تقديم:
الرحلة صنف تأليفي يختص بتتبع الراحل في لحظات تنقله من أمكنة وأزمنة معينتين فيتم رصد الراحل لذكرياته أثناء هذا التنقل في وصفه للمسالك والممالك، وفي الحديث عن الطرق والمجتمعات التي يتصل بها والظروف المحيطة بها أثناء ذلك، وما يلاحظه من وقائع وأحداث قد تدعو إلى تسجيلها والكتابة عليها، مع عرض أنشطته المختلفة الخاصة به أثناء هذه الرحلة([1]).
ويتنوع نص الرحلة بتنوع الهدف الذي يستهدف إعمال الرحلة، منها التشوق إلى الحج وزيارة الأماكن المقدسة، ومنها الرحلة إلى الشيوخ واللقاء بهم والاستفادة منهم، ومنها مجرد الرحلة للزيارة والتنزه والمغامرة، ومنها ما تكون لأهداف سفارية لجهة من الجهات، ومنها ما تكون لأهداف أخرى مما يحمل الراحل في الطوع أو الإكراه على إعمال الرحلة([2]).
وعند قراءتنا للرحلة الشرقية الحجازية التي قام بها الأستاذ محمد داود سنة 1353هـ/1935م، و التي دامت ستة أشهر كاملة زار خلالها كلا من مصر والحجاز ونجد والعراق وشرق الأردن وفلسطين. نجدها تنحو منحى مغاير لما رسمته الرحلات المغربية، وهذا مسلك جديد ومنحى غريب في الكتابة الرحلية المغربية، وخاصة منها الرحلات الحجازية التي انتظمت جميعها في سلك واحد لا يكاد يجمع إلا بين الشوق والحنين للبقاع المقدسة والحديث عن لوعة فراق الأهل والوطن، ووصف الطريق وما يحفل به من محن ومصاعب، مع استحضار بعض الأمثال والحكم والأشعار في السفر والارتحال، محبذة ومحببة وحاثة ومشجعة، لا سيما وأن الوجهة مقدسة والقصد شريف والغاية من أركان الإسلام الخمسة.
والأستاذ محمد داود في هذا المنحى إنما يرسم لنفسه طريقا خاصا ويؤثت فضاء ينسجم مع واقع عصره ويؤشر على التطور الحاصل في المنتصف الأول من القرن العشرين، فضاء لتبلور أفكار جيل جديد، سعى عبرها وعبر استثمار ما توفر من إمكانات التداول الجديدة كالصحافة والمجلات، إلى تحقيق اختلافه عن جيل العلماء المحافظ الذي كان يعتمد في تصريف أفكاره على بعض المؤسسات التعليمية وعلى الزوايا.
فإن كانت الرحلة حادت عن الطريق الجغرافي المألوف، وتناست رسم صور ومعالم المسالك والممالك، فإن قيمتها الحقيقية تتجلى في كونها حلقة ضمن سلسلة النتاج الفكري للرجل الذي اتخذ شكل مشروع هادف يروم ضمن ما يروم إليه التعريف بالمغرب واستحضار آثار عظمائه من الفاتحين والملوك المتوجين، والتذكير بعطاء كبار رجالاته من الكتاب والأدباء والشعراء وفرسان القلم والسيف. فتقترب أكثر من وسائل الإعلام المتاحة للتعريف بالمغرب والتذكير بماضيه المجيد، فقصد لذلك كبريات الجرائد المصرية والشامية والحجازية للتعرف إلى أصحابها أولا، وللكتابة عن بلده قبل ذلك وبعده ثانيا: ” فإنه قد استطاع خلال رحلته هذه، أن يمثل دور السفير الذي عرف ببلاده (المغرب) في المشرق العربي، حيث عرف من خلال ما ألقاه من محاضرات او دروس أو خطب، بأبطال المغرب الأشاوس، من أمثال الزعيم المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطاب، وبالأحوال التي كان المغرب يعيشها تحت الحماية الأجنبية، وذلك في فترة كان التواصل فيها من الصعوبة بمكان”([3]).
- الرحلة الشرقية والتواصل الثقافي المغربي بالمشرق العربي
و يمكن أن نعتبر هذه الرحلة في الحقيقة نموذجا من الرحلات التي تمثل طموح الشباب المغربي الناهض في النصف الأول من القرن العشرين، ورغبته في خلق جو من التواصل بين المغرب والمشرق العربيين، ([4]):
أولا: لما تضمنته هذه الرحلة من قيم تاريخية وسياسية واجتماعية وأدبية وثقافية، تتجلى في مختلف الاتصالات والمبادرات والزيارات واللقاءات والاهتمامات التي كانت لصاحبها أثناء المدة التي قضاها في سفره عبر الأقطار العربية المذكورة سابقا.
ثانيا: ماساهم به صاحب الرحلة من خلالها في التعريف بالمغرب وبأحواله السياسية والثقافية وتقريب الوضع المغربي إلى الأوساط العربية المشرقية التي كانت تجهل الكثير عن هذا البلد.
