إعداد: عدنان الوهابي
ولذلك كانت المعالم الشخصية للأستاذ محمد داود لحظة رحلته جاهزة لها مكوناتها الفكرية وأساسياتها العقدية والفقهية، فهو لا يرحل إلا وقد أصبح يملك حصانة في الموقفين العقدي والفقهي يحول به دون أن يصبح عرضة للابتلاع عند مصادمته بالمذاهب الأخرى. ففي النجف بالعراق في يوم الأربعاء 7 محرم 1345هـ 10 أبريل 1935م، استطاع أن يتعرف على ما يقام في مدينة النجف من اجتماعات التعازي التي تقيمها جماعات الشيعة في هذا الشهر الحرام، وما يقع فيها من خطب وضرب للظهور بالأسلاك.
ومن النجف توجه الرفاق إلى الكوفة القريبة منها، وبها زاروا مسجدها وضريحي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، اللذين مثلت أمامهم رواية قتلهما، كما زاروا مقام استشهاد علي كرم الله وجهه([1]). وبعد رجوعه إلى النجف، التقى فيها الشيخ محمد الحسين الكاشف الغطا الذي كان يتقبل بدوره التعازي بمناسبة شهر محرم الحرام([2]).
سادسا: التعريف بالقضية المغربية في المشرق: قام الأستاذ محمد داود بحركة واسعة النطاق للدعاية للقضية المغربية، وقد استفاد بما كان يعرفه المشرق العربي من ثورة في إصدار الصحف فعدد الجرائد اليومية في بيروت وحدها في تلك الفترة يقرب من الخمسين صحيفة، وقد كانت زيارته قيمة للغاية وموفقا إلى أبعد حدود التوفيق و اهتم الناس بها وأطرتها الصحف العظماء وذلك يدل على تتبع المشرقيين لكل حركات العرب، في ذلك الوقت، وقد ساعده هذا في تغيير صورة المشرقيين في النظر إلى المغرب والمغاربة. وقد احتفت غير جريدة في الوطن العربي بزيارته وقامت بالتعريف به والإشادة بأعماله الوطنية، فقد كتبت مجلة الفتح([3]): ” صحفي مغربي كريم، أنسنا بلقاء رصيفنا الأستاذ الفاضل السيد محمد بن أحمد داود، صاحب مجلة السلام الغراء، التي نوهنا مرارا بصدورها في مدينة تطوان بالمغرب الأقصى، فكانت فتحا موفقا في الصحافة العربية في ذلك القطر الشقيق. والأستاذ محمد بن أحمد داود من خيرة شباب المغرب المثقف وحاملي لواء التجديد المقرون بالدفاع عن الإسلام وحمايته من حركات العدوان الموجهة إليه من أبنائه وأعدائه. ومجلة السلام برهنت على أنها نتيجة جهد عظيم وتضحية مالة وفكرية قلما يقدم عليها إلا من امتلأ قلبه حبا لبلاده وأمته ودينه. ومما نأسف له أن هذه المجلة وجدت مقاومات رسمية من جهات كثيرة، فمنعت من الدخول حتى إلى أقرب البلاد من تطوان، لذلك لم تجد أمامها ميدان الانتشار الطبيعي فسيحا، وحيل بينها وبين محبيها وعارفي قدر المهمة الأدبية التي أخذتها على عاتقها، ومن ثم زادت فداحة التضحيات التي يقوم بها ضيفنا الأستاذ السيد محمد بن أحمد داود. ولولا أن الفتح أيضا مممنوعة من الدخول إلى المنطقة التي تصدر فيها السلام لأرسلنا صوتنا عاليا في حث رجال الريف وأعيانه وعلمائه، على الأخذ بيد هذه المجلة، لتبلغ القمة التي هي أهل لها”.
وتبرز هذه الكلمات المكانة العظيمة التي يكنها المشارقة للأستاذ محمد داود باعتباره أحد أفاضل الوطنيين الأحرار في تطوان ومؤسس النهضة الأدبية ورئيس تحرير مجلة السلام التي تعتبر من أمهات المحلات الوطنية بالمغرب، و أحد المدافعين عن الإسلام ضد الحملات التغريبية الشعواء التي يشنها المستعمر في محاولة منه طمس الهوية العربية والإسلامية لدى المغاربة.
