من أعلام طنجة
أضواء على سيرة العلامة الصوفي
العربي بن العربي بوعياد الطنجي
(1292 ـ 1371هـ)
8/8
بقلم: د. بشرى التجكاني
10 ـ أولاده وزوجاته:
فصل صاحب “بهجة الأعياد” الحياة الأًسرية والزوجية لوالده العربي بوعياد، حيث ذكر أنه قي سنة 1324هـ عزم على الزواج، فأحال هذا الأمر على شيخه، فأعجبه وبارك له فيه، واختار له الشيخ الحليلة الطاهرة من سلالة الأشراف العجيبيين، حيث وقع الاختيار على بنت خال شيخه محمد بن الصديق، الولي الصالح، الشريف العابد، الصوفي الذاكر الزاهد، سيدي عبدالحفيظ ابن الولي الجليل، سيدي أحمد، دفين طنجة بطريق الزاوية الصديقية، ابن العالم المفسر الكبير، القطب الشهير، أحمد بن عجيبة دفين مدشر الزميج من قبيلة أنجرة.
يقول الأستاذ عبدالسلام بوعياد:« دخل والدي بهذه الأم الشريفة التي تحمل اسم للاالسعدية وهي في مقتبل سن الرشد، وأنجبت معه عدة أنفس. كانت رحمها الله، مهتمة بأمور دينها، تحفظ سورا وآيات من كتاب الله العزيز، ودعوات نبوية. كانت ذات نية صالحة، وطوية سليمة، حريصة على أوقات فرضها ورواتبها، تصوم مواسم السنة كلها.
أخذت النسبة عن سيدنا الذي هو ابن عمتها ولم تأخذها عن والدها. كانت رحمها الله، تتأثر عند سماع الموعظة وكرامات الأولياء.
عاشت في جو ديني صوفي مع المترجم له، وفي عيش ميسور في الجملة، مجلل بالسعادة، وحسن المعاشرة، وصفاء العيش، والمحبة الخالصة مدة سبعة عشر عاما، كلها مرت في جو مشمول بالثقة، ثم أخذ الجو بينهما يميل إلى الانحلال والانفصال.
وبعد استشارة واطلاع وتدّخُّل من جانب الشيخ لحسم الموقف الصادر من والد الأم، لأن الموقف كان متصلبا لا يرجى منه حل، فعندئذ توصَّلَتْ بوثيقة طلاقها، وودعت مقرها، وفارقت أبناءها دون سن الرشد، والبكاء والأسى ينبع من كليهما.
وإثر فراقهما بعث له الشيخ رسالة خطية يطمئنه فيها ويخبره بأن الزوجة المطلقة ستكون له زوجة في الآخرة إن شاء الله. فكتم السر، واحتفظ بالرسالة في جؤنة مع وثائق أخرى سلمها لولده أحمد من غير أن يطلعني عليها، وذلك قبل أن يلفظ آخر أنفاس حياته، ووصاه بدفنها معه في القبر داخل حفرة قبالة وجهه رحمه الله.
وبعد فراق زوجته الأولى بسنتين، عزم على الزواج ثانيا، فعقد على زوجة من أسرة أولاد بن سليمان من مدشر الزميج من قبيلة أنجرة، والد الزوجة من أتباع الشيخ رضي الله عنه.
وبعد زمن قصير من زواج الوالد تزوجت الوالدة رحمها الله، خارج مسقط رأسها بزوج من مدينة أصيلة، عاشت معه عيشة راضية في مودة ووئام، كان لا يخاطبها إلا باسم الشريفة، ويعاملها بكامل التقدير والاحترام هي وأسرتها. واستمر صفاء الزواج بينهما ما يقرب من ثمانية عشر عاما. وبما أن الزواج في آخر المطاف من عقود حياته، تغير فجأة سلوك حاله رأسا على عقب، وبانت بوادر الانفصال على الأبواب، ومن خلال بروز هذا الجو المحزن غادرت الزوجة اليتيمة البيت، والإناث في سن الرشد إلى طنجة مسقط رأسها، فرحبت بمقدمها جميع فروع الأسرة.
