حاوره: عبد الله بديع
أصدر الباحث في قضايا الترجمة والمترجم محمد بوزيدان، منذ حوالي سنتين، كتابا مترجما يتضمن قصصا مختارة من الأدب العالمي أطلق عليه عنوان “مأساة غريغوريو”؛ وهو عمل يندرج في سياق أنطولوجيات مماثلة أعدها ونشرها مترجمون مغاربة، على غرار الصنيع الذي قام به كل من سعيد بنعبد الواحد وعبد اللطيف شهيد وعبد اللطيف البازي على سبيل التمثيل لا الحصر.
وفي هذا اللقاء، نتناول مع المترجم جملة من المرتبطة بهذا العمل البكر. وهذا نص الحوار:
بادي ذي بداء، أسألك أية رهانات رسمتها في ذهنك من وراء ترجمة هذه المختارات القصصية؟
هذه المجموعة القصصية المكونة من أحد عشر نصا قصصيا هي نقطة البداية لولوج عالم الترجمة الأدبية، حيث شكل هذا الأمر بالنسبة لي رهانا أساسيا؛ فقد كنت أترجم متخفيا دون رغبة في النشر. ومن ثم، فإن خروجي عبر هذا العمل هو تلبية لمطلب ذاتي تردد طويلا في مغادرة أسوار الجسد؛ فكان أن قررت الحضور العلني عبر هذه المجموعة القصصية المترجمة محاولا الانفتاح على نماذج مختلفة من الكتابة الأدبية العالمية، من أوروبا أو أمريكا اللاتينية.
أما الرهان الآخر فيتمثل في قياس جودة ترجماتي مقارنة مع الترجمات الأخرى، خاصة في النصوص التي أعدت ترجمتها؛ وعلى رأسها “مأساة غريغوريو” التي اختار لها بعض المترجمين الآخرين عنوان التحول أو المسخ. إن رِهاني هو اكتشاف ذاتي المترجمة ومدى نجاحها في هذا الفعل الإبداعي، فكل واحد منا قد يرى في أعماله الكمال والتمام؛ لكن حينما يعرضها في سوق الإبداع يكتشف حجمه الحقيقي ويتعرف من خلال الآخرين على مميزاته وكذا على جوانب قصوره، فيسارع إلى لملمة خطه الإبداعي وتحسين جودة إنتاجه الأدبي.
أما الرهان الثالث فهو إعادة شيء من الاعتبار للكائن السياسي الذي يوصف في بلدنا بالأمية والجهل والبعد عن الثقافة والاهتمام بمصالحه الشخصية فقط. للأسف، فإن ممارستنا السياسة لا تخلو من هذه الظواهر السلبية؛ غير أن البعض اتخذها قاعدة مسكوكة وصورة نمطية لوصف كل السياسيين حتى يصبح من المستحيل عليهم التخلص منها، وكأن المجال السياسي وحده من يعرف انحرافات والحقيقة غير ذلك. لذلك، ارتأيت وأنا من “قبيلة” السياسيين أن أقول بأن الواقع مختلف، وأن العمل السياسي في بلادنا يزخر بمجموعة من الأطر النظيفة في شتى المجالات؛ لكنها تتعرض للمضايقات ويتم تحجيم دورها حتى من داخل المجال ومن خارجه، لتيأس في النهاية وتبتعد عن الفعل السياسي كي يخلو للنموذج غير المشرف.
تتضمن هذه المختارات قصصا لكتّاب من أقطار شتى؛ من تشيكوسلوفاكيا وكولومبيا وإسبانيا والمكسيك والأرجنتين وغواتيمالا وإيرلندا… فما المعايير التي تحكمت في انتقاء هذه النصوص؟
في الحقيقة ليس هناك خيط ناظم لهذه الاختيارات، وحين عكفت على ترجمتها لم أفكر في نشرها ضمن كتاب؛ بل الذي استهواني فيها هو تنوعها الذي شكل بالنسبة لي تحديا في كشف ألغاز أساليب كتاب مختلفين وبخلفيات ثقافية متباينة… فهذا غابرييل غارسيا ماركيز صاحب نوبل ذو الأسلوب الأدبي العجائبي، والذي يمتاح من ثقافة أمريكا الجنوبية ومن قرى كولومبيا التي تختلط فيها طقوس الإنسان الأصلي مع الوافدين الجدد، والتي يختلط فيها الواقع بالخيال.. وهناك كذلك فرانز كافكا الإنسان الذي عاش وحيدا مضطهدا لأن جنسيته يهودية وأصوله ألمانية، وميوله إلى العزلة غذت الأمراض التي ابتلي بها حتى مات في مشفى كئيب، وهو الأمر الذي ينعكس على أعماله ذات التوجه اليائس والسوداوي والغرائبي..
