محمد الخراز
شهدت العلاقات المغربية الفرنسية مؤخرا توترا لا يخفى على أحد, ويتجلى مظهره في حدة الغضب الشعبي المغربي تجاه فرنسا باستمرار هذه الأخيرة في التعنت والتأخير في منح الفيزا للمغاربة دون أن تقدم حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تفسيرات واضحة بشأن التأشيرات, ولم تقف عند هذا الحد بل واصلت باريس رفض طلبات التأشيرات المقدمة من طرف مواطنين مغاربة من بينهم أطر عليا وفنانون وأطباء وسياسيون, وقد جاء هذا الطرح تنفيذا لقرار فرنسي سابق في شأن تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة بنسبة 50% والجزائريين 50 % والتونسيين 30 % ردا على رفض هذه البلدان إعادة مواطنيها الذين لا يتمتعون بوضع قانوني في فرنسا.
وفي مقابل ذلك فقد اثار تشديد السلطات الفرنسية منح التأشيرات للمواطنين المغاربة حفيظة نشطاء طالبوا الحكومة المغربية بالمعاملة بالمثل عن طريق فرض التأشيرة على الفرنسيين لدخول المغرب,
وقد عرف مجلس النواب المغربي عدة أسئلة وجهها البرلمانيون للحكومة من أجل السير في نفس الاتجاه وحثها على حل لهذا المشكل القائم بين البلدين.
وتبعا لذلك فقد أقدمت الحكومة المغربية إلى انتقاد القرار الفرنسي في موضوع خفض عدد التأشيرات, نافية عدم التعاون مع باريس في ملف القاصرين المغاربة ذوي الأوضاع غير القانونية, وردت سبب البطء في إرجاعهم إلى العقابيل الإدارية والقضائية.
وأشار المراقبون أن هذا التوتر يرجع أساسا إلى غياب تبادل لزيارات مسؤولين كبار بين البلدين خلال الفترات الأخيرة, وانعدام اللقاءات الرسمية بين الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ الشهور الماضية, على الرغم من كون الملك كان يتواجد في فرنسا من اجل العلاج, أضف إلى ذاك إعلان ماكرون عن زيارته للجزائر مع عدم وجود بوادر عن أية زيارة للرئيس الفرنسي إلى المغرب.
هناك أسباب أخرى اعتمدها مروجو نظرية الازمة بين المغرب وفرنسا بتسجيل الموقف السلبي لباريس حول قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء في دجنبر 2020, حيث يرى المغرب أن هذا الموقف لم يرق إلى مستوى الدعم الكامل لملف الصحراء المغربية, على الرغم من كون المغرب حافظ في جوهره على تأييد الطرح الذي يقدمه لحل النزاع المتمثل في الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية.
ويرى بعض المحللين ان مسألة التوتر بين البلدين تدخل من باب التخمينات الإعلامية أكثر من غيرها, وتقوم على أسس ومظاهر عدة, منها استثناء المغرب من جولة الرئيس الفرنسي التقليدية بعد فوزه في الانتخابات, حيث قادته إلى دول إفريقية جنوب الصحراء ثم الجزائر, واعتماد تخفيض التأشيرات الفرنسية للمواطنين المغاربة, وعدم التحاق باريس بركب واشنطن في ملف الصحراء أضف إلى ذلك الأزمة التي طرأت حول التعاون الأمني بين البلدين, كما أن هناك ملف مزعوم في منافسة مغربية للنفوذ الفرنسي في إفريقيا, اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
واعتبر الأخرون أن فرنسا انشغلت بأزمة الغذاء التي تلوح بحدة في الأجواء الإفريقية على خلفية الحرب الدائرة بين روسيا و أكرانيا, لذلك ركز الرئيس الفرنسي على الدول التي تواجه فيها فرنسا توسعا روسيا وصينيا, مع أنه في الظروف العادية كان المغرب هو الواجهة الأساسية لفرنسا, وأن العزوف المحدث ما هو إلا نتيجة لتقلبات الأوضاع السياسية والاقتصادية بسبب الحرب.
