الأربعاء 5 نوفمبر 2025
  • من نحن ؟
  • هيئة التحرير
  • الجريدة PDF
  • للإعلان على موقعنا
  • إتصل بنا
أي نتيجة
عرض كل النتائج
JDT 24
الإعلان
  • الرئيسية
  • آخر الأخبار
    • أخبار الجهة
    • أخبار محلية
    • أخبار وطنية
  • كواليس المدينة
  • سياسة
  • مجتمع
    • شؤون و قضايا
    • تقارير و تحقيقات
  • أخبار دولية
  • متابعات
  • اقتصاد
  • رياضة
  • ج . طنجة TV
  • الرئيسية
  • آخر الأخبار
    • أخبار الجهة
    • أخبار محلية
    • أخبار وطنية
  • كواليس المدينة
  • سياسة
  • مجتمع
    • شؤون و قضايا
    • تقارير و تحقيقات
  • أخبار دولية
  • متابعات
  • اقتصاد
  • رياضة
  • ج . طنجة TV
أي نتيجة
عرض كل النتائج
JDT 24
أي نتيجة
عرض كل النتائج
  • الرئيسية
  • آخر الأخبار
  • مجتمع
  • فن و ثقافة
  • سياسة
  • الجريدة PDF
  • رياضة
Home آخر الأخبار

حكاية “البرنس” المغربي .. أمير الشعراء

قبل Admin T
2 ديسمبر 2022 |
في آخر الأخبار
0
حكاية “البرنس” المغربي .. أمير الشعراء
0
SHARES
4
VIEWS
Share on FacebookShare on Twitter

بقلم : د. رشيد العفاقي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

READ ALSO

التذكرة المغلقة.. إجراء موحّد بجميع الموانئ المغربية والإسبانية لضمان انسيابية عملية مرحبا 2025

وزارة التشغيل تعتمد خطة جديدة لمواجهة البطالة

 

انتمى إلى هذه المسكونة بَشَرٌ عاشوا على جغرافيتها ثم مضوا كأنهم مَرُّوا فوق سمائها بأجنحة النّعام، لم يتركوا عليها عَيْنا ولا أثرا، بينما نجد طوائف أخرى من الناس لم يُغادروا هذا العَالَم إلّا بعد أن طبعوا حُضُورَهم فيه، بكتابٍ صَنَّفُوه، أو موقف سياسيّ أعلنوه، أو صَرْح شَيَّدُوه، أو دعوى، أو ادِّعاء، أو صعلكة أو عربدة أو جُنون، أو أيّ شيء آخر، كان مع التيار أو عكسه .. مع الأخلاق العامة أو ضدها.

وأيًّا يكن الفعل، فهو داخل في حَيِّز التاريخ. بَيْد أنّه كُتِب لبعض الوقائع أن تُدَوَّن تفاصيلها وحيثياتها، في حين أُسدل رداء سميك من التستر والكتمان والنسيان على وقائع ومواقف أخرى، وهكذا هي طبيعة الأشياء. وإذا كانت الوقائع المُدَوَّنَة تصل إلى المُؤَرِّخ على طبق من ذهب أو فضة أو حتى قش، المهم بالنهاية أنها وصلته بدون أن يُكَلِّف نفسه عناء البحث، فإن الوقائع غير المسرودة في الكتب، أو التي تنقص روايتها بعض الأجزاء والأطراف، هي التي تستفز المُؤَرِّخ وتستحثه على أن يبذل الكثير من الجهد لكي يرفع الستار عمّا طُمِس منها وجرى تغييبه لأسباب شتى، أو أن يفتش عن بقية الأجزاء المفقودة من تلك الروايات.

وقد قرأتُ منذ مدة شظايا رواية متناثرة هنا وهناك تتحدث عن مغربي جرى تنصيبه ومُبايعته أميرا للشعراء في القاهرة بُعَيْد وفاة أحمد شوقي الذي – كما هو معلوم- مُنِح هذا اللقب (أمير الشعراء) وعُرِف به في الخافقيْن، بينما لم يُعْتَرَف للمغربي بـ”إمارة الشعر” .. بل لم يُعْلَم بوجوده أصْلًا. ولعل سبب ذلك راجع إلى كون واقعة المبايعة المذكورة جاءت في سياق الهزل والدعابة أكثر من كونها حدثا جَادًّا نابعا عن موقف أدبيّ مسؤول.

ولكن مهما يكن الحال، فنحن أمام حكاية مغربي بُويع أميرا للشعراء في القاهرة، وبعض الروايات المصرية تحدثت عن هذه الواقعة بكثير من التفصيل، وكان علينا من منطلق أنّ “أمير الشعراء” الجديد مغربيّ الأصْل أنْ نُفَتش عن رواية مغربية للحدث، من باب التوازن المطلوب، وأيضا بدافع امتلاك شاهد إثبات “مَحَلِّيٍّ” إذا جاز التعبير، لكن المصادر المغربية تسكت عن الواقعة المذكورة سكوت السمكة، ولم نعثر بعد البحث الطويل إلّا على رواية وحيدة في كتاب لا يزال مخطوطا حتى الآن، ومع ذلك فقد رأينا أنّ الدراسة قد استوفت شروطها وعناصرها، وأنه يمكن سرد حكاية “البرنس” أمير الشعراء المغربي .. بنوع من الثقة والاطمئنان.

يَحكي الأديب والناقد المصري عباس خضر في مذكراته التي طبعها بعنوان “خُطًى مشيناها” أنه بعد وفاة أحمد شوقي، كانت الحالة الثقافية تُلِحُّ على ترشيح شخصية أدبية تملأ الفراغ الذي تركه أمير الشعراء في ميدان القريض. وفي تلك الأثناء حصل أن انضم طه حسين إلى حزب الوفد، وكان أبرز مثقف في هذا الحزب الأخير هو الكاتب عباس محمود العقاد، فرأى طه حسين أن يبادر إلى تكريم العقاد وذلك بأن يُلْبِسَه عباءة “إمارة الشعر”، فعارضه في ذلك عدد من الأدباء وأهل الفكر في مصر، وكان ملخص الرد الحاسم هو الآتي: العقاد أديب، وليس بشاعر. ثم جاء تطبيقهم العَمَليّ الساخر لذلك الرّد بتنصيب رجل مغربي يدعى “البرنس” (وهي كلمة تعني “الأمير” بالفرنسية) أميرا للشعراء، وكان هذا المغربي يعمل نَسَّاخًا في دار الكتب المصرية، ويتعاطى قرض الشعر على طريقته البدائية، وفيما يلي كلام عباس خضر:

“انتقل طه حسين من معسكر الأحرار الدستوريين إلى معسكر الوفد، وكان العقاد رابضا في هذا المعسكر، في يقظة الحارس العتيد العنيد. ولم يكن في وسع طه حسين إلّا أن يُؤَلِّف قلبه، وبماذا ؟ بإمارة الشعر، يُبايعه بها في حفل أقيم لتكريمه. وكان ذلك بعد وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي. وقيل إن طه حسين يريد بذلك أن يلهي العقاد بإمارة الشعر كي يخلو له عالم الكتابة فيكون أمير النثر. ومهما كان الأمر، فإن حزب الوفد فرح بالأديبين الكبيرين: أحدهما انضم إليه وأشهر قلمه ضد خصومه، والآخر – الكاتب الوفدي الأصيل- صار أميرا للشعراء!

كانت مظاهرة سياسية خالصة، أي أنها بعيدة عن الأدب وتقديره الحقيقي وإن استُغل فيها اسمه. وقد لقي تنصيب العقاد أميرا للشعراء سخرية عامة، فقد كان الناس – أدباء وغير أدباء- لا يعترفون به شاعرا فضلا عن أمير .. وأنا بهذا أحكي عن مشاعر الناس وآرائهم وقتذاك. وهذا لا ينفي إعجاب “الحواريين” بالأستاذ الرائد، ولكن المُحَقَّق أنهم كانوا قلة قليلة معدودة.

كان الناس يتقبلون، بل ينادون بأن العقاد هو الكاتب الجبار – كما أُطلق عليه-، أما هو شاعرا فَلَا .. وأما هو أميرا للشعراء فَكَلَّا وألف كَلّا.

أما الشعرء الذين نُصِّب عليهم أميرا فقد رفضوا هذه الإمارة، وكيف رفضوا ؟

نعود إلى البدء الذي بدأتُ به هذا الفصل، وهو أننا كنا نأخذ الأمور أخْذًا ساخرا، وأن السخرية كانت سلاحنا في الاحتجاج، وقد أخذنا هذا الأسلوب عن أسلافنا: عن جيلنا السابق، وأنت تعلم أن ذلك ديدن الشعب المصري عندما يُغلب على أمره. فالأمر إذن ممتد من جذره إلى فرع منه وهو الأدباء كبارا وصغارا.