كما أن اختياري لهذه النصوص جاء نتيجة دراسة لها في ورشة للأدب الإسباني على أيدي أساتذة إسبان، حيث كنا نقرأها ونناقش أفكارها والتوجه الأدبي لكتابها والفترة التاريخية التي كتبت فيها وما ترمز إليه، لذلك وجدتها الأقرب إلى الترجمة.
من الأمور التي يقف عندها القارئ لهذه المختارات أن بعضها تُرجمت من قبل.. فما الحافز الذي دفعك إلى إعادة الترجمة؟
في هذا الإطار يجدر التذكير بما يلي، تُرجمت رواية “الشيخ والبحر” إلى العربية أكثر من عشرين مرة، أولاها كانت لمنير البعلبكي الذي ترجمها عام 1961. وقد ذكر المترجم علي القاسمي، آخر مترجمي هذه الرواية، في أعمال المؤتمر الثاني حول ترجمة النص الديني، أنه عندما بدأ في ترجمة الرواية كان يظن بأن آخر ترجمة لها كانت في تسعينيات القرن المنصرم؛ لكنه فوجئ في المؤتمر أن أحد الحضور، وهو الدكتور عبد الحميد زاهيد، قد قام بترجمتها وإصدارها عام 2008. ولعل من بين أسباب صعوبة حصر الترجمات العربية لهذه الرواية أن هناك ثمة ترجمات لبعض دور النشر لم يُذكر فيها اسم المترجم، مثل ترجمة دار البحار لعام 1999، كما ظهرت ترجمات بعناوين مختلفة، مثل ترجمة “إلي مُهنا” التي صدرت سنة 2003 تحت عنوان “العجوز والبحر”. من جانب آخر فقد اختفت بعض الترجمات ولم يعد لها أثر في المكتبات العربية، مثل ترجمة صالح جودت التي صدرت ضمن سلسلة روايات “الهلال” في العدد 307 عام 1974، وهناك ثمة ترجمات أخرى لم تعرف إلا في بعض الدراسات التي تناولت ترجمة رواية “الشيخ والبحر” مثل ترجمة “لانا أبو مصلح” ذكرها المترجم عبد الحميد زاهيد في دراسته التي قارن فيها ترجمته بهذه الترجمة التي خرجت بدون تاريخ إصدار.
من الأسباب التي دفعتني إلى إعادة ترجمة مجموعة من النصوص، أذكر نفاد النسخ القديمة؛ فقد اختفت ترجمات بعض النصوص، ولم تعد تلك الترجمات متوفرة للجيل الجديد من القراء الذي ينبغي أن يطلع عليها، حتى لو مر عليها زمن طويل. وهذه القصص بالذات هي من أفضل أعمال كتابها، الذين يعدون أشهر أدباء عصرهم، فهي تعلم قيما جميلة كالتعلق بالحياة، وتمجد حب العمل، وتشيد بمواصلة الإنسان نضاله من أجل تجويد حياته، وتسبر أغوار نفسية الإنسان..
ومن تلك الأسباب أن اللغة تتغير وتتطور: إن علماء اللغة وخبراء الترجمة يوصون بإعادة ترجمة الأعمال الأدبية الخالدة بين حقبة زمنية وأخرى، لأن اللغة في تحول وتغير وتطور باستمرار؛ ففي كل يوم تشيخ كلمات وتموت كلمات وتولد كلمات.. في كل يوم تكتسب بعض الألفاظ معان جديدة، أو تستعمل في تعبيرات وسياقات مختلفة عن استعمالاتها السابقة، أو تتلون بظلال من الدلالات المركزية والهامشية، وبالاستعمالات الحقيقية والمجازية فتسمو في عيون الناطقين بها أو تتدنى قيمتها في نفوسهم. وفي كل يوم تقترض اللغة مفردات جديدة من لغات صديقة أو عدوة، وتستوعب مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة لأهلها. والأساليب هي الأخرى في تغير وتطور متواصلين؛ فأسلوب السجع المرصع بالمحسنات البديعية والموشى بالكلمات النادرة، الذي كان يعتبر في وقت من الأوقات قمة البلاغة ومنتهاها، لم يعد اليوم ملائما لروح عصر السرعة الذي يتطلب الكلمة الرشيقة، والعبارة القصيرة والنقلة الخفيفة. ولهذا، كله فإن شباب اليوم قد لا يتذوقون ترجمة تمت صياغتها قبل نصف قرن أو أكثر بلغة تبدلت وتغيرت.