ثالثا: ما تضمنه الرحلة من وقوف على أحداث أو أوصاف أو تصريحات تعكس حقيقة الأوضاع التاريخية والمشاهد الظرفية للمجتمع العربي شرقا وغربا، في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين، وخاصة الحالة في فلسطين وفي العراق وفي مصر، مع تقريب كل ذلك والتعريف به في الأوساط المغربية.
وتخول لنا هذه الرحلة معرفة الكثير من المعلومات المرتبطة بالمشرق العربي سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، وأهم الأعلام السياسية والثقافية التي التقى بها في رحلته، والتي ساهمت في خلق نهضة ثقافية وفكرية في تلك الفترة.
ويمكن أن نتمثل علامات التواصل الواردة في الرحلة الشرقية لأستاذ محمد داود في النقاط التالية:
أولا: في ما سجله أثناءها من حرص كبير على لقاء رجال الفكر والأدب والجلوس إليهم، ورسم الفوائد التي تؤخذ بين أيديهم، ورغم أن الأستاذ محمد داود كان يتواصل معهم عبر البريد فيتبادلون الرسائل والأخبار، ويتناقلون المعلومات التي تهم كل بلد، إلا أن ذلك لم يشف غليله إذ سطر قبل رحلته برنامجا شاملا يحدد فيه الشخصيات المرموقة والمعروفة في ميدان الفكر أو الثقافة أو السياسة أو الصحافة أو النشر الذين سيلاقيهم في رحلته ويتبادل معه الفوائد والمعلومات والأخبار: ” في جمعية الشبان المسلمين: عبد الحميد سعيد- الدكتور الدرديري- الشيخ عبد الوهاب النجار، الخضر حسين، رئيس جمعية الهداية الإسلامية،محب الدين الخطيب جريدة الفتح، توفيق دياب- جريدة الجهاد – عباس محمود العقاد- يوسف حنا- سلامة موسى……”([5]).
ويبلغ مجموع الأعلام الذين لقيهم في وجهته ممن التقاهم من العلماء والمفكرين، أو الذين تبادل معهم الأخذ أو أفادوا منه، ما يزيد على (ثلاثين) رجلا، أكثرهم لقيه في مصر ثم الحجاز في مكة وجدة، ثم العراق ففلسطين، وهو حين يأتي على ذكرهم يرتبهم حسب أماكن اللقاء بهم.
ففي مصر التقى بمجموعة من الأدباء والشعراء العرب المرموقين من أمثال محمود عزمي، وعباس محمود العقاد، ومحمد توفيق دياب، وأحمد لطفي السيد، ومحمد الهراوي، ومحمد الخضر حسين، وعيسى إسكندر معلوف، والشيخ عبد القادر المغربي، والسياسي الكبير عبد الرحمان شهبندر، والباحث المقتدر محمد فريد وجدي، والكاتب أمين سعيد، وحمد باشا الباسل، والمؤرخ الحضرمي صلاح البكري، والشاعر الحضرمي أحمد علي بكثير، كانت له معهم جميعا جلسات ومذاكرات. وأقيمت له حفلات وولائم، ولولا اشتياقه لأهله وأولاده، لطالت إقامته بين هؤلاء الأصدقاء والرفاق الذين جمعت بينه وبينهم كثير من الآراء والتوجيهات.
وفي الحجاز زار الأصدقاء والتقى مع الزملاء من الأدباء والصحافيين وغيرهم، حيث زار دار جريدة ” صوت الحجاز”، وكذا دار ” أم القرى”، كما التقى بكل من السيد فؤاد بك حمزة، وكيل خارجية الملك فيصل بدار الحكومة العربية، والسيد سعيد عبد المقصود خوجة المحرر بجريدة أم القرى، وقابل الشاعر السعودي الكبير عبد الله عمر بلخير، والدكتور المصري محمد وصفي، والصحافي الإيراني أحمد بهار.
وفي العراق بالنجف التقى فيها بمحمد علي القري صاحب مطبعة القري، كما لقي الشاعر محمد مهدي الجواهري، وزار الشيخ محمد الحسين الكاشف الغطا، وفي بغداد يتصل الأستاذ محمد داود بالصحافي العراقي يونس بحري المعروف باسم ” السائح العراقي”، وهو رئيس تحرير مجلة العقاب، في كل زياراته لمشاهير الشخصيات ببغداد تقريبا ومن أشهرهم الشاعر والفيلسوف العراقي جميل صدقي الزهاوي.لا ومن الشخصيات التي لقيها الأستاذ محمد داود ببغداد: الأساتذة كمال الدين الطائي، وأكرم زعيتر، ودرويش المقدادي، والأمير عادل أرسلان، وسعيد ثابت عضو مجلس النواب، وفريد زين الدين المدرس بالثانوية المركزية، وبديع شريف مدرس اللغة العربية بدار المعلمين. كما قابل السيد جميل روحي ( المرافق الأول لرئيس الوزراء بالعراق)، وإبراهيم حلمي العمري (مدير المطبوعات)، ومصطفى العمري (مدير الداخلية العام)، وحسام الدين بكر (مدير السجون العام). ومولود باشا مخلص، وجميل المدفع، والشيخ إبراهيم ابن معمر الوزير المفوض للملكة العربية السعودية، وخالد الهاشمي (مدير دار المعلمين ببغداد)، ونوري فتاح (أحد أصحاب معمل الغزل والنسيج بها)، وكذلك سليمان باشا الباروني الطرابلسي الذي كانت له معه لقاءات ومذكرات طويلة، وعلي الحمامي، وعبد الحق الغزاوي، أما مدير المعارف الدكتور فاضل جمالي، فقد أهداه نسخة من برنامج التعليم العراق عندما زاره في إدارته ببغداد.