أما الصغار فنحن .. نحن الذين حدثتك عن أطراف من أحوالهم في الفصل الماضي وما قبله. وأما الكبار فهم شعراء البلد .. سواء منهم المحافظون مثل الأسمر والهراوي والزين وكامل كيلاني، والمُجَدِّدُون مثل ناجي ورامي.

كانت بؤرة التجمّع، تجمّع الكبار، هي دار الكتب المصرية القائمة على جانب من ميدان باب الخلق مثل أم عظيمة خصبة، يرضع الجميع العلم والمعرفة من أثداء كتبها. وكان كثير من الأدباء والشعراء موظفين بها، وكان غيرهم من الأدباء يفدون إليهم في ندوتهم: في البُوفِيه الملاصق للبوابة من الداخل (انظر – إذا شئت – حديثنا عن هذه الندوة في كتابي “ذكرياتي الأدبية”).

ووقع الاختيار على “البرنس” كي يكون أميرا للشعراء !! وهو نَسّاخٌ بدار الكتب، يراه رُوّادها دائما في طرف من أطراف قاعة المطالعة عاكفا على نسخ المخطوطات القديمة، بيده اليمنى قلم “بسط” يمليه من دواة أمامه، وبيده اليسرى أو على الورق منظار مُكَبِّر، يكتب للدار أو لمن يريد بأجْر زهيد .. رأس كبير لا يعلم إلّا اللّه ماذا فيه .. وهل يعلق به شيء مما ينسخه صاحبه ؟ فهو إن نطق لا يكاد يبين، وتحت الرأس جسم بعضه هزيل وبعضه متضخم.

قالوا: هذا أمير الشعراء، واسمه “برنس” من الأصل .. أو قالوا: إن كان لا بد للشعراء من أمير فهو “البرنس” .. وإذا كانت الحفلات تقام لإمارة الشعر فهذا حفل البرنس محفوفا بمظاهر التكريم والتقدير. ووُضِع على مِنَصّة، وأُلقيت القصائد بين يديه. ولكي تدرك مضامين هذه القصائد حسبك هذا البيت من قصيدة كامل كيلاني الموجّهة إلى “البرنس” أمير الشعراء:

إن يركب الجحش شعرور لحاجته ** فما رأيناك إلا راكبا جَمَلا

والشعرور – الذي يركب الجحش لحاجة- هو في رأي المحتفلين والمُعبّر عنهم: محمود عباس العقاد”[1].

انتهى كلام الأديب عباس خضر، والروايات المصرية لهذه الواقعة عديدة نسبيا، وهي عموما تؤكد حدوثها الفعلي، مع اختلافات في بعض المضامين، وفي الطول والإيجاز، وأقدمها رواية عبد اللّه حبيب في كتابه: “المغفل وقصص أخرى”، ففي طيّه نعثر على فصل بعنوان: “البرنس !!! شخصية حقيقية”، فيما يلي نصه الكامل:

“البرنس !! … كذلك أراد المغفور له السلطان حسين أن يلقب صاحبنا بلقب “البرنس” وإن لم يكن من الأمراء أو النبلاء، وتشاء الأقدار أن يُمحى اسمه من هذا الوجود ولا يبقى له من الأسماء والألقاب إلا هذه الكلمة: البرنس !! فإذا سألته هو ذاته عن اسمه، أجابك على الفطرة النقية وبغير تردد: “البرنس”.

أشرف على الستين من عمره، قصير القامة، غليظ البطن، واسع العينين، يرتدي الجبة والقفطان والطربوش. تراه في خطواته البطيئة ومشيته المتهالكة يتمتم ببعض الأدعية والأوراد. ثم تراه أمام الضريح الزينبي يمسك بيده قلمه الرصاص القصير، ويكتب على ورقة صغيرة أبياتًا من الشعر يبين فيها السبب الذي جاء من أجله:

لصبحي بك مسألة ** سألتك أن تحليها

غدًا يشري فدادينا ** فهيا باركي فيها

وهو بعد قليل أمام ضريح الإمام الحنفي يكتب له أبياتًا أخرى ويضعها عند مقامه من أجل مسألة أخرى. ثم يعود إلى أصحاب الحاجات فيبلغهم أنه أوصل رسالاتهم إلى الأولياء، وأنهم سَيَرَوْن بعد أيام نفحات الإمام الحنفي والسيدة زينب والسيدة نفيسة !!!

منذ خمسين عاما أو تزيد، كان الذاهب إلى الجيزة يرى في طريقها عصر كل يوم شيخا كهلا يتكئ على عصاه بيده اليسرى ويضع يده اليمنى على منكب صبي صغير، ويسير الاثنان إلى أن يبلغا سراي “البرنس حسين”. ويتلقاهما عند الباب الخارجي أحد الخدم فيذهب بهما إلى حيث يكون “أفندينا” في انتظارهما ليتلقى على الشيخ دروس الشريعة واللغة العربية، فإذا انتهى من درسه أخذ يلاطف الصبي ويداعبه ويأمر له في كثير من الأحيان بمنح كريمة. أما هذا الشيخ الكهل فهو “السيد محمد” أستاذ البرنس حسين؛ وأما هذا الصبي الصغير فهو “البرنس”.

وتمر الأيام فإذا “البرنس الصغير” قد أصبح رجلا، بعد أن انتقل إلى جوار ربه ذلك الشيخ الكريم الذي كان يكلفه أيام طفولته، وتطوف به الأعوام ما تطوف ثم تستقر به في “دار الكتب المصرية” ليقوم بنسخ الكتب القديمة للباحثين والمؤلفين نظير ما يجودون به عليه من أجر ضئيل. ثم يرقى “البرنس حسين” عرش السلطنة المصرية، ولم يكن يخطر ببال أحد أنّ صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين ذاكرا للصبي الصغير الذي كان يتشرف عصر كل يوم بحظوته مع معلمه الشيخ بعد أن ضرب “الصغير” في فيافي الأيام، واجتوته الأعوام، وصار رجلا شارف الخمسين، ولم يكن يخطر ببال أحد أن يظل صاحب العظمة ذاكرا لهذا الصبي الصغير حتى تشرّفت دار الكتب المصرية في بعض الأعوام بزيارة عظمته.

فإذا كنتَ بدار الكتب المصرية في هذا اليوم رأيتَ صاحبنا البرنس في غرفة المطالعة مع زملائه النساخين، لكنك لا تراه في هذا اليوم مشغولا بعمله كبقية زملائه، فهو عنهم وعن كراساتهم في شغل شاغل بما يستهبط به وحي الشاعرية لينظم قصيدة يستقبل بها صاحب العظمة السلطان، أما الأوامر الصارمة التي صدرت لجميع مَن بدار الكتب تحرم عليهم إلقاء الخطب أو القصائد بغير إذن المدير فهو لا يعبأ بها ولا يقيم لها وزنا، هو قد انتهى من نظم قصيدته، وهو لا بد أن يقف بين يدي صاحب العظمة ليتشرف بإلقائها. ويحين موعد الزيارة السلطانية، ويصل ركاب صاحب العظمة ويُشَرِّف غرفة المطالعة بزيارته. وهنا يتحرك “البرنس” فلا يكاد يقف بين يدي عظمته ليلقي قصيدته حتى يزوغ بصر المدير وتدور الأرض تحت قدميه خوفا ووجلا مما عسى أن يُلقى على عاتقه من جراء هذه المخالفة الجريئة ! إذ كيف يسوغ أن يقف أحد النساخين بثيابه الرثة وبغير استئذان ليلقي قصيدة بين يدي عظمة مولانا السلطان، على أن هذا الخوف لا يلبث أن يزول حين يرى المدير والحاشية صاحب العظمة يتقدّم باسِمًا خطوات نحو “البرنس” وهو يقول:

– عفارم برنس، برافو برنس، .. فين أبوك ؟

– اللّه يخليك يا أفندينا، حياتك الباقية يا أفندينا.

– مسكين برنس.

ثم يتناول بيده الكريمة قصيدة البرنس فيسلمها لصاحب السعادة فهمي باشا ويأمر له بجائزة مالية.

وإذْ ذَاك يتنفس المدير الصعداء، ويزول عن نفسه ما ألمّ بها من الهَمّ والوجل لولا ما غاظه من جمود البرنس ومحافظته على كلمة “أفندينا” في خطاب عظمة السلطان كأنه لا يزال صبيا وكأن صاحب العظمة لا يزال برنسا في قصره كعهد صاحبنا به.

وليس البرنس شاعرًا متواضعًا يعرف حقيقة منزلته بين الشعراء. فهو شاعر متمرد الشيطان، لا يرى واحدًا من الشعراء يفضله غير المتنبي ؟؟؟ فَرَامِي شاعر الشباب أحد تلاميذه. وهكذا يزعم البرنس. وبهذه العقيدة يخاطب رامي. يدخل عليه مكتبه في بعض الأحيان غاضبًا عاتبًا:

– يا ابني يا رامي .. قصيدتك اللي منشورة النَّهَارْدَه في “الأهرام” نُصَّهَا مسروق من شِعْرِي.

