رغم الأرقام والإحصائيات المخيفة التي رصدت نسبة انتشار الأمراض النفسية بالمغرب، إلا أن هذا القطاع الطبي مازال يعاني من مجموعة من العراقيل التي تساهم في عدم تشخيص وعلاج العديد من الاضطرابات النفسية.
ومن أهم المفاهيم الشائعة عن المرض النفسي في مجتمعنا ارتباط الأمراض النفسية بالجنون، إذ يعتقد الكثير من الناس بأن كل من يتردد على العيادة النفسية فهو مجنون أو أحمق… وكأن الأمراض النفسية تختزل فقط في الفصام والاضطرابات المتعلقة به، (schizophrénie et autres troubles psychotiques) ..هذه الفكرة الخاطئة خلفت وصمة سلبية للمرض النفسي من قبل فئة غير قليلة من المجتمع.
ففي حالة إصابة أحد الأفراد بالمرض النفسي، و إذا أجرينا مقارنة متعلقة بموقف الأهل حالة الإصابة بالمرض العضوي والإصابة بمرض نفسي نجد أن الأهل في الحالة الأولى يستدعون الطبيب بشكل فوري، وينفذون تعليماته بدقة، ويعطونه ثقة كبيرة، ويقبلون بتشخيصه، وتسود مشاعر التعاطف مع المريض، والحرص على متابعة علاجه حتى الشفاء التام.
أما في حالة المرض النفسي فنجد الأهل يترددون كثيرا قبل مراجعة الطبيب، ويفضلون مراجعة أكثر من طبيب، ويحيطون التشخيص بالتشكيك والارتياب ، كما أنهم يحاولون إخفاء أنباء المرض حتى عن المقربين، ومحاولة إنهاء العلاج بأقصى سرعة ممكنة (حتى قبل أوانه)، كما يحملون مشاعر هجومية نحو المريض؛ إذ يفسرون كل الأعراض بالمس من الجن، أو الإصابة بالسحر أو العين؛ وذلك لأنهم يرون أن تلك الأمور الغيبية إنما حدثت بفعل فاعل قد تعدى عليهم؛ فهم يعانون بسبب ذلك. أما الاعتراف بالمرض النفسي فمعناه عندهم الاعتراف بالنقص والقصور.
إن هذه الاعتقادات تؤدي إلى التردد قبل زيارة الطبيب النفسي والخجل من ذلك، بل ربما الامتناع عن الإقدام عليه رغم الحاجة الشديدة إليه، ومن السهل على أصحاب هذه الاعتقادات مراجعة دجال أو مشعوذ دون تردد. ونتيجة لهذه الأفكار والممارسات فان الناس يتأخرون في مراجعة العيادة النفسية حتى يستفحل المرض وتصبح عملية العلاج أطول.
وعلينا أن نتذكر بأن المرض النفسي يتدرج من الاضطراب البسيط الذي يمكن علاجه بالإرشاد النفسي والطمأنة إلى الفصام العقلي شديد الاضطراب الذي يتحكم به دوائيا، بل وحتى اضطراب الفصام ينقسم لعدة أنواع تتفاوت من حيث الاضطراب الذي يلحق بالسلوك والأفكار، وتتفاوت أيضا من حيث تطورها، وفي أغلب الأنواع يعطي العلاج الدوائي فعالية كبيرة في التحكم في الأعراض والوقاية من الانتكاسة.
لا تختلف الأمراض النفسية عن غيرها من الأمراض في التخصصات الأخرى من حيث الاستجابة للعلاج؛ فمن المرضى من يستجيب للعلاج استجابة كاملة، ومنهم من لا يستجيب مطلقاً، ومنهم من يستجيب جزئياً؛ ولذلك يكون العلاج فعالا في نسبة معينة من المرضى بحسب حجم الاستجابة.
إن من الأمراض النفسية ما تتحكم به الأدوية النفسية دون أن يشفى المريض تماماً، كما في الأمراض العضوية المزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكر ي؛ ولذلك إذا أراد المريض أن تبقى حالته مستقرة فيجب عليه أن يستمر في العلاج فترة طويلة من حياته.
