أمل عكاشة
تتولى الحكومة، ابتداء من الشهر الجاري، القيام بالمراحل الأولى في إعداد القانون المالي للسنة المقبلة، حيث أعلنت عن تصوره العام وخطوطه العريضة بموجب مذكرة تأطيرية، كشفت عن تبني الحكومة لسياسة “التقشف” من أجل مواجهة التداعيات الاقتصادية العالمية والتحديات الوطنية.
وتطالب المذكرة التأطيرية، من الوزراء، بترشيد ميزانيات التسيير، التي تصرف على تعويضات الموظفين وإحتياجات المرافق الروتينية.. والتي تشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة، إذ شكلت بموجب القانون المالي الحالي، أزيد من 1.5 ضعفا من ميزانية الاستثمار التي تعود بالموارد وتخلق الثروة.
وتمثل تصور رئيس الحكومة في ترشيد نفقات التسيير، أولا عبر الالتزام بضبط نفقات الموظفين، من خلال حصر المقترحات في الاحتياجات الضرورية داعيا إلى العمل على الاستعمال الأمثل للموارد البشرية المتاحة، خاصة باعتماد التكوين وضمان التوزيع المتوازن على المستويين المركزي والجهوي.
كما شدد رئيس الحكومة، في نفس الصدد، على ضرورة الحرص على التدبير الأمثل لهذه النفقات من خلال ترشيد استعمال المياه وتقليص نفقات استهلاك الكهرباء، عبر الحرص على استعمال الطاقات المتجددة، إلى جانب عقلنة النفقات المتعلقة بالاتصالات والتقليص لأقصى حد من نفقات النقل والتنقل داخل وخارج المملكة وكذا نفقات الاستقبال والفندقة وتنظيم الحفلات والمؤتمرات والندوات، وكذا نفقات الدراسات.
أما على صعيد نفقات الاستثمار، وجه رئيس الحكومة كافة الوزراء إلى ضرورة التقيد بإعطاء الأولوية للمشاريع التي توجد في طور الإنجاز، وخاصة المشاريع التي تدخل في إطار الاتفافيات الموقعة أمام جلالة الملك، أو تلك المبرمة مع المؤسسات الدولية والدول المانحة، مشيرا في نفس الوقت، إلى ضرورة الحرص على التسوية المسبقة للوضعية القانونية للعقار، قبل برمجة أي مشروع عليه، بالاستناد إلى مقتضيات قانون نزع الملكية لأجل المنفعة العامة، كما أشار إلى أهمية التقليص إلى أقصى حد من نفقات اقتناء السيارات وبناء وتهيئة المقرات الإدارية..
ومن أبرز وأهم مضامين المذكرة التأطيرية، تبنيها لمعيار يحدد الاستفادة من التمويل بمحددات معينة، ويتعلق الأمر بربط عمليات التحويل المتعلقة بتغطية النفقات الخاصة بالموظفين، بالنسبة للمؤسسات العمومية ومرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة، بمدى تقدم المشاريع الممولة من ميزانيات هذه المؤسسات، وذلك في حالة عدم وجود أرصدة أو موارد كافية في خزينتها.
نفس الأمر يسري على مسألة تعميم التأمين الإجباري عن المرض، حيث يتعين ربط دفع الإعانات لفائدة الأشخاص الذاتيين والمعنويين بالوفاء بالتزاماتهم الاجتماعية، ولا سيما ضرورة الانخراط في نظام التأمين الإجباري عن المرض، والإدلاء بشهادة تثبت دفع المساهمات بشكل منتظم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
أما عن الخطوط العريضة التي وضعتها المذكرة من إجل إعداد قانون الميزانية للسنة المقبلة، فتتمثل في أربعة محددات وهي؛ تعزيز أسس الدولة الاجتماعية، إنعاش الاقتصاد الوطني عبر دعم الاستثمار، تكريس العدالة المجالية واستعادة الهوامش المالية لضمان استدامة الإصلاحات.
تعزيز أسس الدولة الاجتماعية:
ترى المذكرة التوجيهية أن الحكومة ستعمل على تعزيز أسس الدولة الاجتماعية في ميزانية 2023 من خلال استكمال ورش تعميم الحماية الاجتماعية، وذلك عبر اتخاذ الإجراءات اللازمة على المستوى القانوني، المالي والتقني، بما يلزم من توفير الموارد الضرورية لضمان تنزيل هذا الورش، واتخاذ ما يلزم من تدابير لضمان التوازن المالي لمختلف الأنظمة، واستفادة المواطنات والمواطنين من مختلف خدمات التغطية الصحية، بالإضافة إلى تنزيل تعميم التعويضات العائلية وفق برنامجها المحدد، التي سيستفيد منها حوالي 7 ملايين طفل من العائلات الهشة والفقيرة على الخصوص، وثلاثة ملايين أسرة بدون طفل في سن التمدرس.