ومن الأسباب التي حفزتني على الاشتغال بهذه النصوص أن الترجمة تزيد متعة القراءة، إذ إنني أستمتع بالقصة أكثر وأتمثلها بصورة أعمق وأتفاعل معها على وجه أصدق عندما أقوم بشرحها أو ترجمتها. وبعض النصوص المعادة أعجبتني جدا، لذا قررت لا أن أعيد قراءتها فحسب، بل أكثف اللذة وأُصعد المتعة كذلك عن طريق ترجمتها إلى اللغة العربية. عندما أقرأ الأعمال القصصية والروائية الخالدة باللغات الأخرى، أتعلم منها بعض تقنيات الكتابة السردية، وعندما أقوم بترجمتها إلى العربية، أتعامل مع النص بعناية بالغة، وأغوص في دقائق تعبيراته وأتعمق في أغوار معانيه وشعاب مراميه المرجانية، فأتدرب على السباحة في استعمال تقنيات اللغة.
لا شك في أن الانكباب على ترجمة مختارات أدبية تضع أمام المترجم جملة من التحديات والصعوبات.. فما أبرز هذه التحديات التي واجهت عملك في هذه المختارات؟
يُجابه المترجمون عموما ـ وأنا واحد منهم ـ تحديات شائعة، حتى الخبراء منهم. والمترجمون أفرادٌ مدربون يدركون الفروق اللغوية اللازمة عندما يقومون بعملية الترجمة، ويعرفون أنه لا مجال للأخطاء. ومع ذلك، كل عملٍ مترجمٍ فريٌد من نوعه. ومن ثم، فإن التحديات موجودة دائما في عملية الترجمة.
وفيما يلي خمسة تحديات واجهتها أثناء الترجمة:
بنية اللغة: يظهر التحدي عندما تكون اللغة مُركبة، فالجملة في اللغة الإسبانية تتضمن فعل وفاعل ومفعول به، والزمن الماضي فيها مقسم إلى ثلاثة أقسام هناك ماض قريب وماض يحدث مرة واحدة كحدث الولادة مثلا وماض يحدث بشكل متواصل وطويل كقولنا فلان درس في مدرسة كذا ففعل الدراسة استغرق سنوات في الماضي. وفي بعض اللغات، الترتيب مختلف، على سبيل المثال في اللغة العربية، يتصل الضمير الدال على الفاعل بالفعل في الكتابة، مما يُحدد بعد ذلك صوت الجملة وجنس الفاعل..
الثقافة:
معظم اللهجات المحكية تُنسج داخل العديد من اللغات، ويمكن أن تؤثر على المحتوى، وتؤدي الثقافة أيضا دورا كبيرا في استخدام اللغة. فلكل لغةٍ بنيةٌ فريدةٌ من نوعها، وهذه البنية هي التي تُؤثر تأثيرا مباشرا على بساطة ومستوى دقة الترجمة. وإذا كانت اللغة سهلة، فستكون الترجمة أسهل وأبسط أيضا، فهناك جمل في اللغة العربية ليس لها معنى مباشر، كقولنا حيص بيص أو رفع عقيرته.. مما يصعب عملية الترجمة ويصبح المترجم مضطرا للتدخل لفرض المعنى المناسب للسياق.
الكلمات المركبة: إذ إنها مكونة من اسمين أو ثلاثة أسماء وصفات دُمجت معا، بعض الكلمات المركبة يمكن أن تكون واضحة في التعبير عن معانيها؛ غير أن هناك بعض الكلمات المركبة التي تعني نصف معنى المصطلح. هناك أيضا كلمات تحمل معنى آخر تماما.