وفي فلسطين سيلتقي في القدس بصديقه طاهر الفتياتي، مدير جريدة ” الجامعة العربية”، كما التقى بسماحة المفتي الحاج أمين الحسيني، وكانت بينهما مذاكرة هامة حول أحوال اليهود في فلسطين، كما التقى بالصحافي عجاج نويهض وغيرهم من الشخصيات.
ولا يكتفي الأستاذ محمد داود بذكر رجال العلم والفكر والأدب، وإنما يتحرك أيضا نحو رجال الفكر والإصلاح والثقافة فيزور أضرحتهم للترحم عليهم والدعاء لهم، وهي لحظة وفاء امتنان وشكر من الرجل لهؤلاء الأعلام لما قدموه للأمة من خدمات جليلة، وهي تعرف بمقامهم وأحوالهم إذ يظل الاستمداد منهم ساريا يتجدد به التواصل، وتتدفق به الإمدادت في الأزمنة والأمكنة التي يرحل إليها. ففي مصر ذهب : ” في صباح هذا اليوم (الخميس 17 ذو القعدة 1353هـ/21 فبراير 1935م) مع الرباحي إلى الإمام الشافعي، ومنه إلى قبر سعد زغلول باشا، وهو قريب منه. ثم إلى القلعة ودار محمد علي، ثم إلى مسجد الرفاعي، ومقابر الملك حسين كامل، ثم إلى جامع السلطان حسن أمامه”([6]).
ثانيا: يرتبط المشهد العلمي والتواصل بفاعليته، توجيه الحديث للتعريف بالمؤسسات الثقافية المؤثرة، وبخاصة المكتبات وخزانات العلماء وأصناف التي تم الوقوف عليها والإعجاب بها. ولذلك كان كثير من الرحلات، التي يحرك فيها شوق العلم أصحابها وكتابها، تتلمس االحديث على المصنفات والكتب والخزائن كما تتلمس الحديث عن الشيوخ ومجالس الدرس وحلقاته.
وإذا كان نص الرحلة ما يزال يحتفظ بحديث عن نوادر الكتب التي اطلع عليها أو تحدث عنها، فإن ما تحتفظ به إلى الآن المكتبة الداودية من أعمال تأليفية اقتناه الأستاذ محمد داود من المشرق بالشراء أو الإهداء يؤكد حرص الأستاذ محمد داود على الكتاب والشوق إلى الاطلاع عليه واقتنائه.
وهكذا نجد الأستاذ محمد داود في كثير من مراحل الرحلة يسأل عن المصنفات والمكتبات ويتحدث عنها. فمن أهم الشخصيات التي زارها الأستاذ محمد داود في جدة قبل رحيله عنها الشيخ محمد نصيف من آل نصيف المرموقين بهذه المدينة، والذي كان يملك مكتبة عظيمة بجدة، حيث استدعاه هذا للغداء عنده في بيته، فلبى الدعوة ومعه صديقاه الزواويان عبد الله وعبد النبي، وفي بيت نصيف اطلع على آلالاف المجلدات القيمة التي يملكها الشيخ المذكور([7]).
[1] – انظر كتاب ( أدب الرحلة في المغرب (1082-1139هـ) – عبد الله المرابط الترغي – ص 15/16 -منشورات سليكي أخوين- الطبعة الأولى فبراير 2020.
[2] – أدب الرحلة في المغرب (1082-1139هـ) – ص 15/16
[3] – حسناء داود في تقديمها للرحلة الشرقية محمد داود- ص 15- دار أبي رقراق للطباعة والنشر- الرباط -2014 م
[4] – حسناء داود- مواقف ومظاهر من التقارب النضالي والثقافي بين تطوان والمشرق العربي في غضون النصف الأول من القرن العشرين- الحلقة الثالثة- جريدة الشمال- العدد 1015- الثلاثاء 15 أكتوبر 2019م.
[5] – الرحلة الشرقية ص 21
[6] – الرحلة الشرقية ص 84
[7] – الرحلة الشرقية ص 104
بقلم: عدنان الوهابي