من أعلام طنجة
أضواء على سيرة العلامة الصوفي
العربي بن العربي بوعياد الطنجي
(1292 ـ 1371هـ)
7/8
بقلم: د. بشرى التجكاني
أما الرحلة الخامسة فكانت سنة ألف وثلاثمائة وتسع وعشرين، حيث توجه بوعياد إلى الحج لأداء فريضته مع شيخه وأمّه وأخته وجماعة من الإخوان الفقراء. وكان الخروج من طنجة يوم الجمعة قرب الزوال أواخر شعبان من السنة المذكورة. ركبوا بحرًا في بابور ونزلوا بثغر جبل طارق.
وفي صبيحة يوم السبت اكتروا بابورًا ألمانياً سريع المشي، فخرجوا من جبل طارق، وتوجهوا إلى الجزائر، فرَسَا بهم في مرساها. ومنها إلى مدينة جنوة، من مدن إيطاليا، وبقوا بها يومين، إلى أن وصلوا إلى بورسعيد من غير أن ينزلوا بها قاصدين مدينة عدن، وفيها يوجد ضريح العارف عبدالرحمان العيدروسي، حيث أقاموا فيها عشرة أيام وكانت أيام رمضان. ومنها إلى مصوع من بلاد الحبشة وأقاموا بها العشر الأواخر من رمضان وأيام العيد.
ثم ارتحلوا منها في الصباح، وركبوا في بابور في اتجاه جدة، ومنها دخلوا إلى مكة المشرفة أواخر شهر شوال قاصدين بيت الله الحرام، فطافوا طواف القدوم، فسعوا بين الصفا والمروة، وقد أقاموا فيها إلى أواخر ذي الحجة الحرام، مشتغلين بعبادة الله، مؤدين جميع شعائر الحج، من طواف والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة وغيرها.
ثم في أواخر ذي الحجة خرجوا من مكة المشرفة بعد طواف الوداع، وتوجهوا إلى المدينة المنورة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وروضته الشريفة، وزاروا المآثر المشرفة بالمدينة المنورة ومزارات الأولياء والصالحين. وكانت إقامتهم بالمدينة المنورة نحوا من ثلاثة أشهر إلى أواخر ربيع النبوي محبة في مجاورة الحبيب ومشاهدة أنواره، ورغبة في الإقامة بدار مهبط الوحي ومنبع شريعته وأسراره. فتوجهوا منها إلى الديار الشامية في السيارة الحديدية على طريق تبوك، فدخلوا مدينة دمشق قاعدة الشام وعاصمته عشية اليوم الرابع من شهر ربيع الثاني سنة 1330هـ. وكانوا مدة إقامتهم بدمشق كثيري الزيارة للعلماء والصلحاء، وأضرحة الأولياء العارفين بالله، حيث أقاموا هناك لمدة تسعة أيام.
ثم توجهوا إلى مدينة بيروت ومنها إلى مصر القاهرة، فأقاموا نحو أربعين يوما بحلول جمادى الأولى 1330هـ. ثم ارتحلوا من مصر وتوجهوا إلى بورسعيد ومنها إلى طنجة[1].
يقول بوعياد في “بهجة الأعياد”:« تيسرت له ولأمه وأخته رحلة الحج مع الشيخ في موكب من الفقراء والمحبين لجنابه وذلك عام 1329هـ، فاستقلوا باخرة ألمانية من جبل طارق عند منتصف شهر شعبان، معرجة بهم على مرسيليا وجنوة بإيطاليا وعدن ومصوع والحبشة، وبعد انتهاء الفريضة زاروا مصر ولبنان وسوريا، واستغرقت الرحلة عاما كاملا. وكانت الوقفة بعرفة يوم الجمعة وكانوا أينما حلوا وارتحلوا لقوا استقبالا وعطفا لا مثيل لهما من لدن كل بلد، بما فيها أصحاب المهن، وأهل الطرق، ومن التجار والوجهاء، والصلحاء والعلماء والأشراف، لا ينزلون إلا بدورهم المتوفرة على الوسائل الكافية على الرأس والعين، مكرمين محترمين مبجلين معززين آمنين، وكل هذا التشريف والتبريك والإكبار والإجلال والاحترام والترحيب نابع من سر مدد الشيخ قدس الله روحه، ورسوخ قدمه وقوة إيمانه وعزيمته والتعلق بربه فما رأوا معه خلال تلك الرحلة الميمونة الموفقة إلا الجمال والترحاب, وصرَفوا معه رضي الله عنه، أنفاس حياتهم كلها مغمورة بالذكر والمذاكرة والاستفادة، مشمولة بالألفة والرعاية وبالاتصال بالعلماء العاملين المخلصين والتبرك بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، ولدى رجوعهم من هذه الرحلة السعيدة استقبلهم سكان طنجة وأعيانها وما جاورها استقبال العظماء الفاتحين المظفرين»[2].
