول الدكتور محمد كنون: ” فأنا لست مؤرخا ولكن غيرتي على الكتاب وحب مدينتي كانا وراء اقتحام هذا المجهول وركوب هذا الصعب”[7]. وبتحفيز من صديقه الدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله الذي كان يرنو إلى إخراج هذا العمل إلى النور وإن اقتضى الأمر نشر النص الكتاب فقط دون هوامش أو فهارس.
وقد كانت هناك محاولات سابقة لتحقيق الكتاب لكنها ظلت حبيس رفوف الجامعات، منها محاولة الباحثة نضيرة الترحي التي حققت الجزء الأول منه تحت إشراف الدكتور المرحوم عبد العزيز التمسماني خلوق بكلية الآداب بالرباط سنة 1996م لكن هذا العمل اختفى من مكتبة الكلية، فقد بحث عنه الدكتور محمد كنون الحسني بخزانة الكلية حتى يطلع على ما أنجز فلم يعثر له على أثر، ووجد الجزء الأول فقط المتعلق بالدراسة أما الجزء الخاص بالتحقيق فلا أثر له.
كما أن الدكتور محمد كنون الحسني والدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله قاما سنة 2005م بتكليف الطالبين الباحثين عبد الله بديع ونبوية العشاب من كلية الآداب بتطوان بتخريج الجزء الثاني من هذا العمل في إطار بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، فقاما بذلك بشكل متفاوت في الدقة والإتقان وظل عملهما أيضا حبيس مكتبة الكلية مع ما في حاجة إليه من تنقيح وتشذيب.
وقد تكلفت الباحثة الدكتورة نبوية العشاب لإنجاز النصف الثاني من الجزء الثاني بتنقيح ما أنجزته، وإعادة النظر في القسم الذي أنجزه زميلها كتابة وتحقيقا، من أجل إعداد الجزء الثاني وطبعه[8]، بينما سيحقق الدكتور محمد كنون الجزء الثالث ليخرج العمل كاملا في ثلاثة أجزاء.
[1] – إشكال التحقيق على النسخة الفريدة- محمد عبد الحفيظ كنون الحسني- مجلة كلية الآداب – ص 9- العدد 16 – السنة 2016- منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية – تطوان .
[2] – رياض البهجة في أخبار طنجة: محمد بن العياشي سكيرج – الجزء الثاني- محمد الحسني- جريدة الشمال- العدد 1164- السبت 20 غشت 2022
[3] – رياض البهجة- التقديم- ص 40
[4] – رياض البهجة- التقديم- ص 5
[5] – الدكتور عبد اللطيف شهبون في تقديمه لكتاب رياض البهجة- المجلس العلمي المحلي لعمالة طنجة – أصيلة الذي انعقد يوم الجمعة 12-6-2022
[6] – رياض البهجة- ص 5/6
[7] – رياض البهجة- ص 7
[8] – صدر الجزء الثاني بعناية الدكتورة نبوية العشاب-منشورات الناي الملكي للسيارات- طنجة 2022