– أهلًا بأستاذي “البرنس”، معلهش يا سيدي .. المُسامح كريم.

ويضحك رامي مع مَن حوله. ثم يعود البرنس إلى كراساته ينسخ فيها كتبه المخطوطة.

والبرنس عدا ذلك يعتبر نفسه شاعرًا مُجَدِّدًا، أدخل على اللغة العربية كلمات جديدة وأساليب جديدة. ويستشهد على ذلك بقوله:

«شلّن» برنسك إنه ** أضحى فقيرًا في الورى

ويريد بكلمة «شلّن»: أعطني شلنًا. وإذا انتقده رامي في هذا التعبير فهو جاهل بأصول التجديد، لا يعرف مصطلحاته. وتشتعل نار الجدال بينهما، وتحتدم المناظرة، فلا يفصل فيها غير شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم، حيث يُخرج «الشلن» من جيبه فينفح البرنس، وهنا يذعن البرنس لرأيه ويرضى بحُكْمِه. أما رامي، فله الويل من تلميذ عاقّ لا يرعى عهد تلمذته للبرنس، ولا يعرف التجديد !!!

عرفتَ كيف نال البرنس حظوة المغفور له السلطان حسين، ومن طريف ما نعرف أيضا أنه تشرف بين يدي “مولاي عبد الحفيظ”[2] وامتدحه بقصيدة نال عليها جائزة سَنِية، وهو يَتِيه على رامي ويُفاخره بهذه المواقف المُشَرِّفَة، على أن مدائح البرنس لا تعرف التفرقة بين المقامات فهي ترتفع وترتفع إلى أن تحظى بنفحات الملوك والسلاطين، وتهبط ثم تهبط إلى أن تنزل إلى مقام موظف صغير أو لكل من “يشلّنه” بالشّلن.

يستطيع البرنس – بغير مبالغة – أن ينظم في اليوم خمسين قصيدة، ففي الليلة الكبيرة لمولد الإمام الحنفي أو الإمام الشافعي ينتحي البرنس ناحية ويبدأ في نظم قصائده. ولا تمضي غير ساعة أو ساعتين حتى يكون قد أعد عشرين قصيدة، يمتدح بها الأعيان النازحين من البلاد والتجار القائمين بإحياء المولد. ثم يعود آخر الليل «يحصِّل» ثمن هذه القصائد الحِسان. وهو لجميع أفراح العاصمة الشاعر الذي لا يشق له غبار”[3].

وقد شاعت واقعة تنصيب “البرنس” أميرا للشعراء شيوعا كبيرا، وتناولتها صُحُف القاهرة، وتكلم عليها بعض كبار رجال الفكر في مصر، منهم على سبيل المثال الأديب مصطفى صادق الرافعي الذي نجده يُشير إلى ذلك في كتابه “على السفود”، فيقول:

“حين انضم الدكتور طه حسين إلى حزب الوفد كان يخشى من مُنَافِسِه كاتب الوفد الأوّل عباس محمود العقاد، ولما كان طه حسين يعلم أنّ العقاد مغرورٌ دخل عليه من هذا الباب فبايعه أميرا للشعراء، وكتب يقول فيه: “إني لم أومن في هذا العصر الحديث بشاعر كما أومن بالعقاد، أومن به وحده، لإني أجد عند العقاد ما لا أجد عند غيره من الشعراء، فضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا استظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه”.

ولم يخف هذا العبث من الدكتور طه حسين بالعقاد على أحد، فهو أشبه بمدح المتنبي كافورَ الأخشيدي، فقال الشاعر الأستاذ محمد حسن النجمي ساخرا ومتهكّما:

خدع الأعمى البصير ** إنه لهو كبير

أضحك الأطفال منه ** إذ دعاه بالأمير

أصبح الشعر شعيرا ** فاطرحوه للحمير

وكانت دار الكتب المصرية تضم عددا من الشعراء الساخرين من إمارة العقاد، منهم محمد الهراوي، وأحمد الزين، وأحمد رامي، وأحمد محفوظ، فرأوا أن يبايعوا حسين البرنس بإمارة الشعر، والبرنس هذا لا يستطيع نظم بيت من الشعر ولا قراءته، وإنما يشغل نفسه بما يضحك، وحَدَّدُوا موعدا لحفل البيعة، واجتمع أكثر من عشرة شعراء كلهم مجيد، وأجلسوا البرنس على المنصة، وتقدم كل شاعر بقصيدة هزلية يلقيها بين يدي المحتفل به، فكانت رَدًّا على العقاد لا يحتاج إلى إيضاح”[4].

ومن الكُتّاب المشهورين الذين تكلموا على هذه الواقعة الدكتور زكي مبارك في كتابه “وحي بغداد”، قال في سياق الحديث عن الحركة الأدبية في مصر:

“وفي كلية الآداب اليوم حركة لانتخاب “أميرة الشواعر” وأخشى أن نستغني بها عن “أمير الشعراء”!! .. وبهذه المناسبة أذكر أن المصريين كانوا فكّروا في انتخاب أمير للشعر بعد شوقي، ورأى جماعة أن يكون ذلك اللقب من حظ الأستاذ عباس العقاد، وثار جماعة آخرون منهم الأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد الأسمر، فقد أهدوا اللقب إلى “البرنس” وهو نَسَّاخ في دار الكتب المصرية له منظومات في التهاني بالأفراح والليالي الملاح !! وقد قُتِل ذلك الجِدّ بهذا المزاح”[5].

وإذا كانت هذه إشارة مقتضبة إلى النازلة من قِبَل زكي مبارك، فإنّ توفيق حبيب (1880-1941) ومحمد رجب البيومي (1923-2011) استفاضا في وصفها، فقال الأوّل (توفيق حبيب) في الفصل التاسع عشر من كتابه “أبو جلدة وآخرون” وهو الفصل الذي يحمل عنوان “البرنس أمير الشعراء”:

“تَوَّجُوا «البرنس» أميرًا على الشعراء ورئيسًا. كانت مؤامرة حيكت في بعكوكة أدب معروفة. لماذا يؤمِّرون فلانًا على الشعراء، ويُرَئِّسون فلانًا على الأدباء ؟ ولماذا لا يكون «البرنس» أميرًا مثلهم ؟

وانتهت المناقشة بأن يُحتفل بتأمير «البرنس» ليساوي في المجد فلانًا وفلانًا. وكانت الحفلة مظهرًا من مظاهر الأدب والدعابة والفكاهة و«القفش» معًا. اشترك فيها الهراوي والأسمر وبشاي والقاياتي وحسين شفيق والكيلاني، وغيرهم من نخبة الشعراء الظرفاء الذين يجمعون في شعرهم بين القديم والحديث. وبايعوا البرنس برنسًا، وثبَّتوا ذاك اللقب الذي منحه له أهله صغيرًا، وأيَّده صاحب العظمة السلطان حسين كامل لما زار دار الكتب المصرية.

«البرنس» وما أدراك مَن «البرنس»؟! رجل مغربي الأصل مصري المولد والنشأة. كان أبوه من رجال قاسم بك الحلو[6]. ودخل البرنس مكتبًا أَوَّلِيًّا، ثم مدرسة “القربية”، ومنها إلى الأزهر، ومن الأزهر إلى دار الكتب نسَّاخًا. ينسخ للدار وينسخ للزبائن. وسواء جلس كاتبًا أو مشى صامتًا فهو «غرض الإكالة»، يُداعبه القراء الملازمون والنساخون المأجورون وكبار الموظفين وصغارهم، ويتجاذب أطرافه الأساتذة أحمد محفوظ ورامي والهراوي ونسيم وعبد اللّه حبيب والشيخ زين والعم عبد الرسول والمدير برادة بك، ويعطفون عليه حينًا ويجرون شكله حينًا آخر.

وقد عُني الأستاذ عبد اللّه حبيب بتصوير «البرنس» صورة شائقة بديعة في كتابه «المغفل … وقصص أخرى». […] ولم يكتف بهذه «التصويرة» الحلوة، بل رأى أن يزيدها فقال:

“إن لقب «برنس» عُرف به صاحبنا منذ كان صبيًّا يقود أستاذًا ضريرًا يقصد سراي الجزيرة ليلقن سمو السلطان حسين دروسًا في الفقه” … إلخ.

وهي رواية بعيدة عن الحقيقة، لأن «البرنس» لا تزيد سِنّه اليوم على الخمسين – حسب روايته – وهو يقول إنه لم يعرف السلطان حسين إلّا عندما شرَّف دار الكتب فأنشده قصيدته التي مطلعها:

الكون من لألاء وجهك يشرق ** وعلى الأريكة من سنائك رونق

والبرنس يعيش حتى اليوم أعزب، ويقطن غرفة في رَبْع لمواطنيه “أولاد بنونة” بأوّل “العَبَّاسِيّة”.