8 ـ عمله وتدريسه:
مارس العلامة العربي بوعياد الطنجي في حياته أعمالا متعددة ومتنوعة ما بين خطابة وتدريس وإمامة، إضافة إلى ممارسته التجارة.
فقد تولى مسؤولية الإمامة استجابة لأمر شيخه، وهو في الوقت نفسه واجب شرعي أوجبه الله على كل مسلم إذا توافرت فيه الشروط الأساس والمعلومة لتحملها.
فعند إتمام بناء الزاوية الصديقية بطنجة، عين الشيخ محمد بن الصديق المترجم له إماما وخطيبا بالزاوية، كما عينه مقدَّما عليها. يقول العلامة عبدالعزيز بن الصديق في سفينته:« ولاه الشيخ رضي الله عنه، التقدم على الزاوية… ولما أنشئت خطبة الجمعة في الزاوية عيّنه خطيبًا وإمامًا»[3].
وإضافة إلى الخطابة والإمامة، باشر الشيخ العربي بوعياد مهنة التجارة بأمر من شيخه، ففتح حانوتا لبيع الثياب والملابس التقليدية، واستمر يزاولها أعواما مع لزوم القيام بأوراده، وتعمير أوقاته بالذكر وتلاوة القرآن داخل حانوته وخارجها[4].
ويمكن القول إن شيخه أمره بمباشرة التجارة لكونه كان لا يتقاضى أي تعويض مالي عن توليته الخطبة والإمامة بالزاوية، ولذلك كانت التجارة هي مصدر المال الذي يعيش به. كما يمكننا التنبه إلى أن بوعياد لم ينخرط في سلك الوظيفة الرسمية عملا بمذهب شيخه الرافض للوظيفة.
كما تقلد بوعياد بالزاوية مهام التدريس بأمر من شيخه كذلك، حيث افتتح فيها دروسا علمية مع بعض أنجاله وغيرهم، يدرسهم العلوم الدينية والصوفية، ويصورها تصويرا واضحا، لا لبس فيها ولا غموض، مبتعدا عن الإطناب والتعقيدات، لا يأتي في الدرس إلا بما يفيد الطالب ويعلق بذاكرته. فدرَّس لهم كتاب “العهود المحمدية” للإمام الشعراني، و”الحكم العطائية” بشرح الإمام ابن عجيبة، في حلق مستديرة واسعة من الفقراء وغيرهم، في أدب وخشوع جالسين على الركب حتى الانتهاء. وكان ما يفتأ يردد أمام الطلبة أن الدروس التي يقدمها ما هي إلا مدد من شيخه، ونفحة من نفحاته[5].
9 ـ أخلاقه:
رغَّب الرسول صلى الله عليه وسلم، المسلمَ في التحلي بالأخلاق الشرعية، وإقامتها في التعامل مع الخالق جل وعلا أولاً، ثم في التعامل مع المخلوق، وعدها ركنا من أركان الإيمان لا يكمل إلا بها. ولهذا كان الشيخ العربي بوعياد يعامل الناس معاملة في غاية البشاشة والليونة، مع عظيم المساعفة، وسعة الصدر، وطلاقة الوجه واللطافة. يخاطب الناس بكلام ينشرح له الصدر لطيبوبته، وحلاوة تأثيره، وبالأخص مع أنجال شيخه، فإن المرء ليراه وهو يتقدم إليهم رويدا رويدا إجلالا لمقامهم، ومنزلة شرفهم، فينحني بتقبيل رؤوسهم، ويسألهم عن أحوالهم، يجد روح الإخلاص وصدق محبته[6].
فلقد تعود على أخذ هذه الخصال الطيبة التي حلاه بها شيخه ومربيه، والتي نال بها صفاء المحبة والقبول والاحترام. إذا جالسته فلا محالة تشعر بانشراح ينساب معك، وراحة واطمئنان يسريان في مشاعرك حيث يذكرك بما ينفعك، ويرشدك إلى هدي يسعدك، وينير لك الطريق، طريق الربح والنصح، فيحذرك من الوقوع في المخاطر والقبح. كان ترغيبه لسامعه في الآخرة هو دأبه وديدانه وهجيراه[7].
[1] ـ نسيم وادي العقيق، ص: 147ـ191، بتصرف.
[2] ـ بهجة الأعياد، ص: 611.
[3] ـ السفينة، ص: 150.
[4] ـ بهجة الأعياد، ص: 611.
[5] ـ بهجة الأعياد، ص: 612.
[6] ـ بهجة الأعياد، ص: 617.
[7] ـ بهجة الأعياد، ص: 617.



















