أمل عكاشة
“زمن بلا يقين، حياة مضطربة: صياغة مستقبلنا في عالم يتحوّل” عنوان صادم مخيف، يطبع تقرير التنمية البشرية الأخير لسنة 2021/ 2022، الصادر مؤخرا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
التقرير الدولي، الغني عن البيان، يشكل معيارا بليغا عن عدة مؤشرات حيوية وأساسية للسياسة الدول تجاه مواطنيها، تضعها في محك وتنافس، ابتغاء حفظ ماء الوجه تارة ومخافة فضح المعطيات والإحصائيات المغلوطة التي تنوّم بها شعوبها، تارات عدة.
وتكمن أهمية المؤشر، في ارتباطه بالإنسان أولا وأخيرا، إذ يرتكز واضعوه أساسا على اعتبار الوضع الاجتماعي للمواطنين هو المعيار الحقيقي لتقييم مستوى التنمية في أي بلد، بحيث لا يتم الاقتصار على مستوى النمو الاقتصادي، وإنما يأخذ في الحسبان مجموعة مؤشرات.
ومن راهنية التقرير، تشكله من تركيبة ثلاث مؤشرات فرعية، تمزج بين الاقتصادي والاجتماعي وتغطي أبرز وأهم مظاهر المواطنة، وتضم؛
ـ ناتج الدخل القومي الإجمالي للفرد، وهو ناتج مجموع قيمة السلع والخدمات التي تم إنتاجها محليا، يضاف له صافي المداخيل الآتية من الخارج، مقسوم على مجموع عدد السكان.
- أمد الحياة عند الولادة: ويشكل مؤشرا يعكس مدى توفر المواطنين على الخدمات الصحية وعن وضعيتهم الصحية بشكل عام.
- مستوى التعلم: ويعطي هذا المؤشر فكرة عن مدى حصول المواطنين على المعرفة، وبالتالي مدى إمكانيتهم للاندماج والتطور..
المغرب والعالم العربي:
تدني معدلات التنمية، ليس شأنا عربيا ولا إفريقيا، كما يروج غالبا، إذ تنعم كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت وسلطنة عمان بمعدلات مرتفعة جدا في التنمية البشرية، كما تتصدر الجزائر ومصر وتونس وليبيا ولبنان قائمة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة، فيما تقبع العراق والمغرب وسوريا وموريتانيا في زمرة الدول متوسطة التنمية.
وتنبغي الإشارة إلى أن المغرب ظل وفيا لمسلسل الانحدار في معدلات التنمية البشرية، ويكفي التذكير أنه أحرز الرتبة 120 سنة 2019، ثم 121 سنة 2020، والآن نحن أمام معدل جديد، يعطينا الرتبة 123 من بين 191 دولة مشاكة.
ويرجع الخبير الدولي في مجال التنمية البشرية، محمد السريفي، أسباب تدهور المؤشر المغربي أولا إلى إعدام أدوار الشباب في الانخراط في التنمية، هؤلاء الذين يمثلون قرابة الثلث من البنية السكانية، يقبع ثلثهم في حالة ” Neet’s” بحيث لا دراسة، لا مهنة ولا تكوين.
ويضيف السريفي فيما يخص إهدار ثروة الشباب بالمغرب، أنه إذا ما نظرنا إلى تاريخ المجتمعات التي حققت مسارا في التنمية، نجد أن الشباب كان محور قفزتها النوعية، إذ استغلت طفرة الهرم الديمغرافي لبناء طفرة نوعية في الوعي والإنتاج والتغيير المجتمعي..
وإسقاطا على الواقع المغربي، يبدو أن الثروة التي يعول عليها لتحقيق التغيير هي معطوبة بالأساس، ويزيد من تفاقم وضعها آفة الهدر المدرسي الذي يسجل سنويا بين 350 و400 ألف تلميذ (ة).
ومن جانب آخر، يرجع محمد السريفي مسببات التدني في التنمية البشرية إلى معظلة الأمية، التي تنخر 32,7 بالمئة من الساكنة، يوجد منها أكثر من 60 بالمئة في العالم القروي، الأمر الذي يعيق أي إمكانية للاندماج في العملية الانتاجية أو في التنمية بشكل عام.