هو بوهيمي أصلي تمام. حياته يومًا بيوم، يصرف كل ما يأتيه في نهاره، غير مُفَكِّر في ما يأتي به الغد. يستيقظ مبكرًا، ويذهب إلى المسجد الحسيني أو الزينبي أو السلطان الحنفي لصلاة الصبح، ثم يقصد دار الكتب للنسخ. ويتناول طعامه في أحد مسامط الحسينية المعروفة. لا يُعنى في ثيابه إلا بحذائه، وهو «تغييرة فاسي» صفراء فاقع لونها، وهو يسميها بلفظه المعسول «بغلة»[7]. ولو أنه ملك يومًا عشرة جنيهات، لطار بها إلى الفَحّامين واقتنى بها أكبر عدد من البغال «شيالة الحمول». ولا يقتني من الكتب إلا ديوان المتنبي.

ولما أحاط به الشعراء في حفلة التتويج وبايعوه أميرًا عليهم، وقف وسطهم وأنشدهم قصيدة غراء قال فيها:

رجال المجد دمتم في المعالي ** مدى الأيام سادات الرجال

لديكم قد حضرت ولا سواكم ** أراه حائزًا أحسن الفعال

فأنتم سادة الأدباء طُرًّا ** وأنتم كالفراقة في الجمال

وهذي حفلتي بكمُ أضاءت ** بظُرف علاكمُ إلى الكمال

فهنيئًا للبرنس بإمارة الشعراء ورياسة الأدباء الذين أمَّروه عليهم، ورأَّسوه اعترافًا بنبوغه وأدبه ورزانته وصبره على المكاره”[8].

أمّا الثاني (محمد رجب البيومي) فقد عَرَّفَ بالواقعة في كتابه “طرائف ومسامرات”، وتَحْتَ عنوان “مبايعة شعرية” .. كَتَبَ البيومي:

“حين انضم الدكتور طه حسين إلى الوفد المصري، كان حذرا هيّابا من مُنافِسِهِ كاتب الوفد الأوّل الأستاذ عباس محمود العقاد، فجعل يسترضيه بكل ما يمكن التوسّل به، وقد أتيحت له الفرصة حين أصدر العقاد ديوان “وحي الأربعين” وواجه عاصفة نقدية تزعمها الكاتب الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، حين ذلك هتف طه حسين بمبايعة العقاد أميرا للشعر، في حفلة تكريمية للعقاد، وفي مقال تال بمجلة “الرسالة”، وكان مما قاله طه حسين: “إني لا أومن في هذا العصر الحديث بشاعر كما أومن بالعقاد، … إلخ.”.

وما كاد رأي طه يذاع، حتى تناوله المعارضون تهكّما وسُخرية، وكان من أوجع ما قيل، ما نظمه الشاعر الأستاذ محمد حسن النجمي، حيث قال من قصيدة هازئة:

خدع الأعمى البصير ** …. إلخ.

وإذا كانت جماعة الهراوي لم تصبر على إمارة شوقي، وهو من أبرز شعراء عصره، وأَسْيَرهم شِعْرا، وأبْعدهم صيتا، فإنها تستنكر أشد الاستنكار مبايعة العقاد، وتورُّطَ طه حسين فيما لجأ إليه، ورأت أن تردّ على هذه الإمارة بمبايعة نَسّاخ في دار الكتب، ينظم الشعر، ولا يقرض بيتا صحيحا، بل ولا يستطيع قراءته، ولكنه يشغل نفسه بما يُضحك، و”دار الكتب” حينئذ تحفل بالشعراء الهازئين بإمارة العقاد، وبادِّعاد هذا النَّسَّاخ ما لا يُحْسِن، ومنهم الهراوي، وأحمد الزين، وأحمد رامي، وأحمد محفوظ، وكلهم موظفون بدار الكتب، فرأوا أن يُقيموا حفلةَ مبايعةٍ لحسين البرنس النَّسَّاخ، وحدّدوا لها الموعد، وأعلنوا عن مهرجان يُقام للبيعة يتحدث فيه أكثر من عشرة شعراء، كلهم شاعر نَابِهٌ مُجيد.

وترامى الأصدقاء والأدباء على مشاهدة الحفل حيث أَجلسوا أمير الشعر حسين البرنس في الصدر، وتَقَدَّم كل شاعر بقصيدته يُلقيها بين يدي المحتفل به، ثم نُشرت القصائد جميعها في الصحف اليومية، فكانت رَدًّا لا يحتاج إلى إيضاح، ورأى الأستاذ محمد الأسمر أن يجمع هذه القصائد في ديوانه، بعد أن ذكر المناسبة الفكاهية، فَأَمْتَعَ القراء بما لم يستطيعوا الرجوع إليه في الصحف اليومية لبُعْدِ العهد”[9].

ثم أتى محمد رجب البيومي ببعض القصائد الشعرية التي تُلِيت في حفل مبايعة “البرنس” المغربي أميرا للشعراء، نقلا عن ديوان محمد الأسمر، وقبل أن نرجع إلى هذا الديوان نودّ أن نشير إلى أن الأستاذ محمد رجب البيومي ذكر أنه أردك أحد المُبايِعِين للبرنس وهو الشاعر حسن القاياتي، وجلس إليه، وطلب منه أن يحكي له شيئا عن واقعة المبايعة المذكورة، فأسعفه القاياتي في بعض ما طلب، قال:

“السيد حسن القاياتي شاعر موهوب، ذو جزالة وأسر وابتكار، وقد اشترك في مبايعة البرنس بِبَيْتَيْنِ مُعَبِّرَيْن عن تهكّمه المَرير، وأذكر أننا كنا في مجلسه بالسُّكَّرِية، وجاءت ذكرى هذه المبايعة فقلت للسيد: “إن إقامة الحفل التهكمي سلب لا إيجاب، فهو مواجهة لم تسفر عن نقد يحدد أسباب المعارضة، وأولى بالموقف مقالات هادفة، تتعرض لشعر العقاد بالنقد، إذا كنتم تستطيعون نقده الموضوعي!”.

فضحك السيد، وقال: “أصارحك يا أخي أننا لم نكن نستطيع، لأن العقاد يحتل جريدة يومية كبيرة، وله فيها أكثر من عشر تلاميذ، يُسَلّطهم على معارضيه بالحق والباطل، وطه حسين يحتل جريدة يومية مماثلة، وله فيها أكثر من عشرة تلاميذ، يسلطهم على معارضيه بالحق والباطل؛ ولقد كان في استطاعتنا أن نواجه العقاد وحده أو نواجه طه وحده، مع العُسر الشديد في هذه المواجهة، أما أن نواجههما معا ووراءهما الحشد الجرّار من المرتزقة، فسنخسر. لقد اقتحم مصطفى صادق الرافعي الميدان، وهاجم الإمارة المدّعاة بأسلوبه التهكمي، ولكن الرافعي هو الرافعي، وله أيضا تلاميذه الذين يؤمنون بزعامته ويردون كيد خصومه ؟!”.

ثم سكن القاياتي وهو يقول: “ذلك اعتذار فحسب، وأنا ألمس ما به من تقصير، فهل ننتقل إلى موضوع جديد ؟ على أني أعلم أن العقاد يبادلني المودة، وقد تحدث عني بالخير، فكيف أشن حربا لا نهاية لها” ..”[10].

وإذا كان مصطفى رجب قد أورد قصائد مما تُلي في حفلة مبايعة “البرنس” في كتابه “شعراء الفكاهة المعاصرون”، فلا شك أنّ ذلك كان نقلا عن الشاعر محمد الأسمر الذي يقول عنه محمد رجب البيومي إنه جمع في ديوانه كل القصائد التي قيلت في حفلة البيعة المذكورة والتي نشرتها صحف ذلك الوقت وأضحت اليوم من العسير الحصول عليها. وكان الأسمر أحد الشعراء الذين بايعوا “البرنس” نَسَّاخ الكتب المغربي أميرا للشعراء، وقال شعرا في تلك المناسبة. وقبل أن نأتي بنصوص تلك القصائد، نريد أن نختم هذه الشهادات – وهي كثيرة نسبيا – بما كتبه مصطفى رجب المُشار إليه، فقد تطرّق لحكاية “البرنس” في كتابه “شعراء الفكاهة المعاصرون” وتحدّث عن ذلك الحفل الطريف، فَتَحْتَ عنوان “أمير الشعراء .. المُزَيّف !” .. كَتَب رجب:

“في أواسط القرن العشرين، كانت المنتديات الأدبية، والسهرات الثقافية على المقاهي سِمَة بارزة من سمات الحياة الفكرية في مدينة القاهرة. وكان جماعة من الشعراء قد اعتادوا في سهراتهم الأدبية أن يتبادلوا الدعابات والمرح، ولا تخلو لياليهم – بين حين وآخر- من متطفلين يُفسدون عليهم مُتَعَهم، فإذا بهم يوسعون أولئك المتطفلين هجاء وسخرية ونقدا.

