لمياء السلاوي
نعيش اليوم في زمن الفتن والمشاكل والخروقات، لذا من البديهي أن يبحث المرء عن الحلول والمخرجات، ويكون شغله الشاغل البحث عن تفسير منطقي لما يسميه الكثيرون ب”سوء الحظ”، إذ قلما نجد شخصا لا يشكي ويبكي حاله ويعدد هذه “العكوسات” التي تؤرق ليله وتعتم نهاره.
مؤخرا صرنا نسمع كثيرا عن الرقية الشرعية وكيف أنها أضحت السبيل المثالي الوحيد للقضاء على هذه المشاكل وتطهير النفس من الشرور وعبث الشياطين، صار الكل يتحدث عن فعالية الرقية الشرعية المعاصرة وبراعة الرقاة وضرورة قصد أحدهم، لكن ألا ينبغي أن نقف قليلا عند هذه الظاهرة ونخول لأنفسنا حق طرح مجموعة من الأسئلة: لماذا الرقية الشرعية؟ وما علاقتها بالشرع؟ وهل لها ضوابط وحدود؟ وكيف يصير المرء راقيا “شرعيا”؟.
انتشرت عبارة الرقية الشرعية لدرجة كبيرة، لكن نادرون أولئك الذين يفهمون معناها ويدركون علاقتها بالدين والدنيا، فعوض أن يذهب المرء إلى الصلاة وقراءة القرآن والأذكار والأوراد، وملأ الفراغ بالرياضة والمطالعة وممارسة الهوايات النافعة، للتخلص من كدر الدنيا وأوبئتها، يرمي بثقل أعماله على الرقية والرقاة. أصبح في كل مشكلة سواء كانت صغيرة أو كبيرة يسارع إلى الرقية الشرعية، فمن تأخر في الزواج ومن لم يتوفق في الحصول على العمل ومن خسر فريقه الكروي الذي يحبه حتى النخاع ومن فشل في دراسته و من غلبه النعاس ولم يذهب إلى عمله و من لديه هلاوس برؤية الجن مثلا، الحل هو الرقية الشرعية، دون أن يكلف أي أحد منهم نفسه عناء التفكير في حل واقعي أو التوقف للتفكير والنظر فيما يعيشه إن كان يستحق ذلك أم لا! ربما يكون علاجه من بعض الأعراض بيد طبيب نفسي، و الا لماذا هذا التخصص؟ لكن، لا حياة لمن تنادي، خصوصا عندما غزا هؤلاء الرقاة مواقع التواصل الاجتماعي، فلا تخلو صفحة من مقترحات لرقاة مغاربة يضعون فيديوهات و هم ييرقون أشخاصا لطرد الشيطان و الجن منهم، قمة الغباء…
حينما نحى الأمر هذا النحو، تفشت هذه الظاهرة واستفحلت حتى صار من النادر ألا تسمع شخص يسألك عن الرقية، ويترواح استفساره بين سؤالين: هل تأخذ حصصا في الرقية؟ ومهما كانت الإجابة سيضيف السؤال الثاني: هل تعرف راقيا جيدا؟ بل يمكن أن يستمر ويعرض عليك “أمهر” و”أشهر” الرقاة داخل المغرب وخارجه. وبما أن الأمور تطورت بهذه السرعة، أصبحت الرقية الشرعية فرصة على طبق من ذهب استغله الكثيرون فسموا أنفسهم رقاة شرعيين لتصبح عندهم حرفة يحترفونها ومهنة يمتهنونها وتجارة يتاجرون فيها..
يكفيك أن تترك لحيتك تنمو وتتجاوز ذقنك قليلا، وأن تلزم ارتداء الجلابيب أو “القنادير”، وتتصفح وريقات من “الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار” أو “وقاية الإنسان من الجن والشيطان”، وتستمع لبعض أشرطة الرقية الشرعية من اليوتيوب، وتسمي نفسك إسما مركبا على وزن “فلان أبو علان”، وتشتري محفظة تضع فيها ميكروفونا وإناء مملوءا بماء ممزوج بأوراق شجر معينة، وتذيع عملية صرعك للجن أو تنقلها بالبث المباشر من صفحتك على الفاسبوك، وها أنت ذا راقي مشهور يذيع صيتك بين من يتلهف على أخذ الحصص في ذلك.