اعتقاد البعض أن المرض النفسي لا يصيب المؤمن القوي!
ومن الاعتقادات الشائعة أيضا ربط المرض النفسي خاصة حالات القلق والاكتئاب بضعف الإيمان واليقين بالله، وفي الأصل نجد أن الأمراض النفسية مثل غيرها من الأمراض قد تصيب المسلم مهما بلغ صلاحه كما تصيب غيره، فهذا الاعتقاد يزيد من شعور المريض باللوم والتقصير والإحباط.
كما تشمل هذه الاعتقادات نظرة الناس للأمراض النفسية على أنها مركب نقص أو عدم القدرة على مواجهة المشاكل، ففي حالة التعرض لضغوطات قوية، وأزمات حادة، وعندما يتعب المرء وترهقه المشاكل في حال فشل جهوده الشخصية أو عدم فعاليتها تظهر الأعراض، ويتهم المريض بالضعف وعدم الصبر وضعف الإرادة، فتنهال عليه النصائح من كل مكان: كن قويا ماذا ينقصك؟ هذه قلة الحمد وضعف الثقة بالله.
مما يرسخ فكرة الضعف واللوم لدى المريض، فيعتقد أن فشله الشخصي دليل إضافي على ضعفه، أو أنه إهانة مزعجة يهرب منها ولا يواجهها!
ولنا أن نتساءل لماذا لا يعتبر الإنسان أو الأشخاص المحيطين به أن جهازه المناعي أو التنفسي هو مصدر إهانة وضعف الإرادة وقلة إيمان في حال إصابته بالزكام أو بنوع من الأمراض العضوية الأخرى؟
إن العلاج النفسي والدوائي لا يتعارضان أبداً مع جهود الإنسان الشخصية في صراعه مع مشكلاته الشخصية والحياتية … بل على العكس فإن العلاج الناجح يعتمد على مشاركة المريض وتشجيع جهوده المستمرة في ضبط النفس والسيطرة على الأعراض المزعجة قدر الإمكان… وهناك عدد من الأساليب التي يستعملها الناس في علاج أنفسهم … ومنها ما هو مفيد حتماً. وإن الذهاب إلى الطبيب لا يعني ضعفا، أو ترك المسؤولية الشخصية والتخلي عن الجهود الذاتية في محاولة التحسن والشفاء … كما لا يعني إلقاء المسؤولية على الدواء أو الطبيب في حل مشكلات معينة. وإن التعاون مع الطبيب له دور فعال وهو يساعد الإنسان على تحمل مسؤوليته عن نفسه
و قد أثبتت التجارب العلمية بأن سبب الأمراض النفسية هو اختلال في مستوى النواقل العصبية في الدماغ؛ وذلك نتيجة عدة عوامل منها: تأثير الوراثة والبيئة والتربية وعوامل عديدة أخرى. والمرض النفسي مثله في ذلك مثل الأمراض العضوية الأخرى له أساس عضوي، وانتقال الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس الطبيعة المرضية لتلك الأمراض.
و حتى لا ننسى، فالعالم الآن يعيش مأساة اجتماعية و اقتصادية جعلت أغلب الناس تعاني من أمراض نفسية جاءت نتيجة تردي أوضاعها و تفاقم المشاكل و أعباء الحياة، و المغرب من بين هذه الدول التي تعاني في صمت، فلا نستغرب أن نجد نصف المجتمع المغربي أو أكثر يعانون من اضطرابات نفسية أقلها الاكتئاب، لذلك على حكومتنا أن توفر الحماية الصحية النفسية للمواطنين، فلا نرى للأسف مراكز استشفاء تختص بالطب النفسي، و اذا وجدناها فهي فارغة من الإمكانيات اللوجيستية و المادية، و لا نرى أخصائيين نفسيين متفرقين على المدارس و الجامعات و الشركات و المؤسسات المختلفة، كما نرى في باقي دول العالم التي تعي بأن الصحة النفسية للمجتمع هي أهم بكثير من أي شيء آخر.