وكان من أولئك المتطفلين شويعر خفيف الظل اسمه: حسين أفندي محمد، كان مُحَبَّبًا إلى الشعراء لخفة ظله التي تغفر له ركاكة شعره. ولكنه كان شديد الإيمان بأنه شاعر عظيم !! وأنه سيد شعراء عصره ولا فخر، وقد لقّب نفسه بلقب “البرنس”، وهي بالإيطالية تعني الأمير. وذات ليلة من ليالي شهر رمضان، اقترح الشعراء إقامة حفل لمبايعة البرنس حسين أفندي محمد أميرا للشعراء بعد أن مَرّ نحو ربع قرن على وفاة أحمد شوقي بك دون أن يخلفه أحد على إمارة الشعر العربي !! ..”[11].

وكلام الأستاذ مصطفى رجب لا يخلو من بعض المغالطات كقوله إنّ لقب “البرنس” منحه هذا لنفسه، ثم إنّ واقعة مبايعته أميرا للشعراء لم يكن قد مرّ عليها ربع قرن على وفاة أحمد شوقي كما ذكر، وإنما حصلت بعد وفاته مباشرة. وعموما يلاحظ في كلامه بعض التجني على أمير الشعراء المغربي إذ وصفه بالتطفل وأنه ممن كانوا يُفسدون متعة سهرات الشعراء الحقيقيين، وهذا لم يقله الذين عرفوا “البرنس” عن قرب، كما أنه خلاف ما تُظهره النصوص. وفيما يلي القصائد التي تُلِيت في حفل مبايعة حسين محمد المغربي الملقب بـ”البرنس” أميرًا للشعراء، على النسق الذي جاءت في ديوان محمد الأسمر، مع التقديم الذي يسبقها بعنوان “أمير !!”، ثم تليها قصيدتا “البرنس” في هذا الحفل الطريف، نصّ جميع ذلك:

“أراد شعراء مصر أن يروّحوا عن أنفسهم في بعض الأعوام، فأقاموا في ليلة من ليالي رمضان حفلا دعابيا كبيرا بايعوا فيه حسين أفندي محمد بإمارة الشعر !! وحسين أفندي محمد المعروف بـ”البرنس” شخصية فَكِهة فَذَّةٌ في بابها، ينظم القصائد كيفما كانت ألفاظها وكيفما كانت معانيها، ولكنه مع ذلك لا يخلو من اعتداد بنفسه، وإكبار منه لِما ينظم، وقد جعلته هذه الخلال محبوبا لدى الشعراء، يتحدثون إليه، ويتنذرون معه .. ومن أجل ذلك أقاموا له هذا الحفل الدُّعابي.

وقد كان من الشعراء الذين خطبوا في هذا الحفل، وبايعوا فيه البرنس بالإمارة الأساتذة الشعراء: أحمد الكاشف، ومحمد الهراوي، السيد حسن القاياتي، حسين شفيق المصري، كامل كيلاني، السيد ابراهيم، عبد الجواد رمضان، عزيز بشاي. أنشد كل منهم قصيدة دعابية بين يدي البرنس وهو جالس على كرسيٍّ عال، وكُلُّ هذه القصائد تتضمن مبايعته بإمارة الشعر، وفيما يلي قصيدة صاحب الديوان التي أنشدها في هذا الحفل، وبعدها قصائد الشعراء:

(1)- قصيدة الأستاذ الأسمر:

يا أميرَ الشُّعراء ** أَنْتَ أَوْلَى باللواءْ

سيدي فلتهنإِ اليَوْ ** مَ بِمُلْكِ الأدباء

(امرؤُ القيسِ) على بَا ** بِكَ بعضُ (الأُمَناء) !!

و(أبو الطيِّب) في الدو ** لةِ بعضُ الوزراءْ !!

و(النُّوَاسِيُّ) و(ها ** رونُ) مَعًا في النُّدماء ؟!

و(المعريُّ) لَدَى السُّـ ** ـدَّةِ يحبو للعَلاء !!

دولةٌ ليس بها إلَّا ** كِبارُ الكُبَراء

وإذا شِئْتَ حشدنا ** لك فيها الدُّخلاء

فهم اليومَ كثيرٌ ** زَمَرٌ مِلءُ الفضاءْ

سيّدي فاسلُكْ لفيفا ** منهم في الخفراء

رحمةً منكَ وفضلًا ** وجنونا في العطاء !!

ـــــــ

سَيِّدي وليشملِ الطَّرْ ** دُ جميع الثقلاءْ

سيدي لا يبقَ في الدو ** لة غير الظرفاء

سيدي ولترحمِ الشِّعْـ ** ـر من القول الهُرَاء

فَبِهِ اليومَ ثُغاءٌ ** ورُغَاءٌ وعُوَاء

ونَعيقٌ وبُغَامٌ ** ونهيقٌ ومُكاء  

وبه ما شئتَ من فَوْ ** ضَى ومنْ فَرْطِ ادِّعَاء

والقَوافِي بين هذا ** مُجْهِشاتٌ بالبكاء

صارخاتٌ لاطماتٌ ** واقفاتٌ بالعراء

ـــــــ

سيدي رَجِّع لنا شِعْـ ** ـرَكَ، واهتِف ما تشاء

حيثُ لا تسمعُكَ الأر ** ضُ، ولا تُصغي السماء

سيدي مولايَ يا مَوْ ** لَى جميع الشعراء

ثَبَّتَ اللَّهُ لك (العَرْ ** شَ) وإن كانَ هواءْ !!

وفيما يلي بقية قصائد هذه الدعابة الأدبية، وبعدها قصيدتا البرنس اللتين أنشدهما في هذه الحفلة:

(2)- قصيدة الأستاذ الكاشف:

إمارةُ الشعر خُذْها يا حسينُ فقد ** أتى يبايعُكَ الإخوانُ والصُّحَبُ

وأدرك اللقب المضْنَى سواكَ بهِ ** ليطمئنَّ إلى غالي اسمك اللقب

جمعتَ في خير نادٍ خيرَ طائفةٍ ** فكان فيما جمعت الشرقُ والعرب

سعوا إليك بنجواهم تطالعها ** ولو سألتهم جدواك لاكتتبوا

وأحسنوا موسما فخما ومؤتمراً ** ضخما، وذاتُكَ فيه المنظر العجب

باليمن في رمضانَ السمح تشهده ** والقولُ ما أولموا فيه وما أدبوا

لم يبقَ من سببٍ للأدعياء إلى ** ما حاولوهُ، وما وَدُّوا، وما حَسِبوا

وكان فيما توليتَ القضاء على ** ما لَفَّقُوهُ، وأملاهُ الهوى الكَذِب

يا منْ يُدَبِّرُ سلطانا ومملكة ** وليسَ فيها له بيتٌ ولا نَشب

ومن يُحَيِّيه أتباعٌ وحاشية ** وقد يُقام لهُ التمثال والنُّصُب

مَتَّعْتَ كل فتى منهم بمنصبهِ ** وليتني بين من عينتَ مُنْتَدَب

وحسبُكَ اليوم دار الكتب عاصمة ** لدولتيك، وإيوانًا كما يجب

من لي بِسُدَّتِكَ العليا أُقَبِّلُهَا ** ودون سدتك الأستار والحجب

هذا نصيبي من الفوضى ظَفرتُ به ** من بعد ما خانني في غيرها الأرب

لم يغنني الجد في قول وفي عمل ** وقد لعبتُ عسى أن ينفع اللعب !!

 (3)- أبيات الأستاذ الهراوي

إلى العرش فاصعدْ وامض بالأمر واقطعِ **

ومُر، وانْهَ، وامنحْ ما بدا لك، وامنعِ

صَرِّف أمور الشعر في الأمة التي **

تُميتُ رجال الشعر فيها ولا تَعِي !!