إن زيارة ماكرون للجزائر لا يمكن أن تشكل تحولا في الموقف الفرنسي ببساطة إزاء المغرب, لأن الرئيس الجزائري هو الذي بادر بتوجيه الدعوة إلى نظيره الفرنسي, مما كان سيسبب إحراجا أو أزمة لو لم يستجيب ماكرون لها, كما ان هذه الزيارة ترجع أساسا إلى أزمة الطاقة, وإلى خلفية ابتزاز روسيا للدول الأوربية بخصوص الغاز, وإغلاقها المتكرر لأنبوب ”نورد ستريم 1 ” بدعوى أن هناك أسبابا تقنية لمنع الإمداد, وبالتالي أصبحت فرنسا وأروبا معها تسعى كلها للبحث عن البدائل والجزائر واحدة منها.
أما بخصوص تخفيض عدد التأشيرات إلى النصف, فهم يرون أن القرار لا يخص المغرب وحده, بل هو إجراء اتخذته الحكومة الفرنسية وطال الجزائر وتونس, وقد أعطت الخارجية الفرنسية تبريرات على ذلك بتوقف الدول عن استقبال المهاجرين السريين الذين لا تتوفر فيهم بعض الشروط, حسب الخارجية المغربية فإن تلك الشروط مرتبطة بعدم استيفاء الإجراءات الصحية لجائحة ‘كوفيد19’ ومع ذلك يبقى المغرب أول بلد في إفريقيا من حيث عدد التأشيرات الفرنسية الممنوحة لمواطنيه.
وهكذا يبدو ان فرنسا وإن لم يرقى موقفها إلى الاعتراف الرسمي المباشر بسيادة المغرب على الصحراء فإنها كانت دائما حليفا للمغرب في جل معاركه الدبلوماسية على مستوى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي, وأن عدم اعترافها المباشر بمغربية الصحراء يعود إلى تكتيكات خاصة, حفاظا على مصالحها الكبرى في حقول النفط والغاز الجزائرية لا غير, بدليل أن التعاون الأمني والاستراتيجي بين الطرفين مازال قائما وأن مايتوج هذا الارتباط تلك المناورات العسكرية التي جرت بينهما مرتين خلال هذه السنة في المنطقة الشرقية المحاذية للجزائر وأعطي لها اسم ‘عاصفة الشرق’ .
أما فيما يتعلق بمنافسة المغرب لفرنسا في إفريقيا من حيث الاستثمار فلا يعدو ان يكون من قبيل الاستثمارات التي مازالت في بدايتها ولا تشكل تهديدا حقيقيا لفرنسا مثل الذي تشكله الصين أو تركيا أو الولايات المتحدة الامريكية أو اليابان, وغيرها من القوى التقليدية او الصاعدة, على اعتبار أن من اهم المجالات التي دخلها المغرب هي صناعة الأسمدة انطلاقا من الفوسفاط, وهو مجال لا تتنافس فيه فرنسا مع المغرب, كما أن هناك تنسيقا وتعاونا بينهما في عدد من القطاعات الموجهة نحو إفريقيا ولاسيما فيما يتعلق بالبنوك والتأمينات.
وعليه لا يمكن الحديث عن قيام أزمة بين البلدين, خاصة وأن فرنسا تعتبر الشريك الاقتصادي الأول للمغرب إلى جانب إسبانيا, كما ان الحجم التراكمي للاستثمارات الخارجية الفرنسية المباشرة بالمغرب مازال يحتل الرتبة الأولى حاليا, من هنا نتأكد أن هذا المؤشر وحده إلى جانب المناورات العسكرية والتعاون الأمني كفيلان بإبعاد المزاعم القائلة بوجود أزمة بين المغرب وفرنسا, غير أنه يمن القول أن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء فقد فقدت السلطات الفرنسية ورقة ضغط كالتي استخدمتها للحصول على صفقة مهمة كصفقة قطار فائق السرعة الرابط بين طنجة والدار البيضاء.
لكن يبدو أن هناك تخوف فرنسي كبير من التفاوض الذي أجراه المغرب مع الصين بخصوص إنجاز مشروع خط القطار فائق السرعة الرابط بين مراكش وأكادير, وازداد تخوفها من رسو الصفقة على شركات صينية, الامر الذي جعل فرنسا تمارس ضغوطا قوية من خلال ورقة تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة لكي تستحوذ على هذه الصفقة.