وعلى مستوى مواز، يشير الخبير إلى إشكاليات التفاوتات المجالية والتمييز والحيف في فرص التنمية التي تطال العالم القروي، حيث ما يزال بالمغرب ما يقارب نصف الساكنة تعيش بالقرى، محرومة من الطرق، الماء، التمدرس، التثقيف والتكوين.. ما يجعلهم خارج أي سياق للتنمية الحقيقية، بل على العكس، يُعتبرون كخزان يحافظ على الاستقرار السياسي ويدفع باستمرار التوازن العام للدولة الذي يضمن استمرارية التحكم والسيادة.
أما في أفق الحل، فيرى الخبير أنه ينبغي الإنطلاق من مخططات وبرامج مستعجلة، تجسد الإرادة من أجل التغيير، ويؤكد، ليس تغيير فحسب، وإنما التغيير الذي يعبر عن “قلق” حيقيقي، يصب في تمكين المرأة والشباب من التنمية، ويحقق توزيعا عادلا للثروات..
تدهور عام: العالم يترنح بين أزمة وأخرى
ما فتئ التقرير يكشف، بكل وضوح وجرأة، أنه للمرة الأولى منذ 32 عاما، يتكرر انخفاض مؤشر التنمية البشرية على مستوى العالم لمدة عامين متتاليين.
ويضيف التقرير أن تراجعا عاما حل بمستوى التقدم الاضطرادي الذي شهده المؤشر منذ 1990، بحيث شهد تراجعا بداية من سنة 2019 ليصل إلى المعدل الذي كان عليه في سنة 2016، لينعكس ذلك مباشرة على التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة لمخطط الأمم المتحدة، لمستقبل أكثر عدلا للناس والكوكب، في أفق سنة 2030.
كما يظهر أن 87 بالمئة من البلدان انخفض معدلها في التنمية سنة 2020، مقابل 51 بالمئة سنة 2021، والمثير في الحسبان، أنه سنة الأزمة العالمية الاقتصادية 2009، لم تتأثر إلا 20 بالمئة من الدول، ليعود معدل للاستقرار في 8 بالمئة في السنة الموالية.
وحول المسببات، يعتبر التقرير أن كلا من الجائحة العالمية والغزو الروسي لأوكرانيا تتصدران قائمة الأحداث التي تسببت في حدوث الاضطراب العالمي الكبير، معتبرا أن الأزمات المتعددة تعيق التقدم في مجال التنمية البشرية، مما يرسم صورة لمجتمع عالمي يترنح بين أزمة وأخرى ويخاطر بالاتجاه نحو تزايد الحرمان والمظالم.
عقدة عدم اليقين: الطبيعة تنتفض
لم يكن التقرير العالمي محض كشف لمؤشرات وتصنيف للدول، وإنما دق ناقوس الخطر لما يمكن أن يأتي في المستقبل، حيث اعتبر صراحة أن الاضطراب العالمي الذي سببته الجائحة لا يعد شيئا مقارنة بما سيشهده العالم إذا حدث انهيار في التنوع البيولوجي، وأقر بأنه و“لأول مرة في تاريخ البشرية“، تلوح تهديدات وجودية من صنع البشر في الأفق “بشكل أكبر من تلك الناجمة عن الأخطار الطبيعية“.
وفي سبيل الحل والتجاوز، يقول معدو التقرير إنه “بقى أمامنا نافذة ضيقة لإعادة تهيئة أنظمتنا وتأمين مستقبل مناخي يوفر فرص متجددة للجميع”، وذلك بالاعتماد على تقوية حماية الأفراد، من خلال خطة ثلاثية الأبعاد، ترتكز على توجيه الاستثمار إلى الطاقات النظيفة، إلى جانب النهوض بجوانب الحماية الاجتماعية وما تتطلبه من سياسات قطاعية موازية، ثم تحفيز الابتكار الذي يسمح بالتأقلم وتعزيز الإنتاج والفعالية.
ونختم بما قاله بيدرو كونسيساو من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمؤلف الرئيسي للتقرير في تصريح منشور بصفحة الأمم المتحدة؛ “من أجل التغلب على حالة عدم اليقين، نحتاج إلى مضاعفة جهودنا في مجال التنمية البشرية والنظر إلى ما يتجاوز تحسين ثروات الناس أو صحتهم، فهذه الجوانب تظل مهمة، لكننا يتعين علينا أيضا أن نحمي الكوكب ونزود الناس بالأدوات التي يحتاجون إليها ليشعروا بقدر أكبر من الأمان، وليستعيدوا الشعور بالسيطرة على حياتهم والأمل في المستقبل.”