فأنت أمير الشعر غير منازع **

وكل أمير غير شخصك مُدَّعِ

(4)- أبيات السيد حسن القاياتي:

يا حسين يا عزيزي يا أميري ** يا أمير الشعر في اللب الغرير

سد كما ساد صرير شد ما ** أمَّرَ الأقلام في وادي الزئير

 (5)- قصيدة الأستاذ حسين شفيق المصري:

يا حُماةَ القريضِ حولَ البرنس ** أصبحَ الشعرُ دولةً ذاتَ كُرْسي

وهل الحكم والإمارة إلا ** لبرنس يُضحي برأي ويُمسي

يقرض الشعر مثلما يقرض الفا ** ر حبالا قد تلت من دِمَقْس

كان من قبله القريض بجلبا ** ب فأضحى بـ(بنطلون) و (جرس)

أيها الشاعر الكبير رضينا ** ك أميراً، فكنه تفديك نفسي

 (6)- قصيدة الأستاذ كامل كيلاني:

تِه بالإمارة لا تعدل بها بدلا ** وقم بأعبائها – إن شئتها- بضلا

قد ارتضاك حُماة الشعر قاطبةً ** أميرَهمْ فلتكنْ في عصرنا مثلا

كنت البرنسَ فأصبحتَ الأمير فما ** زادوك شيئا سوى التعريب مُرتجلا

لا ترحمنْ ناكثا عهدا لبيعته ** ولا تُنل ثائرا عفوا ولا أملا

وابْطشْ بكل فتىً يسمو بهمتهِ ** إلى الإمارة واملأ عقله خَبلا

استعجم العُرب حتى صار قائلهم ** مستبهم الطبع صنو البهم مكتملا

عابوا المقلد في الأشعار ينظمها ** وأنكروا أن يروه نادباً طللا

قلنا “صدقتم” فهاتوا من روائعكم ** فجمجموا القول مسروقا ومنتحلا

قلنا “أبينوا” خسئتم، لا أبا لكم ** وأفصحوا هبلتم أمكم هَبَلا

فأجفلوا، ثم قالوا: ما لمثلكم ** إبداعُنا، فرأينا جِدّهم هزلا

قد جَدَّدَ العصرُ في وزنٍ وفي لغةٍ ** فلستَ تعرفُ شعراً قال أم زَجَلا !!

وجُنَّ قائلهم، أو جُنَّ سامعهم، ** أو جُنَّ عصرهم طفلا ومكتهلا !!

رطانةٌ لستَ تدري حينَ تسمعُها ** أقالَ مُحْتَفِلا أمْ قال مرتَجلا

فكن أميراً لهذا العصر مضطلعاً ** بثقلهِ واحتملْ أعباءُه رجلا

إن يركب الجحشَ شُعْرورٌ لغايته ** فما رأيناك إلا راكباً جَمَلا

وإن يكن شعرُهم من سُخْفِهِ بصلًا ** فإن شعرك يحكي الشّهدَ والعَسَلا

(مُرْ وادع وسل واعرض لحضهم ** تمن وارج كذاك النفي قد كملا)

 (7)- قصيدة الأستاذ سيد ابراهيم:

من حيثُ أنَّ الفنونَ أضحتْ ** في مركز تاعسٍ خَسيسِ

وصارَ أمرُ القريضِ فَوْضى ** وليسَ للشعر من رئيسِ

ـــــــ

وحيث إن البرنسَ أهل ** لذلك المنصبِ الخطير

قد قرر المحتفون جَمْعاً ** تقليده منصب الأميرِ

ـــــــ

فيا أميرَ القريض أقدم ** وبَدّل الفنَّ من أساسِه

ومَنْ يُخالف فامنحه عفوًا ** وإن تشأ فلتُطح برأسهْ

ـــــــ

وإن تفضلت يا أميري ** فاقبل إذاً هذه الإماره

وانهض بأعبائها فخورا ** وامنع عن الفنّ كلَّ غاره

ـــــــ

واقبل إذا شئتَ بعد هذا ** إمارة الخطّ مُسْتَقِلّا

فقد غدا الفنُّ لا يُساوي ** قلامة الظفر أو أَقَلّا

ـــــــ

وأنتَ حَسْبُ الفنونِ وحْدَك ** وقد أقام الزمان سعدكْ

إن هتفَ الحاسدون ضدكْ ** فما أرى للفنون نِدَّكْ

ـــــــ

والشعر في مصر يا أميري ** مستفعلن فاعل فعول

فكن أميرا على القوافي ** فالناس ليست لهم عقول

(8)- قصيدة الأستاذ عبد الجواد رمضان:

دَعَتْكَ وقد تَوَافَرَ طالبُوها ** وهل يحوي العُلا إلّا بَنُوها

أميرُ الشعراء أنتَ وإن تَغالَى ** وأسرفَ في الدِّعاية مُدَّعُوها

جِياعٌ تاجروا باسم القوافي ** وقد ربحوا الحياةَ وأَخْسَرُوها

سأحمي عَرْشَها وأذوذُ عنها ** زعانفَ للرذيلة سَخَّروها

وهل خُلِقتْ جلالتُها لغيرِي ** وشِعْرِي أمُّها وأنا أبُوها

(9)- قصيدة الأستاذ عزيز بشاي:

على العرش فاجلسْ أو على النجم فاحلل ** فدونك هذا منزلًا بعد منزل

بلغتَ سماء الشعر وحدك عالياً ** على الناس فالبس تاجَهُ وتقبَّل

وصِرْتَ أميرَ الشعر فارفع لواءهُ ** على مصرَ واجلس في الإمارةِ وانجل

أميرٌ إذا هزَّ اليراعة أقبلتْ ** ملوكُ النُّهى تسعى إليك وتجتلي

لقد كذبوا إن قيل إنك مُدَّعٍ ** فعلمك موفور ودلوك ممتلي

وظلك ممدود وسيلك جارف ** على كل مفضال وكل مُفَضَّل

طلعت على الدنيا بشعرك نازلا ** بوحيك فابعث بالقريض وأرسل

وقم آمرا فوق الأريكة ناهياً ** جنودك وافرح بالجنود وهلّل

لقد بايعوا إذ بايعوكَ أميرَهُم ** فقم واستمع مَنْ بايعوك وصَهْلل

حَمَلت أمير الشعر للشعر تاجه ** فصنه وإلا فاسترح وتنزَّل

ملكت زمام المدح والذم عنوة ** فرحت بمعسول وجئت بحنظل !!

ومانُك من أهل النباهة ساخرٌ ** فَقُمْ وَاهْذِ وَاسْخَرْ من زمانك واهزل !! 

ـــــــ

قصيدتا البرنس

وفيما يلي القصيدتان التي أنشدهما “البرنس” في هذا الحفل الدُّعابي:

– القصيدة الأولى :

على الشعراء قد صرتُ الأميرا ** وإن كنتُ الخَبْعَثَنَة الصغيرَا

أنا (المتنبي) في نظمي ونثري ** أقول الشعر مختالا فخورا

وإني للرّئيس بكل نادٍ ** أحاكي الشمس في الدنيا ظهورا

بدار الكتب قد قضيت عمري ** نقي الجيب أستاذاً حصورا

تلاني الشاعر المتنبي قدما !! ** وجبت قريضهُ سبحاً بحورا

لوائي قد سما فوق الثريا ** له القِدح المعلَّى هدًى ونورا

له القدح المعلى في المعالي ** لوائي ما بدا يسمو البدورا

على الشعراء قد صرتُ الأميرا ** على الشعراء قد صرتُ الأميرا

– القصيدة الثانية :

رجال المجد دُمْتُمْ للمعالي ** مَدى الأيام في تَحسين حالي !!

فأنتم سادةُ الأدباء طرا ** وأنتم كالفرائد في الجمال

فهذي حفلتي بكم أقيمتْ ** برغم حواسدي، آلَ العوالي

أدام الله سعيكم إلينا ** بحاء قبل ميم قبل دال ؟!

بكم نلت الإمارة في قريضي ** بكم جزت الأواخر والأوالي

لشاعركم برنس المجد كونوا ** له نعم الثِّمال مدى الليالي

برنسكم لَكَالْمُتَنَبِّي شعرا ** وفي هذي الإمارة فهو تالي

أدام الله علياكم جميعا ** لإحياء المروءة كالخوالي

وأبقى أنسكم في كل نادٍ ** وأجلسكم على السبع الطوال

وأحياكم حياة لي وعزا ** وأبقاكم لنا دونَ انفصال

وأبقاكم طوال العصر حصنا ** وجاهاً لي بدا دون الزوال

بكم تبدو المواسم وهي تشدو ** رجالَ المجد دمتم للمعالي”[12].

انتهت القصائد، نقلا عن ديوان الأسمر، ومن خلالها أعتقد أنه قد توضّحت لنا بعض معالم الواقعة، ومعها معالم الشخصية الأدبية لـ”البرنس” أمير الشعراء المغربي الأصل، فهو لم يكن متطفلا على الأدب كما صوّره البعض، وأراد آخرون تقزيم قدره بالقول إنه لم يكن يستطيع قراءة بيت من الشعر، وإنما كان “البرنس” يقول الشعر، والدليل قصيدتاه اللتان تلاهما من نظمه في حفل التنصيب والمبايعة، وغير ذلك من القصائد التي مدح بها الأمراء. ولكن من الواضح أنّ “البرنس” كان متواضع المعرفة، مُزْجي البضاعة في الأدب عموما، ولكن شغفه بِشِعْر المتنبي وأبي تمام أغراه بالدخول في مضمار المنافسة مع كبار شعراء وقته، وبالتوازي مع هذا الشغف كان “البرنس” ذا طبيعة تميل إلى الدعابة مع خفة الظل وتصديق لكل ما يُقال فِيه ولَه، فاستُغل في تمثيل تلك “المسرحية الفكاهية” من طرف جماعة الأدباء المصريين الذين لم يرتضوا عباس محمود العقاد أميرا للشعراء.