وعاشت بعد النكبة في جو سليم مليء بالأعمال الصالحة، فخورة بوثيقة طلاقها التي توصلت بها من الزوج الثاني قبل وفاتها بنصف شهر تقريبا. وقد وافاها الأجل المحتوم عن سن يناهز الخمسين في منزل أولاد أختها وشيخها الراحل رضي الله عنه، ليلة الجمعة، بعدما صلت الوتر بدقائق في 17 رجب الفرد 1362هـ، الموافق لشهر يوليوز 1942م، ودفنت بالزاوية الصديقية في قبر أختها الزوجة الأولى للشيخ رضي الله عنه، والتي كانت قد نقلت إلى قبر بجوار قبر شيخنا وشيخ المترجم له بوصية منه، بعد أسابيع من وفاته عام 1354هـ الموافق 1936م، حيث سلمت من الترميم والضياع، مما ينبئ عن ثبوت ولايتها، وبلوغها درجة الشهداء. ألحقنا الله بهم على الشهادة وحسن الخاتمة آمين.
بينما بقي القبر فارغا بعد نقلها منه سنة 1354هـ إلى أن توارى جثمان الوالدة فيه سنة 1942م. أما من تولى الصلاة عليها وحشرها في مرقدها الأخير، فهو المترجم له زوجها الأول، حيث أماط لثام الكفن عن وجهها بإجلال وخشوع، وقبلها بين عينيها وبذلك تحققت كرامة الشيخ رضي الله عنه، من أنها ستكون زوجة له في الدار الآخرة.
هذا وقد جلب سيدنا الوالد إلى الطريقة الصديقية أسرته كافةً وذوي النية الحسنة من أهل بلده»[1].
11 ـ وفاته:
حُبّب إلى الشيخ العربي بوعياد في أواخر حياته العزلة والبعد عن ضوضاء المدينة وضجيجها، فكان يقصد ضريح أحد الأولياء على رأس جبل بناحية الفحص المعروف بسيدي احساين بأحواز مدينة طنجة، القيم فيه دون أهله سوى ولد له كان يرافقه معه لقضاء مآربه، يقيم هناك الأسبوع فأكثر، مشتغلا بعبادة ربه ليل نهار، وهناك قام بحفر عين قرب جوار الضريح يرتوي الزوار من مائها، وسميت باسم «عين بوعياد»، وكم فرح ونشط عندما أتم هذا المشروع على يديه رجاء ثوابه وفضله وذلك في سنة 1945م، وهي على حالتها جارية داخل سنة 1996م.
وعند رجوعه بعد مدة إلى الضريح المذكور، وجد الوضع هناك انقلب رأسا على عقب من مخالطة الرجال بالنساء والشبان بالشابات، مع تناول الخمر، وانتشار اللصوصية، ولعب القمار، وانطفأت مصابيح المروءة والحياء والحشمة في هذا الزمان من كلا الجنسين “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ“. وفي التو رجع من حيث أتى وفي أحشائه حزن وأسى مما نشأ هناك من هتك حرمة ذاك الضريح على يد أولئك الأوباش الذين يتوجهون إليه لارتكاب الفسوق والعصيان، ولم يسعه بعد ذلك إلا أن يرحل بأهله من ضجيج المدينة إلى دار بالجبل المطل على المدينة ليأمن مشاكل الساعة والبعد عن قيل وقال[2].
واستقر هناك مدة من الزمن لا ينزل إلى المدينة غالبا إلا أسبوعيا وذلك إما لأداء خطبة الجمعة بالزاوية، وإما للاتصال بالأبناء والأسرة والإخوان، ثم يعود إلى مقر إقامته مزودا وقته بخدمة مولاه، وبمطالعة كتب القوم، مع ما كان يهواه من الاتجاه إلى الخلوات النائية مظللا بأشجارها ونسمات ريحانها، يتدبر ويجول في أسرار الكون وجمال الطبيعة وسحرها وتغريد الأطيار هنا وهناك، وعند حلول الهجيع يستعد للتهجد فيحيى منه الثلث فأكثر، بألوان من الأذكار والرواتب والتلاوة، لأن الليل محل الصفاء والأنس والعطايا والتجليات الربانية. وبعد صلاة الصبح بساعة ينام نومة الهدوء والاستراحة وذلك من أجل تجديد النشاط والاستعداد لعبادة النهار.
