كنت أفكر أن أكتب مقالا عن عيد المرأة، ومقالا آخر عن عيد الأم. وفي داخلي شعور بعدم القناعة بأن أكتب مقالين. فالمرأة هي المرأة، سواء أكانت أمًا، أم لم تكن. هي كائن خُلق من ضلع رجل، والرجل يسنّ القوانين لمصلحته دوما وهو من يحدد صفات المرأة الصالحة وحقوقها. وللأسف، غالبية النساء لا يزلن خاضعات لمفهوم الرجل عن المرأة.
يحتفي الرجل بالمرأة حين تكون مُطيعة، وحين تقبل أن يكون هو صاحب القرار، وهو الأدرى بمصلحتها التي تتماشى مع مصلحة الأسرة ومصلحته تحديدًا، المرأة (سواء أكانت أمًا أم لم تكن أمًا) هي تابعة دوما لسلطة رجل (أب، أخ، زوج)، وشرفها وجسدها مرتبطان بشرف الرجل. أما شرف الرجل فليس مرتبطا على الإطلاق بشرف المرأة. ثمة قواعد أخلاقية يتفق عليها المجتمع تخص النساء تختلف كليًا عن القواعد الأخلاقية التي تخص الرجل، لأن الرجل أيضا الذي يسن القوانين هو من يحدد القيم الأخلاقية للمرأة وللرجل. فالمرأة (العربية تحديدًا وفي دول أخرى) تعيش ضمن مثلث الرعب (السمعة، العفة، العذرية). لا تزال العذرية معيار الشرف لدى المرأة، وكم من جرائم شرف ارتكبت لأن الفتاة لم تحافظ على عذريتها، والعديد من هذه الجرائم تكون فيها الفتاة مظلومة، فمجرد إشاعة يمكن أن تجعل الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو حتى أم الفتاة التي تتبنى العقلية الذكورية، في حالة هستيريا، ويتم ذبح الفتاة غسلًا للعار.
حتى مفهوم العنف يختلف جذريًا بين المرأة والرجل، فمفهوم العنف عند المرأة هو العنف الجسدي (الضرب، الأذيات الجسدية، الاغتصاب، حتى القتل)، أي هو عنف جسدي. أما مفهوم العنف ضد الرجل فهو حين تمتنع زوجته عن مضاجعته، أي تحرمه من الجنس، وهذا يُسبب له ألمًا نفسيًا وإحباطًا. هذا هو تعريف العنف ضد الرجل (أي عنف نفسي)، أما العنف عند المرأة فهو (جسدي)، كأن المرأة لا تملك روحًا ومشاعر.
لماذا لا يُعد هجر الزوج لزوجته وإهمالها عاطفيًا وجنسيًا عنفًا ضد المرأة؟ كم من زوجات عشن سنوات طويلة وحيدات يتحملن مسؤولية تربية الأولاد، فيما الزوج يعمل في دولة أخرى، وإذا تزوج امرأة ثانية يتعاطف معه معظم المجتمع، إذ كيف لرجل أن يعيش سنوات من دون امرأة!! فهو يملك غريزة، وفي حاجة لامرأة ترعاه وتحبه. لكن لا أحد يهتم بالمعاناة النفسية للزوجة التي تعيش حرمانًا عاطفيًا وجنسيًا لسنوات. لا تجرؤ امرأة عربية متزوجة (أو غير متزوجة) على أن تعبر عن حاجتها العاطفية والجنسية وإلا تُطلق عليها أبشع الصفات وعبارة (امرأة شهوانية) تعادل تقريبًا عبارة (امرأة عاهرة). لكن المطلوب من الزوجة أن تملك خبرات العاهرات في إثارة زوجها!! عجبًا، كيف ستتحول من قديسة قبل الزواج إلى خبيرة جنسية بعد الزواج!
المفهوم الخطير والمؤذي للمرأة هو تنشئة الطفلة على مفهوم راسخ هو أن عالمها وجنتها هما الزواج، طموح كل فتاة الحصول على العريس الذي يتمتع بالثروة، ويكون متفوقًا في عمله، الطفل الذكر يُربى على مفهوم أن أولويات حياته هي النجاح في عمله، أي العمل أولًا، ثم الزواج، المرأة مهما حصلت على شهادات عالية، ومهما حققت نجاحات كثيرة، ينظر إليها المجتمع كأنها ناقصة، لأنها لم تتزوج (ولم تدخل دنيا ـ أي الزواج)، وللأسف أعرف كثيرًا من الفتيات المتفوقات الحاصلات على شهادات جامعية بامتياز، قبلن الخضوع لسلطة الزوج بأن العمل لا يُناسب المرأة، وأن أولوياتها تربية الأطفال، كأن العمل سيكون السبب في فشلها كأم وزوجة. كم من نساء حصلن على شهادات جامعية علقنها على الحائط ولم يعملن أبدًا وقد صدقن أن جنة المرأة الزواج والأطفال والعناية بالزوج الذي يعود مُتعبًا من عمله… أذكر أن المنهاج المدرسي في التسعينات في مادة التربية الاسلامية مثلا عن واجبات الزوجة، كان مبنيا على أن تبتسم في وجه زوجها المُتعب من العمل والمُعيل للأسرة، ولم يتطرق المنهاج المدرسي أبدًا إلى أهمية عمل المرأة، وحقها في العمل. لكن الأخلاق والمعايير تتغير حسب الظروف، أي ما يُمكن تسميته تذبذب الأخلاق، فحين يكون الزوج ذا دخل محدود وغير قادر على تلبية حاجات أولاده عندها يدفع بزوجته إلى سوق العمل مُوهمًا إياها أنها تشكل نصف المجتمع، وعليها أن تثبت ذاتها وتعمل. وفي القرى، نجد النساء يعملن في الأرض والزراعة، ويتحملن أعباء المنزل أيضًا.