جاء في أحد الأوصاف أن “البرنس” مصريّ المولد، ونحن نستبعد ذلك، لأنّ الشواهد تُشير إلى حداثة استقرار والده بمصر، ثم إنه وقتَ تنصيبه أميرا للشعراء كان لا يزال مرتبطا بعائلة مغربية مرموقة هناك، فقد ذُكِر أنه كان يأوي إلى بيت كائن بحارة العبّاسية في ملك أفراد عائلة مغربية تستقر في القاهرة هم “أولاد بنونة”، وقد ذهب تفكيرنا إلى “أولاد بَنُّونَة” أعيان مدينة تطوان، ولكن حين سألنا أبا بكر بنونة، بارك اللّه في عمره – وهو آخر أبناء الزعيم الوطني الشهير الحاج عبد السلام بنونة الباقي على قيد الحياة-: هل كان للأسرة أملاك في قاهرة الثلاثينيات والأربعينيات؟ أجاب بأنْ لا، وأكّد لنا أنّ القصد إلى أولاد بنونة الفاسيين، وأنّ أسرتَه كانت تعرفهم هناك تُجّارا مرموقين أصلهم من مدينة فاس، وكان لهم محلّ شهير في القاهرة يبيعون فيه الطرابيش. وكانت الطرابيش في ذلك الزمن من سمات السراوة وعلامات الرفعة.

أما عن اسم “البرنس” أمير الشعراء المغربي، فقد اتّفقت الروايات على أن اسمه: حسين محمد (أو على الأصح: حسين بن محمد)، والشائع: حسين أفندي محمد، ويلقب بالبرنس، وفي نظري قد يكون “البرنس” هذا في الأصل: “البرنسي”، وهو لقب عائلي مغربي شهير (نِسْبَة إلى قبيلة البرانس) حَرَّفَهُ الشعراء المصريون للتفكه والسخرية ولتكون اللفظة مطابقة للكلمة الفرنسية “Prince” التي تعني الأمير، وسوف نقف في الرواية المغربية على أن “البرنس” هذا مغربي من ناحية تافيلالت[13].

أما صاحب الرواية المغربية عن أمير الشعراء حسين أفندي محمد الملقب بالبرنس، فهو الفقيه العلّامة الشيخ عبد العزيز بن محمد بن الصّدِّيق الطنجي (1918م-1997م)، وهو من علماء المغرب الذين درسوا في مصر، وتحديدا في الأزهر الشريف، ويُستفاد من روايته أنه أدرك صدى واقعة “أمير الشعراء المغربي” لا يزال يتردد في القاهرة أثناء أخْذه للعلم هناك في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنه كان على معرفة ببطلها “البرنس”، بل كان صاحبا له، وإليكم ما حكاه عنه في “السفينة” وهو كتاب له لا يزال مخطوطا إلى يومنا هذا، قال:  

“طريفة: وهي من الطرف التي لا تجدها في غير القاهرة، بلد الطُّرَف الغريبة والنوادر العجيبة.

كان لنا صاحب بمصر من أصل مغربي من ناحية تافيلالت، يلقب بالبرنس، وله غرام بالشعر إلى درجة غريبة. ولا يفارق ديوان المتنبي أو أبي تمام حيثما ذهب وأينما حل، بل لا يخطر في البال أن تجده غير متأبط لأحد الديوانين، حتى صار لازما ذهنيا أن لا تتصور البرنس إلا وتتصور في يده ديوان المتنبي أو أبي تمام. كما أنه لا ينظر في كتاب غيرهما. ويقول الشعر ارتجالا من غير تفكّر ولا تدبّر، فإذا دخل إلى مجلس ووجد فيه من يطمع في نواله يقول فيه قصيدة من عدة أبيات يمدحه ليفوز بنواله، وربما يقابله في الطريق فيكتب له القصيدة في الحال. وكان يحب من يُعظّمه ويقوم له في المجالس، بل وصل به ذلك إلى حب الأنانية المطلقة بحيث لا يقول بأحد ولا يعترف بفضل فاضل إلا لمن يحترمه ويُعظّمه تعظيما بالغا. وكان مع هذا فقيرا للغاية، لا مأوى له ولا قريب يركن إليه. وإنما كان يأوي إلى منزل الشيخ طه الشعبيني شيخ الطريقة الدرقاوية بالقاهرة، وكان يحبه ويكرمه لضعفه، وكان قصيرا جدا، وشكله غريب، فإنه كان على هيئة الفِلَالِيِّين وحالهم، يمشي كمشيتهم، وكان يلبس دراعة تونسية وحذاء مغربي، وأنفه كبير بارز على وجهه بشكل غريب، وعينه كبيرتان جاحظة، ورِجلان فيهما عوج، فكان بسبب هذا منظره مستظرف. وأما مشيته فهي متهالكة، ربما يقطع المسافة التي يقطعها الناس في ربع ساعة يقطعها هو في الساعة تماما. وكان يلقب بأمير الشعراء، ويفرح بل يكاد يطير فرحا بمن يناديه بذلك لاعتقاده في نفسه أنه أميرهم حقا. والسبب في هذا اللقب أن جماعة من الأدباء ممن كانوا ضد عباس العقاد أرادوا إغاظته في كونه ادّعى أنه أمير الشعراء، وكتب عنه ذلك في الجرائد، وأرادوا معارضته في هذه الدعوى، وأنه حيث وصل الشعر أن يكون العقاد أميره فينبغي أن يصير الأمر هزالا. فعقدوا حفلة عظيمة في قاعة الأوبرا دعوا إليها العظماء والعلماء وأتوا بالبرنس صاحبنا ونادوا به أميرا عليهم وألقوا فيه الخطب والقصائد، وأجلسوه في مكان الإمارة. وكتبت الجرائد العربية عن حفلة تنصيبه. فمن ذلك اليوم لُقِّب بالبرنس وصار لا يُنادى إلّا به، ولا يحب من يناديه باسمه الذي سماه به أبواه. ومما كان يحمله معه مصحوبا بديوان المتنبي قصاصات الجرائد التي كتبت عن حفلته ومَدَحَتْهُ، فإذا جلس مع أحد أطلعه عليها.

وشعره في بعض الأوقات جيد لطيف. وقد مدحني بقصائد ارتجالا كنت أَصِلُه بسببها. ومن غريب شعره أنه كان يذهب إلى حافظ ابراهيم شاعر مصر المعروف فيعطيه خمسة قروش مصرية في كل زورة. والمصريون يسمون القطعة ذات الخمسة قروش بالشِّلِن، فزاره يوما فوجد عنده زوارا آخرين اشتغل بهم عنه فلم يعطه كعادته فقال له في الحال هذا البيت الظريف:

شلن برنسك في سر وفي علن ** يا حافظ العهد والعواد بالشلن

فأعجب به حافظ وأعطاه ما كان يعطيه. وكان يتعاطى حرفة نسخ الكتب بدار الكتب المصرية لمن يطلب منه ذلك بأجْر. ولكن عهدته كلها على صلة الناس وعطائهم إذ كانوا يحبونه ويعرفون ضعفه، وكان لا يحب أن ينادى بالشيخ أو باسمه الذي سماه به أبواه. وأغضب ما يكون عندما يقول له أحد “رحم اللّه والديك”، فإنه كان يغضب من هذا جدا. وكان يميل إلى مذهب المعري في ذم الوالدين وكونهما كانا سببا في وجود الفرع طلبا لقضاء الوطر لا غير، فسعيهما إلى حصول لذتهما أخرجا ولدهما إلى الشقاء والتعب في هذه الدار. وقد قال لي مرارا: “ما هي الفائدة التي تركوها لنا ؟ .. وإذًا أوقعونا في مصائب الدنيا والحساب في الآخرة”. ومع هذا فقد كان في غاية التقوى والصلاح والمحافظة على أوقاته الخمس، ومع ضعف حاله وكبر سنه كان لا يترك قيام الليل وصلاة الفجر في مسجد السلطان الحنفي رضي اللّه عنه، مع أن هذا المسجد بعيد عن البيت الذي كان يسكنه بمسافة بعيدة جدا. وقيل لنا إنه كان في شبابه يشرب الخمر فتبعه بعضهم ليتحقّق منه فوجد في الكأس الذي وضع له فيه الخمر لَبَنًا سائغا، وهذا شائع بين أصحابه في مصر. وكان يحب الأولياء وزيارة قبورهم، وله اطلاع على كرامتهم، و”طبقات الشعراني الكبرى” تكاد تكون نصب عينيه. وكان يحب الأكل الجيد الفاخر، ولا يسلك في أوقات الطعام نظاما بل إذا حصل في يده ما يأكل به يذهب إلى المطعم، وربما أكل في اليوم أكثر من أربع مرات، ويغضب إذا قال له أحد: “تَزوّج”، أو باسطه في مسألة النساء. وكان يقول: إنه لم يبق اليوم مسلم، وإنما هم أولاد الحرام لا غير. وقلت له مرة: “ولماذا تُصَلِّي وراءهم”، فقال لي: “لأجل ضبط الصلاة لا غير، لأنني أنسى”. وكان يحفظ القرآن ويلازم تلاوته بل لا تقابله في الطريق إلا تاليا له، وكان – رحمه اللّه تعالى- يُحِبُّني ويميل إلَيّ كثيرا. كما كان يُحِبُّ الوالد – رضي اللّه عنه- كثيرا ويُعِدُّه مِمّن انتفع بهم وعادتْ عليه بركتهم، وكان اجتمع به لَمَّا قدم إلى القاهرة لحضور مؤتمر الخلافة[14]، وقال فيه قصائد يمدحه بها، وكنتُ أجتمع به في محل بالفحامين يأتي إليه كل مساء لشرب الشاي رحمه اللّه تعالى وألحقنا به على الإيمان، آمين”[15].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