وإذا ما أحس من نفسه الوحشة استدعى رفيقه الوحيد لديه أخاه في الله مولاي أحمد بن الهاشمي السوسي ليستأنس بقربه ويحاوره محاورة الأخ لأخيه والخل لخله. ويجول هو ورفيقه في الخلوات، ويتجاذب كل منهما ذكريات عن الماضي المغمور بالأعمال الصالحات والمجاهدات المرضية، ذكريات عن الرحلات والسياحات وعن حضور المواسم ولقاء الأحباب[3].
كما ظل في آخر حياته مواظبا على الذهاب إلى الزاوية، وثابتا على العهد والوفاء في الحفاظ على أمانة النسبة الصديقية والأخذ بزمامها أقوالا وأفعالا، مع القيام بخطبة الجمعة والإمامة بزوايتها إلى أن لقي الله وكان يعطي للكل حقه ووقته[4].
وفي سنة 1951م الموافق لشهر رجب 1371هـ، سقط مريضا يشكو من مرض في قلبه، فاستدعي له طبيب فأحس بشيء من الراحة، ثم عادت الحالة على عهدها السابق، فأحيل على طبيب آخر وبعد فحص دقيق، أخبر الأسرة بأن الشرايين التي تمد القلب بالدم لا ينتهي إليها دوران الدم كما يجب، ومن ذلك الحين وهو يشعر بالضعف وفتور في الأعضاء.
وبدأ الزوار بين آونة وأخرى يتوافدون عليه لعيادته في مرضه فرادى وجماعات، وهو يقاسي منه ما يعجز غيره عن تحمله، وكلما سئل عن حالته إلا ويجيب جواب الرضا والفرح، بما أراد المولى وقدره، لا يفتر لسانه عن ذكر الله، متقلدا سلاح الصبر والثبات منذ سقط طريحا على الفراش. وقد شوهد من غالب الزوار وهم مجتمعون حوله يشهقون ويرددون البكاء أسفا على فراقه.
وأثناء هذه المشاهد الأليمة والظروف العصيبة، هيأ الله سبحانه له أحد أبنائه الذي قام بواجب البرور على خير ما يرام، والذي كان بجانب فراشه ليل نهار لا يغيب عنه طرفة عين، كلما نادى عليه كان حاضرا، ولا يتذوق النوم إلا قليلا، ويعينه على المد والجلوس هو وزوجة المترجم له، ويتناول الشرب وشيئا تافها من الطعام مع تناول الدواء.
وبقي هذا الابن البار مثابرا على هذه الوتيرة الطيبة دونما عياء ولا ملل مع أبيه المترجم له، الذي زوده عند آخر أنفاس حياته بأحر الدعوات الصادقة جزاء بره وحسن معاملته التي عادت عليه بالخير والسعادة والإنفاق في أعمال البر.
وقبل الغروب من يوم وفاته، اشتد به الحال وظهرت مخايل الانتقال والرحيل وترادف نفسه، وبصوت هادئ يردد هذه الكلمات مرة تلو مرة: أرجو الله وأخاف ذنوبي، وأخذت الروح تتحرك إلى بارئها.
وبعدها بثوان فاضت روحه المرضية وانتقل إلى سعة رحمته ودار كرامته. [ودلك ليلة الاثتين 2 شعبان 1371هـ/ 26 أبريل 1952م]، ثم غسّله رفيقاه مولاي أحمد بن الهاشمي السوسي، والسيد أحمد بن عبدالحفيظ العجيبي. وكفن وضُمِّخَ بالطيب دهنا وبخورا وأدرج في ثياب من حريم حجه مبخرة بالند والعود، كما دفن معه في قبره بوصية منه جؤنة صغيرة بداخلها وثائق.
فحمل نعشه وسط جم غفير من المشيعين إلى مثواه الأخير بالزاوية الصديقية، وبعد الصلاة عليه أقيمت عمارة الرقص على روحه المرضية، ثم غيب في قبره بجوار المحراب جهة يساره[5].
[1] ـ بهجة الأعياد، ص: 609ـ610.
[2] ـ بهجة الأعياد، ص: 614ـ615.
[3] ـ بهجة الأعياد، ص: 615.
[4] ـ بهجة الأعياد، ص: 624.
[5] ـ بهجة الأعياد، ص: 622ـ624.