وقد مرت العلاقة المغربية الفرنسية بفتور سياسي منذ إعادة انتخاب ماكرون بحيث لم يتم بين هذا الأخير والملك محمد السادس أي لقاء رسمي أو خاص معلن, ومما ساهم في البرود الدبلوماسي أيضا ما وقع تداوله في الأوساط السياسية والإعلامية المغربية خلال السنة الماضية بعد التدوينة التي أثارتها السفيرة الفرنسية في الرباط هيلين لوغال كشفت فيها عن تقديم رئيس اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي شكيب بن موسى تقريرا مرحليا عن عمل اللجنة بتسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين المغرب وفرنسا في وقت وصل الغضب الذي أثارته التدوينة إلى حد اعتبار ما حصل تدخلا سافرا في السيادة المغربية, حيث طرحت أسئلة عن السر وراء سعي الدبلوماسية الفرنسية إلى التسبب في إحراج الدولة المغربية.
وقد أعادت التدوينة إلى الأذهان ذلك الغضب الذي أثارته سابقتها صادرة عن الرئيس الفرنسي ماكرون خلال السنة الماضية لما طالب فيها السلطات المغربية بصيغة الأمر ‘القيام بما هو ضروري في أقرب وقت لنقل الفرنسيين العالقين في المغرب’ بعد القرار الأخير لإغلاق الحدود عقب تفشي فيروس كرونا في البلاد, وحينها كان لافتا اعتراض المغاربة على الطريقة التي كتب بها الرئيس الفرنسي تدوينته, إذ اعتبروا أن فيها الكثير من التعالي وتفتقر للغة الدبلوماسية التي يجب أن يتحدث بها رئيس دولة لدولة أخرى.
ومهما كانت دوافع الرئيس الفرنسي وسفيرته في الرباط, إلا أن العلاقة الفرنسية المغربية عرفت توثرا صامتا منذ السنة الماضية, تحول فيما بعد إلى حرب باردة تدور رحاها على جبهات عدة اقتصادية وسياسية ودبلوماسية.
وخلا السنة الحالية, خصص البرلمان الفرنسي جلسة مناقشة لموضوع : ‘حصيلة تحركات فرنسا من أجل احترام القانون الدولي وقضية الصحراء’ وهذه الجلسة تمت بدعوى من الفريق النيابي لليسار وجرت بحضور ممثلي عن جبهة البوليساريو.
وأثناء انعقاد هذه الجلسة أكد جون بابتيست لموين كاتب الدولة الفرنسي في السياحة أن بلاده تدعوا إلى حل سياسي توافقي بين أطراف النزاع يساند إلى مقررات الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي, وشدد المسؤول الفرنسي على تقيد السياسة الأوربية لمقررات محكمة الدولة الأوربية فيما يتعلق بعدم سريان اتفاقية الشراكة المغربية الأوربية على الصحراء, ولم يتطرق المسؤول الفرنسي إلى دعم بلاده التقليدي في مجلس الأمن الدولي لمقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع في الصحراء المغربية.
وهكذا أصبحت النبرة الفرنسية إزاء ملف الصحراء في الأونة الأخيرة تتسم ببرودة ملحوظة, مقارنة بمواقف فرنسا الداعمة تاريخيا للمغرب عسكريا ودبلوماسيا, وهي مواقف كانت موضوع انتقادات لاذعة من الجزائر وجبهة البوليساريو.
لكن هناك أمورا لها صلة بتداعيات االإتفاق الثلاثي المغربي الإسرائلي الأمريكي, فمنذ توقيعه تعمقت الشراكة الاستراتيجة والأمنية بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عبر اتفاقيات استراتيجية ومناورات عسكرية مشتركة واقتناء المغرب للسلاح الأمريكي والإسرائيلي لتصل الشراكة بينهم إلى تطوير صناعات عسكرية مشتركة, وهو ما أدى إلى بناء تحالف أمني واستراتيجي جديد, كل هذا تم في غيبة الشريك التقليدي فرنسا التي تعتبر منطقة الشمال الإفريقي هي منطقة نفوذها بدون منازع.
ومع هذا وذاك ارتفعت حدة التوتر بين المغرب والجزائر بسبب ملف الصحراء, ورغم تزايد مخاطره على أوربا اتسمت سياسة هذه الأخيرة إزاءه بتضارب ملحوظ وظهرت مؤشرات على عجز أوربا سواء كتكل أو كدول رئيسية منفردة على القيام بدور مؤثر في تسوية النزاع بجوارها الجنوبي يكاد يتحول إلى حرب مدمرة ستكون لها أثار وخيمة على الامن الأوربي واستقراره.