و قام الأستاذ محمد داود أثناء رحلته بإلقاء المحاضرات فاستغل مناسبة إقامة حفل استقبال له في نابلس بفلسطين فخطب مرتجلا شاكرا ومبينا الهدف من إرسال البعثات المغربية إلى فلسطين وخصوصا نابلس، وحمل حملة شعواء على خلاف رجال فلسطين و على بيع الأراضي([4]).
وأثناء مقامه في العراق حل في العاصمة بغداد ضيفا على الصحفي اللامع الأستاذ يونس البحري مدير تحرير جريدة العقاب، الذي استغل الفرصة ، فأقام حقل استقبال على شرفه دعا إليه نخبة من علية القوم وادبائهم من بينهم وزير العدلية، ومعالي وزير المالية، وجماعة من كبار الموظفين والوجوه والأدباء والصحافيين. في أحد الفنادق الفخمة وقد استغل السيد محمد داود المناسبة فألقى خطابا بليغا ونفيسا تطرق فيه إلى نهضة العراق والرقي الذي وصل إليه بجهود أبنائه وزعمائه وخدماتهم الكبيرة، وذكر باني مجد العراق الملك فيصل، وأظهر عظمة الفقيد الغالي وجهاده السامي في سبيل الأمة العربية، ثم ذكر أن العراق موطن العرب الكبير، ومما جاء في كلمته التي نشرتها جريدة البلاد كاملة:” كانت الأمة العراقية على على العموم في مؤخرة الأمم، فلم تكن لها صحافة راقية تنطق بإسمها، ولكنها أصبحت ولها صحافة محترمة تضاهي أرقى صحف العالم العربي، ولم تكن في العراق مدارس منظمة يتخرج منها العلماء والنابغون سواء في الطب والهندسة أو القانون، والأدباء النابهون سواء في الكتابة أو الشعر أو التأليف، فأصبح العراق وبه اليوم مدارس منظمة على أحدث طراز، وقد سدت الفراغ العظيم الذي كانت تشعر به هذه البلاد، والمؤمل أن لاتمر مدة طويلة حتى يمكن لهذه المدارس أن تغني أبناء العراق عن السفر إلى الخارج لإتمام دراستهم العليا، وأصبح في استطاعة العراق اليوم أن يستغني بجهود أبنائه في حل مناحي الحياة المادية والأدبية”([5]). وبين فيها أيضا الروابط التي تربط الأقطار العربية بالعراق، وتربط العراق بهذه الأقطار، كما تضمنت من العواطف والآمال المشتركة في نهضة البلاد العربية حيث يقول الأستاذ محمد داود: :” وإننا نعيذ إخواننا وأشقائنا سكان العراق من أن يفكروا في تلك الوطنية الضيقة، وبعبارة أكثر وضوحا: إننا نجل جميع إخواننا العرب، أيا كان مسكنهم، من أن يغلطوا تلك الغلطة التي لا تغتفر، أو أن يصغوا إلى تلك الدسيسة الأجنبية التي لاتكفر، من أن العراق يجب أن يكون للعراقيين، أو أن سوريا للسوريين، أو مصر للمصريين، أو المغرب للمغربيين، كلا أيها السادة، إنما المغرب وطن لكل شخص عربي، هذا هو نظرنا، وهذه هي الرسالة التي نحملها، والغاية التي نسعى لها ونعمل لتحقيقها، ونؤمل، بل نرجو أن يكون إخواننا، سواء في العراق أو في سوريا أو فلسطين أو غيرها من الأقطار العربية، يرون رأينا في أن كلا من هذه الأقطار العربية وطن لكل فرد يجري في شرايينه الدم العربي، أيا كان مولده وأيا كانت نشأته أو تربته “([6]).
وتتبعت الصحف العراقية الأنشطة التي قام بها الأستاذ محمد داود أثناء زيارته للعراق ومنها التكريم الذي أقمته له جمعية الهداية الإسلامية: “وزعت أمس جمعية الهداية الإسلامية رقاع الدعوة على عدد كبير من رجال الدولة والصحافيين ووجوه وأعيان البلد، لحضور الحفلة التكريمة التي ستقيمها عصر اليوم في الساعة الخامسة زوالية، للأدباء والزعماء المغاربة والأندونيسيين في مدرسة دار العلوم الدينية والعربية في الأعظمية”([7]).