جميلة ومؤثرة عبارة (الجنة تحت أقدام الأمهات)، والأمومة مُقدسة، والأمومة شرف، لكن للأسف (من خلال ملاحظاتي ومن خلال الواقع) فإن مفهوم الأمومة مُلتبس، أو مُبطن بمفاهيم تُهين المرأة وتظلمها. فمفهوم الأم (التي تحت أقدامها الجنة) مُبطن بمفهوم المرأة للخدمة، أي الأم الصالحة هي التي تربي أولادها، وتتحمل مسؤوليتهم، وتعتني بزوجها إذا مرض، أو أصبح مُعاقًا. ومن واجباتها أن تقوم بخدمة أهلها في أرذل العمر، وخدمة أهل زوجها، وإذا تمردت على تلك المفاهيم فلا تستحق أن تكون الجنة تحت أقدامها. مفهوم (الجنة تحت أقدام الأمهات) مرتبط بشكل خفي بسحق المرأة وجعلها امرأة للخدمة، والإعلاء من قيمة الخدمة لدرجة الشرف. لطالما تساءلت لماذا لا تكون الجنة تحت أقدام المبدعات أيضًا، كم من نساء عظيمات في العلم والأدب والفلسفة، كم من نساء تفوقن على الرجال في مجالات عديدة، لكن تفوق المرأة يُهدد هيمنة الرجل فتُوصف المبدعات بالمسترجلات، وبأنهن أنانيات، أي فضلن تحقيق طموحهن وإبداعهن على العيش في القفص الزوجي، ونادرًا ما نجد امرأة مبدعة دعمها رجل، وإذا كان وراء كل عظيم امرأة، فالواقع يبين أن وراء كل مبدعة مصيبة، أو جرح، أو كارثة (بشكل عام)، ومعظم المبدعات اللاتي التقيتهن بين كاتبات ومحاميات ومستشرقات ومترجمات كنَّ مُطلقات (أكثر من 90 في المئة منهن مطلقات)، هذا الإحصاء البسيط يدل على أن الإبداع والزواج لا يتحققان. تحضرني هنا الشاعرة الإيرانية فروغ فرخ زاد، التي كتبت قصيدة قالت فيها: أثمت إثمًا مُشبعًا باللذة، فكان أن طلقها زوجها وحرمها من أطفالها وطردها والدها من البيت.
مفهوم (الجنة تحت أقدام الأمهات) مُبطن أيضًا بمفهوم ظالم جدًا للمرأة، وهو أنه لا يحق لها أن تشكو، أو تتعب، في حال تعبت أعصاب المرأة، أو انهارت، من كثرة المسؤوليات، نادرًا ما نجد من يدعمها، بل تُتهم بالجنون. وهذا ما أبدعت فيرجينيا وولف، الناقدة والروائية الإنكليزية، في شرحه في كتابها النقدي الرائع “غرفة تخص المرء وحده”، حيث قامت بتحليل أكثر من عشرين رواية لكاتبات في بداية القرن التاسع عشر، كلهن اخترن أن تكون بطلة رواياتهن امرأة مجنونة، كي يُعبرن من خلال المجنونة عن أفكارهن. والكاتبة جورج ساند لم تكتب باسمها، إنما باسم زوجها. مي زيادة اتهمها أقاربها بالجنون ليسرقوا ثروتها، وأدخلوها مصحة عقلية لأكثر من سنة. لا توجد تهمة أنجح من اتهام المرأة بالجنون، حين تتعب، أو حين ترغب في التحرر من القيود الاجتماعية والعقلية الذكورية. تهمة الجنون حاضرة دومًا وفعالة.
المُقزز هو التنمر الجنسي على المرأة، فعبارة سن اليأس مثلا تُقال للمرأة فقط، وعمر المرأة كأنه أسهم تنخفض قيمتها مع الزمن، وتصبح المرأة بعد انقطاع الدورة الشهرية كائنًا لا جنسيًا، والعنوسة صفة تلتصق بالمرأة أيضا، أما الرجل الذي لم يتزوج فيقال عنه: رجل وحيد. والرجل يستطيع أن يتزوج متى شاء، وكم من زيجات كان فرق العمر بين الزوجة والرجل أكثر من ثلاثين سنة، أما إذا تزوجت المرأة رجلا أصغر منها ببضع سنوات فتتعرض لانتقادات كثيرة، والتنمر الذي تعاني منه غير المتزوجات لا إنساني وظالم، حيث تعيش العانسات في حرمان عاطفي وجنسي مُهين، في إحدى روايات جاك لندن يقول: الحرمان العاطفي الجنسي يهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان. وتحمل العانس أيضا شرف الأسرة، لا تجرؤ على الحب، أو أن تُعبر عن معاناتها، وتعيش في خدمة أهلها وأولاد إخوتها.
عيد المرأة وعيد الأم يومان من ضمن 365 يوما يتم فيهما تطريز المقالات في مدح المرأة والأم، وتُقدم بعض الهدايا التي غالبا ما تكون هدايا لتحسن خدمة المرأة، وكثير من النساء اعترفن لي بأنهن تلقين هدايا مثل طنجرة ضغط على البخار، أو مكواة… إلخ. يومان مُبهجان تُقدر فيهما المرأة والأم، ثم تعود الحياة إلى إيقاعها؛ مجتمع ذكوري متسلط يحدد شخصية المرأة وواجباتها، وله الحق في تأديبها، أو مكافأتها، إذا أطاعته. وللأسف، كثير من النساء يتبنين العقلية الذكورية.
لمياء السلاوي