وتقوم الدولة الاجتماعية حسب تصور الحكومة على مقاربة جديدة، مأسسة على الدعم المباشر، عبر استهداف الفئات المعوزة والمستحقة لهذه التعويضات، بدل المنطق الذي كان معتمدا في البرامج الاجتماعية سابقا، الذي كان يحد من نجاعتها، وفي هذا الإطار، ستعمل الحكومة على الإسراع بإخراج السجل الاجتماعي الموحد، باعتباره الآلية الأساسية لمنح الدعم وضمان نجاعته، إلى جانب مواصلة تأهيل القطاع الصحي، عبر تنزيل مقتضيات مشروع القانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية.
ونظرا للدور المحوري الذي يلعبه العنصر البشري في إصلاح المنظومة الصحية، ستعمل الحكومة على إخراج قانون الوظيفة الصحية العمومية وتفعيل مخرجات الحوار الاجتماعي فيما يتعلق بتحسين الوضعية المادية للأطر الصحية، إذ سيكلف غلافا ماليا يقدر بـ2,2 مليار درهم على مدى سنتين، وذلك ابتداء من فاتح يناير 2023.
من جانب آخر، يتضمن مخطط عمل الحكومة إلتزاما بالجدولة الزمنية التي حددها صاحب الجلالة، فيما يتعلق بالمحورين المتعلقين بتوسيع الانخراط في أنظمة التقاعد، لتشمل الأشخاص الذين يمارسون عملا ولا يستفيدون من أي معاش، وتعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل لتشمل كل شخص متوفر على شغل قار، وذلك في أفق سنة 2025، وموازاة مع ذلك، ستحرص الحكومة على الشروع في تنزيل إصلاح منظومة التقاعد، ابتداء من سنة 2023، وفق مقاربة تشاركية مع مختلف الفاعلين المعنيين.
إنعاش الاقتصاد الوطني عبر دعم الاستثمار:
وفيما يتعلق بالمرتكز الثاني، تعتزم الحكومة الانكباب على تنزيل مقتضيات القانون الإطار بمثابة ميثاق الاستثمار، لا سيما تفعيل آليات دعم المشاريع الاستراتيجية ودعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وكذا دعم المقاولات المغربية التي تسعى لتطوير قدراتها على المستوى الدولي، كما ستعمل على تفعيل التوجيهات الملكية المتعلقة بتسهيل جلب الاستثمارات الأجنبية وإزالة العراقيل أمامها.
كما تعتزم الحكومة مواصلة المجهودات في مجال تحسين جاذبية الاقتصاد الوطني وتحفيز القدرة التنافسية للنسيج الإنتاجي الوطني، من خلال تعزيز الاستقرار والعدالة الضريبية عبر تنزيل مقتضيات القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الجبائي، بما يتطلب من ضمان نظام ضريبي مبسط وشفاف يستجيب للممارسات الدولية الفضلى في المجال الجبائي.
وبالموازاة مع ذلك، تقول المذكرة أن الحكومة ستتولى تسريع الأوراش المتعلقة بإصلاح الإدارة وتبسيط المساطر، عبر إطلاق استراتيجية جديدة للتحول الرقمي في أفق سنة 2030، تهدف إلى رقمنة الخدمات العمومية ووضع أسس انبثاق اقتصاد رقمي يخلق فرص الشغل.
تكريس العدالة المجالية:
في إطار المرتكز الثالث المتعلق بتكريس العدالة المجالية، أعلنت الحكومة أنها ستسعى إلى توطيد الجهوية، لا باعتبارها خيارا دستوريا وديمقراطيا فحسب، وإنما باعتمادها كبديل تنموي أيضا، وذلك للرفع من نجاعة السياسات العمومية وإلتقائيتها على المستوى الترابي، مع التقليص من التفاوتات المجالية فيما يخص الاستثمارات والولوج إلى الخدمات العمومية الأساسية، وبالتالي انعكاس ذلك على التوزيع العادل للثروة بين جهات المملكة.
استعادة الهوامش المالية لضمان استدامة الإصلاحات:
وعلى صعيد استعادة الهوامش المالية من أجل ضمان استدامة الإصلاحات، فترى الحكومة أن الوضع يحتاج لبذل مجهود مالي أكبر ومستدام، مشيرة إلى أنها حرصت منذ تشكيلها على إيجاد التوازن، بين مواجهة الإكراهات الظرفية الراهنة من جهة، وتنزيل هذه الأوراش، مع الحفاظ على التوازنات المالية من جهة أخرى، وأكدت في نفس الصدد على أن المديونية العمومية لبلادنا تبقى متحكما فيها، رغم النفقات الإضافية التي تحملتها ميزانية الدولة.
وخلاصة الأمر، تضع الحكومة نصب أعينها مجموعة من المبادئ لإعداد ميزانيتها، تتوخى من خلالها تنفيذ مخططاتها و”وعودها”، حيث تعتمد خطة تشمل مجموعة من الأهداف القطاعية الموازية، إذ تجمع بين ترشيد النفقات العمومية وعقلنتها، تعزيز موارد الدولة لتمويل السياسات العمومية، التدبير الفعال للمديونية العمومية ومواصلة إصلاح النظام الضريبي، فكيف سينعكس هذا على أرقام مبالغ ميزانيات التسيير والاستثمار والدين؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.