وقد حضر وزراء، وجمهور كبير من العلماء، ومدير الأوقاف، والأدباء والفضلاء وأرباب الصحف، وقد خطب في هذه الحفلة الأستاذ محمد داود خطابا كان له أجمل وقع في القلوب([8]).
ولم تفته الفرصة أثناء مقامه في المشرق العربي التعريف بالمغرب وتاريخه للبلدان العربية فنشرت جريدة البلاغ مقالا للأستاذ محمد داود بعنوان: حالة المغرب الأقصى بين أيدي الفرنسيين والإسبانيين. تحدث فيه عما أحدثته نظام الحماية من جريمة تقسيم بلد موحد إلى قسمين هما شمالي المغرب وجنوبه سمي الأول بالمنطقة الخليفية، والثاني بالمنطقة السلطانية، لذلك فهو يلتمس من المشارقة الذين يسايرون السلطات الاستعمارية في اطلاق هذه التسمية على أن يعدلوا عنها، ” لأنها تمس شعور إخوانهم المغاربة الذين يرجون أن تتمتع بلادهم بكامل حريتها واستقلالها. على أن المغرب ما كان في يوم من الأيام، ولن يكون أبدا، فرنساويا أو إسباينا، وإنما كان وسيكون إلى ما شاء الله جزءا من العالم الإسلامي العربي”([9]).
كما تكلم في مقاله عن نظام الحكم في المغرب فأشار أنه نظام ملكي، يتمتع فيه السلطان بسلطة مطلقة، لكن مع توقيع الحماية احتفظ الفرنسيون والإسبان بجميع السلط حتى لم يبق نفوذ لغيرهم، ونقلهم للعاصمة المغربية من فاس إلى الرباط التي توجد فيها: ” دائرة عليا تسمى دار المخزن، وبها مقر حكم السلطان ووزرائه. وإلى جانب هذه الدائرة دائرة أخرى تسمى الإقامة العامة وهي مقر المقيم العام المندوب السامي أو الحاكم العام الفرنساوي، والإقامة العامة مع الإدارات الفرنساوية التابعة لها، هي التي تسيطر على جميع الهيئات الموجودة في البلاد، سواء الوطنية منها أو الأجنبية، وسواء السياسية منها أو الاقتصادية أو غيرهما”([10]).
وفي كل مدينة من المدن توجد ثلاث محاكم الأولى محكمة الباشا، والثانية المحكمة الشرعية، والثالثة هي إدارة الحسبة، ليشير أن السيطرة العليا في جميع البلديات إنما هي بيد الفرنساويين والإسبانيين، وليس للمواطنين المغاربة فيها إلا قدر ضئيل من الأعمال الثانوية والتافهة.
كما وضح الأستاذ محمد داود بعض نواحي الحياة في بلاده، وهي النواحي الخاصة بالثقافة والتعليم، والتعليم عندنا على نوعيين: الأول منهما والأقدم هو التعليم الغسلامي العربي في المساجد وهذا النوع من التعليم هو الذي مكان مستعملا منذ عرف المغرب الإسلام والعروبة. وأكبر هذه المساجد وأعلاها دراسة وأكثرها مدرسين وتلاميذ هو جامع القرويين
والنوع الثاني من التعليم هو التعليم بالمدارس العصرية وهذه إما وطنية وإما حكومية، أما المدارس الوطنية فاتزال حتى الآن جد ضعيفة أما الحكومية فهي موجودة بكثرة في المنطقة السلطانية، إلا أنها روحها ولغتها وثقافتها فرنسية محضة، ولا يوجد للغة العربية أو التعليم الإسلامي فيها إلا حظ يسير وهي ابتدائية وثانوية. أما المدارس في المنطقة الخليفية، أي التي تحدت ” نفوذ إسبانيا، فمعدومة أو في حكم المعدومة، وما تهاونت إسبانيا في شيء تهاونها ي نشر العلوم والمعارف، فحكومة إسبانيا من هذه الناحية مقصرة كل التقصير، رغما عن كون أصواتنا قد بحت لكثرة ما طالبناها بنشر التعليم. فنحن منذ أكثر من خمس عشر سنة، نطالب الحكومة بفتح المدارس لأبناء الوطنيين، وقد ألفنا لجانا ووضعنا برامج ورفعنا تقارير، ولكن جهودنا كلها ذهبت سدى”([11]).