▪ الإحالات والتعليقات :

[1] عباس خضر، خطى مشيناها، (دار المعارف. القاهرة. 1977). ص.168-170

[2] مولاي عبد الحفيظ، سُلطان المغرب (1908 – 1912)، غير أنّ امتداح “البرنس” له وقع بعد أن تنازل عن المُلْك، والمُؤكّد أن ذلك جرى لَمّا زار السلطان المغربي السابق مصر والبلاد المشرقية سنة 1913م.

[3] عبد اللّه حبيب، المغفل وقصص أخرى .. (صور من الحياة المصرية)، نشر مكتبة الوفد. القاهرة. 1930م، ص. 155-159

[4] مصطفى صادق الرافعي، على السفود .. نظرات في ديوان العقاد، (ط. دار المنهل. 2016) ص.238-239

[5] زكي مبارك، وحي بغداد، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. القاهرة. 2011. ص.22

[6] قاسم بك محمد الحلو: كان من كبار تُجّار القاهرة، وهو من أصل مغربي. وفضلا عن شهرته في ميدان التجارة كان له، ولولده محمد أفندي الحلو، اهتمام بالعلم والمعرفة، وقد طُبعت على نفقتهما بعض الكتب التراثية.

[7] يُريد ضربا من النِّعال لا يزال المغاربة يلبسونه إلى اليوم وهو الذي يسمى “البلغة” .. بتقديم اللام على الغين، .. ولكن الشاعر الساخر دأب أن يُحَرِّف الكلام كعادته .. فصارت في مَنطقه ومنطوقه رديفة للدّابة: “بغلة”.

[8] توفيق حبيب، أبو جلدة وآخرون، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة – القاهرة. 2015. ص. 69-72

[9] محمد رجب البيومي، طرائف ومسامرات، دار القلم. دمشق. الطبعة الأولى 1431هـ/ 2001م، ص.206-207

[10] محمد رجب البيومي، طرائف ومسامرات، ص.209-210

[11] مصطفى رجب، شعراء الفكاهة المعاصرون، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع – كفر الشيخ / الإسكندرية. 2008. ص. 95-101

[12] ديوان الأسمر، دار إحياء الكتب العربية. القاهرة. 1945. ص. 399 – 408

[13] تافيلالت : مدينة في جنوب المغرب.

[14] كان مؤتمر الخلافة قد عُقد في القاهرة يوم 13 ماي سنة 1926م (1345هـ).

[15] الشيخ عبد العزيز بن الصديق الطنجي، السفينة، الجزء الأوّل، ص. 217-220 (مخطوط خاص)

 

 

 

 

ذات الصلة وظائف

التذكرة المغلقة.. إجراء موحّد بجميع الموانئ المغربية والإسبانية لضمان انسيابية عملية مرحبا 2025
آخر الأخبار

التذكرة المغلقة.. إجراء موحّد بجميع الموانئ المغربية والإسبانية لضمان انسيابية عملية مرحبا 2025

3 سبتمبر 2025 |
وزارة التشغيل تعتمد خطة جديدة لمواجهة البطالة
آخر الأخبار

وزارة التشغيل تعتمد خطة جديدة لمواجهة البطالة

10 يناير 2025 |
الداخلية تدخل على خط فوضى التاكسيات
آخر الأخبار

الداخلية تدخل على خط فوضى التاكسيات

10 يناير 2025 |
اجتماع لتنزيل أسس عمل مجموعة توزيع الماء والكهرباء
آخر الأخبار

اجتماع لتنزيل أسس عمل مجموعة توزيع الماء والكهرباء

10 يناير 2025 |
المناظرة الوطنية الثانية للجهوية الموسعة: جهوية بطعم  مغربي
آخر الأخبار

المناظرة الوطنية الثانية للجهوية الموسعة: جهوية بطعم مغربي

10 يناير 2025 |
طنجة.. المعرض الجهوي للصناعة التقليدية يحتفي بالموروث الثقافي للحرف المغربية الأصيلة
آخر الأخبار

طنجة.. المعرض الجهوي للصناعة التقليدية يحتفي بالموروث الثقافي للحرف المغربية الأصيلة

10 يناير 2025 |
مرحلة ما بعد القادم
المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء

المبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أحدث المقالات

  • التذكرة المغلقة.. إجراء موحّد بجميع الموانئ المغربية والإسبانية لضمان انسيابية عملية مرحبا 2025
  • وزارة التشغيل تعتمد خطة جديدة لمواجهة البطالة
  • الداخلية تدخل على خط فوضى التاكسيات
  • اجتماع لتنزيل أسس عمل مجموعة توزيع الماء والكهرباء
  • المناظرة الوطنية الثانية للجهوية الموسعة: جهوية بطعم مغربي

POPULAR NEWS

صورة: سلمان الطويل

عمر العالمي طموح متسابق لا تحدها السماء..

21 يونيو 2022 |
الدكتورة نبوية العشاب: تحقيق علمي دقيق للجزء الثاني من “رياض البهجة”

الدكتورة نبوية العشاب: تحقيق علمي دقيق للجزء الثاني من “رياض البهجة”

8 أغسطس 2022 |
مجموعة “أركيوس” تعرض أحدث تكنولوجيات الطباعة الرقمية الحديثة.

مجموعة “أركيوس” تعرض أحدث تكنولوجيات الطباعة الرقمية الحديثة.

26 مارس 2022 |
وزير الثقافة في لقاء تواصلي مع اتحاد الناشرين المغاربة…

وزير الثقافة في لقاء تواصلي مع اتحاد الناشرين المغاربة…

31 ديسمبر 2021 |
الطقطوقة الجبلية أهازيج شاهدة على العصر

الطقطوقة الجبلية أهازيج شاهدة على العصر

29 ديسمبر 2021 |

EDITOR'S PICK

خطأ ملعب العبدي مفيد في مساري الرياضي

خطأ ملعب العبدي مفيد في مساري الرياضي

23 نوفمبر 2021 |
هذه النماذج تسير كرة القدم المغربية !

هذه النماذج تسير كرة القدم المغربية !

23 نوفمبر 2021 |
التشكيلية وفاء مزوار تعرض أعمالها الفنية بطنجة

التشكيلية وفاء مزوار تعرض أعمالها الفنية بطنجة

21 نوفمبر 2022 |
أبرز خلاصات الإنتخابات التشريعية المغربية .. تقدم و تراجع .. و يبقى المقاطعون أسياد الموقف

أبرز خلاصات الإنتخابات التشريعية المغربية .. تقدم و تراجع .. و يبقى المقاطعون أسياد الموقف

23 نوفمبر 2021 |
  • من نحن ؟
  • هيئة التحرير
  • الجريدة PDF
  • للإعلان على موقعنا
  • إتصل بنا

كل الحقوق محفوظة - جريدة طنجة 24| إتصل بنا | سياسة الخصوصية | خريطة الموقع | مساعدة؟

أي نتيجة
عرض كل النتائج
  • الرئيسية
  • آخر الأخبار
    • أخبار محلية
    • أخبار الجهة
    • شؤون و قضايا
    • أخبار وطنية
  • مجتمع
  • فن و ثقافة
  • سياسة
  • الجريدة PDF
  • رياضة

كل الحقوق محفوظة - جريدة طنجة 24| إتصل بنا | سياسة الخصوصية | خريطة الموقع | مساعدة؟