إننا في هذا الموضوع لا أود مناقشة مشروعية الرقية الشرعية لأن هذا أمر مفروغ منه، بل إنه لا يخفى على الجميع أن الرقية مستمدة ومأخوذة من الدين، ومن ثمة فنحن نسلم بها كوسيلة رئيسة للعبادة أولا قبل الشفاء، فالرقية عمل شريف الهدف منه تحصين النفس بالأذكار والأدعية وإعانة المسلمين بعيدا عن الشعوذة والخرافات،
إن التصور الحقيقي والمعنى الأصلي للرقية الشرعية قد حرف وأضحت تعني التجارة بعد أن كانت في الأصل تعني العبادة، حتى أن الأمر تجاوز حدوده فعليا حين أصبح الرقاة لا يتنافسون فقط على جلب الزبائن، بل وصل بهم الأمر إلى الشجار و سب بعضهم البعض وسفك الأعراض وانتهاك الحرمات فيما بينهم، ليكون هذا هو السبب الفعلي لكتابة هذا الموضوع المتواضع لأحدد من خلاله بعض الأخطاء والمخالفات الشرعية التي سأضعها في ميزان الشرع والعقل.
إن ما نراه اليوم من رقاة آخر الزمان يخالف أهم ما جاء في محددات الرقية الشرعية الحقيقية التي ترتكز على ثلاثة شروط: أولها أن تكون الرقية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والثاني أن يكون الكلام باللغة العربية الفصحى، و الثالث ألا يعتقد الراقي والمرقي معا أن الرقية الشرعية تشفي بذاتها، وهذا ما ذكره الحافظ بن حجر العسقلاني في كتابه “فتح الباري في شرح صحيح البخاري’، (بغض النظر عن اعتقاد الناس في صحيح البخاري و الأخطاء الكثيرة التي وجدت في هذا الكتاب ما يجعله عند عديد من المسلمين من الكتب الضعيفة و لا يجب الاستناد اليها)، هنا الراقي والمرقي معا يضربان بهذه الشروط عرض الحائط ويصير الشفاء هو الرقية والرقية هي الشفاء.
من المخالفات الشرعية في هؤلاء المحتالين ادعاؤهم القدرة على الشفاء وصرع الجن، وإقحام انفسهم فيما لا يحمد عقباه، إذ إن عالم الجن يدخل في عالم الغيب، وعالم الغيب بدوره مقصور على الله عز وجل دون غيره، وبالتالي عندما يتأخر المريض في شفائه ويظل مسكونا بالجن، يتساءل ذووه عن سبب خروج الجن مثلما وعدهم الراقي، ليدخل هذا الأخير في دوامة من التبريرات الفارغة، كما يقومون بتحديد عدد الحصص للمريض فيقول له: تحتاج حصتين أو ثلاثة أو عشرة… وهذا أمر غير صائب لأن تحديد عدد الحصص يتطلب أمرين: معرفة الراقي بقدرته ومعرفته بقدرة الجن وقوته، ولنفترض جدلا أن الراقي يعرف قوته لكن هل يمكن أن يعلم قدرة الجن؟ وما هذا إلا تحايل ونصب حتى ينمو برقيته التجارية وينجح في ذلك.
و من الشق القانوني نتساءل عن الصبغة القانونية التي يلجأ إليها الرقاة، ونتحدث هنا عن ما يسمى بالمراكز أو الحوانيت، إذ لا نكاد نمنع أنفسنا من التساؤل عن الترخيص الذي أعطي لهم، أو عن الجامعات التي تخرجوا منها، أو الشهادات الأكاديمية التي تثبت كفاءتهم المهنية في ممارسة هذه المهنة، وغير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي حيرت العقول والأفهام. فعلى الدولة خاصة مؤسساتها الدينية أن تضع حدا لهذه الظاهرة التي تفشت بيننا كتفشي النار في الهشيم، و لأن الوضع ينذر بكل سوء ولا يبشر بخير، ومن هنا ندعو إلى نقاش حاسم ونهائي للحد من هذه الظاهرة.
ختاما إنن نتحسر على مجتمع حول الرقية الشرعية من عبادة وذكر، إلى نصب واحتيال بطرائق عصرية وأنيقة، كما نبين أن هذا الموضوع أكبر من أن يحصر في بضعة فقرات، لأن جذوره دينية وامتداداته اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، لذا يصعب حصر جوانبه كلها والتي سنحاول التطرق إليها في مقالات مستقبلية، فمغرب 2022 لم يعد يحتمل هذا ا لجهل، و رواد التواصل الاجتماعي من الأسوياء، لم يعودوا يرغبون في رؤية منشورات أحدهم، فهم يدفعون ثمن الإعلانات و بالتالي أينما تولي وجهك تجدهم أمامك، نتمنى بالفعل أن تستجيب السلطات المغربية لنا، لأن حل هؤلاء بيد السلطة.