على المترجم عندما تواجهه هذه الظواهر، أن يتسم بالدقة في التفاصيل. ويجب عليه أيضا أن يقرأ جيدا، وتكون لديه معرفة بالمفردات في اللغة الهدف، واللغة المصدر، والقواميس المتخصصة، وموسوعات المفردات، والمراجع الأخرى حتى يجد المصطلحات المطلوبة.
الترجمة عن لغة وسيطة. ألا تشكل صعوبة أمام المترجم؟
النصوص التي ترجمتها في مجموعتي عن لغة وسيطة هي ثلاثة، لا أظن أنها أخلت بالمعاني العامة للنص وما أراد كاتبها الأصلي أن يوصله إلى المتلقي. في اعتقادي أن للترجمة فائدة قصوى وأهمية كبيرة لا نستطيع إغفالها أو التقليل من شأنها. فائدتها هنا ليست في إثراء اللغة الأصل وآدابها بل في إثراء آداب اللغة المترجم إليها. إنَّ الأمم تولد حين تتعايش مجموعاتٌ من الناس في رقعةٍ جغرافية واحدة، وتجمعهم لغة وعادات وتقاليد واحدة. كبني الإنسان، تمرُّ الأمم بفترة طفولة، ثم مراهقة، ثم شباب وشيخوخة، تمرض وتصحُّ، وتضعف وتقوى، وتنتصر وتنهزم، وفي النهاية تفنى كما فنت أممٌ من قبل، أو ستفنى كما سيفنى البشر جميعا. والترجمة، سواء من اللغة الأصل أو من لغة وسيطة، تكون أكثر أهمية وأكثر أثرا حين تكون الأمة التي يترجم إليها النص الأصلي في حالة ضعف ووهن وركود ـ كالأمة العربية حاليا ـ وتحتاج لمن ينهض بها من ضعفها، أو من كبوتها. إن علاقات القوة والتأثير المتبادل بين الأمم بعضها البعض يؤثر بلا شك على الترجمة وكيف ستتم. حين يكون الأدب المترجم إليه هو الأدب “الضعيف” مقارنة بنظيره المترجم منه والذي يكون حينئذٍ أدبا “قويّا. هذه الترجمة، حتى لو كانت من لغة وسيطة، تنهض بالأدب “الضعيف، وهنا تكتسب الترجمة أهمية تفوق أهمية الكتابة نفسها في هذا الأدب “الضعيف”. هناك من يربط بين النص المترجم ومكانته في الثقافة المترجم إليها، وبمكانته في مجموعة من الثقافات تشمل ثقافة النص الأصلي نفسه. مكانة النص المترجم هذه قد تكون في مركز الثقافة المترجم إليها، لأنَّ أدب النص الأصلي يفوق في مكانته أدب النص المترجم، وقد تكون في جوانبها، لضعف أدب النص الأصلي، وهنا تكون العلاقة ديناميكية.
كان الأدب العربي في بداية نهضته في القرن التاسع عشر في حالة وهن، كان أدبا “ضعيفا”، ولذا كانت أية ترجمة من الأدب الغربي، الأدب “القوي”، سببا في نهوض الأدب العربي. كانت معظم الترجمات التي تمت لمسرحيات الأدب الفرنسي ورواياته في الغالب تعريبا وليست ترجمة كحالة المنفلوطي مثلا، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الدور الذي لعبته آنذاك. هذا التعريب ليوافق عاداتنا العربية، مثل تغيير المشاهد التي تخالف تقاليد المجتمعات العربية في القرن التاسع عشر، مثل مشاهد الحب أو المشاهد التي يخلو فيها رجل بامرأة في مكان مغلق. إن النص المترجم يتأثر بقوانين وتقاليد وعادات الثقافة الأصلية والثقافة المترجم إليها على حدٍّ سواء.
لا يمكن أن ننكر أن للترجمة من لغة وسيطة سلبياتها، كافتقاد روح النص الأصلي وضياعها بين نصين مترجمين، فالاعتماد التام على مترجم وسيط لا يخلو من مغامرة غير محسوبة لأنَّه لن يكون باستطاعتنا معرفة ما إذا كانت تلك الترجمة التي ننقل منها ترجمة صحيحة أو العكس؛ لكن تبقى مهارة المترجم هي الفيصل في الحكم على النصوص المترجمة كانت من لغة وسيطة أم لا.