وفي الوقت نفسه أدلى بعدة تصريحات للصحف وأجرى حوارا مع جريدة روز يوسف ([12]) قصد بها إلقاء بعض الأضواء على الجهد الموفق الذي يذله في التمهيد للعمل الوطني في الشرق. ذلك الجهد الذي تبعته جهود أخرى من طرف بقية قادة الحركة المغربية الذين اعتمدوا الشرق العربي ركيزة أولى للعمل في الخارج.
والحقيقة أن الأستاذ محمد داود كان موفقا كل التوفيق فيما اتجه إليه منذ البداية في خدمة القضية الوطنية في الخارج، والعمل لكسب العون لها من طرف إخواننا العرب. فقد كتبت جريدة العقاب: ” يبارحنا مساء اليوم سعادة الزعيم المغربي الأستاذ محمد داود، بعد أن بقي بين ظهرانينا زهاء ثلاثة أسابيع، كان خلالها موقع حفاوة الأمة حكومة وشعبا، بعد أن أدهش إخوانه في هذه البلاد بالنبوغ المغربي والعبقرية العربية في تلك البلاد، فكان خير رسول للمغرب في العراق الناهض، وكان فاتحة خير لتجديد الروابط العربية بين القطرين الشقيقين المغرب والعراق” ([13]).
ولم يكن الاتجاه لبداية العمل بالخارج عن طريق الشرق والبلاد العربية لمجرد طلب النجدة والاستعانة بها خالال مراحل الأزمة الوطنية فقط، بل كان ذلك أيضا من أجل ربط المصير معها ربطا محكما، وجعل القاعدة الأولى في سياسة المغرب بالنسبة لمستقبله قائمة على اعتبار أن المغرب العربي كله جزء من وحدة العرب الكبرى.
[1] – الرحلة الشرقية ص 112
[2] – الرحلة الشرقية ص 113
[3] – مجلة الفتح – عدد 433- السنة التاسعة- الخميس 10 ذي القعدة 1353 موافق 14 فبراير 1935- منشورة في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 215
[4] – الرحلة الشرقية ص 164
[5] -جريدة البلاد– عدد 525- السنة السادسة- الخميس 14 محرم 1354هـ موافق 18 نيسان 1935- منشورة في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 225
[6] -جريدة البلاد– عدد 526- السنة السادسة- الجمعة 15 محرم 1354هـ موافق 19 نيسان 1935- منشورة في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 226
[7] -جريدة العالم العربي- العدد 3405- السنة 12- بتاريخ الخميس 14 محرم 1354 موافق 18 نيسان 1935 في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 223
[8] -جريدة الطريق- العدد 622- السنة الثالثة- بتاريخ الحمعة 15 محرم 1354 موافق 19 نيسان 1935م- في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 228
[9] – حريدة البلاغ – العدد 3867- السنة 13- بتاريخ الأحد 15 ربيع الأول 1354 موافق 16 يونيه 1935م – في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 273
[10] – حريدة البلاغ – العدد 3867- السنة 13- بتاريخ الأحد 15 ربيع الأول 1354 موافق 16 يونيه 1935م – في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 275
[11] – حريدة البلاغ – العدد 3867- السنة 13- بتاريخ الأحد 15 ربيع الأول 1354 موافق 16 يونيه 1935م – في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 276
[12] – جريدة روز يوسف- العدد 94- السنة الأولى- بتاريخ الجمعة 28 صفر 1354 موافق 31 أيار 1935م – في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 266
[13] -حريدة البلاد – العدد 540- السنة السادسة- بتاريخ الاثنين 2 صفر 1354 موافق 6 ماي 1935م – في ملحق صدى رحلة الأستاذ محمد داود في الصحافة- حسناء داود- الرحلة الشرقية ص 259