بقلم إكرام عبدي
أولى أبجديات الفقْد تهجّيناها عند الفطام؛ حين انتُزعنا من حليب أمهاتنا، كان الفقد موجعا، وتوالت آلامه تباعا، لتمنحنا الحياة جرعات متواترة من الموت، فقْد الأحبة، فقْد الأمكنة، فقْد الانتماء، فقْد الجسد، فقْد الذاكرة… وغيرها من تمارين الفقد التي لم تعمل في النهاية إلا على تقوية عضلات القلب والفكر معا.
مؤلمٌ نصل الفقد حين يندس في أعمق الأعماق، فهو أشد إيلاما من فقْد حياتنا، عبره نربي الألم، ونتجرع مرارات الفراق، وتُنكأ الجراح في كل مناسبة أو عيد أو ذكرى، ويعلمنا الاشتياق والحرمان والاحتراق والحرص و الفرح و المقاومة والحب والسخرية من تفاصيل وغباوات، ويزيد من علاقتنا بالمفقود حميمية وقوة واشتعالا وديمومة، مرسخا تمسكنا بالحياة بمعناها أو بلامعناها، أما موتنا الخاص المؤجّل فألطف بكثير، قد ينشب أظفاره لكن على حين غفلة وفي لحظة خاطفة، دون أن يِخزنا أو يؤلمنا أو يشعرنا بسطوة حضوره.
تمضي حياتنا إلى موتها بخيلاء وتهادٍ، في حداد يومي كما يقر هيدغر، فهي مرشَّحة للموت وماضية إلى حتفها بأسئلتها الوجودية، في حالة تطور طبيعي يبلغ مداه في النهاية، يختلف الأمر فقط في سرعة المضي.
لكن تلطيفا من نهايتها الحتمية، تصر على التفاوض مع الموت ومهادنته والمقاومة والتطبع مع الخسارات ، وتبحث عن أسباب الحياة كي لا تحرم منها أو تسقط في لُجج اليأس، تقرأ تفكر تكتب ترقص تسمع الموسيقى تحب تسافر تعمل تثابر…كلها محاولات منها للنسيان ومزاحمة الموت وتأجيل غيابها أو سفرها الحتمي.
تستجدي حياتنا الإبداع لترميم نزْف الفقد و تأجيل موتها الخاص و”تشاغل الموت” كما يصرح أمبرتو إيكو ؛ رافضة الموت الذي يُنقش على قبرها بمداد الماء بلا أثر، تحيا ببهجة الكتابة التي تمسح من ذاكرتها كل أوجاع الفقد، مشرئبة إلى حيوات أخر، متبرئة من حياة بلا حياة، وكائنات لا تجيد أبجديات الحياة تحدق في أعين الموت كل صباح ومساء.
تؤجل الحياة سفرها الجبري؛ تماما كما أجلت شهرزاد موتها بسطوة الكلمة وحلاوة حديثها وطرافة حكاياها ونفوذ القص والتشويق، مشهرة لذة الحكاية في مواجهة لذة القتل، لترسم نهاية لمتاهة القتل المجاني، مؤمنة أن التحرر من الشعور بالموت لن يتم إلا بالإبداع للاكتمال والتسامي، مستجيرةً بتلابيب شطحات خيالٍ جسور، مستنبتة بذور البقاء، ناهلة إكسير البهاء وترياق الخلود.