خالد سليكي
منذ طفولتي المبكرة وأنا مهووس بكل ما هو قديم، وكان هذا الهوس ينمو مع تقدم العمر، إلي أن اكتشفت جوطية سيدي بوعبيد… التي قيل لي أنه بيعت فيها إحدى لوحات غويا في أواسط القرن العشرين. ومع هجرتي صار هذا الشغف أشبه بطقس أسبوعي. أزور السوق الذي يقام طوال العام، حتى في أيام الشتاء والبرد والثلوج، في إحدى المدن الصغيرة المجاورة لبوسطن.
أرى الناس يتجمعون حول الملابس والأغراض المنزلية، بينما أهتم بتلك الصناديق المهملة التي لا يقترب منها أحد. كتب، وأغراض صغيرة تكون عادة في دواليب غرفة النوم، وأظرفة قديمة تحتوي على تاريخ مراسلات اصحابها. كلما سألت عن ثمن الصندوق يقال لي إنه “قمامة”! أدفع دولارا أو اثنين كإكرامية مني وأنصرف.
في البداية كنت لاأزال أحتفظ بالهوس الطفولي، وأنتشي بما تصله يدي من قطع ورسائل قديمة، ومذكرات أشخاص أتعبتهم الحياة، وأخري لأشخاص كتبوها في مراكز العلاج النفسي.. وهكذا عثرت على رسالة موقعة بيد كينيدي، ولوحات لفنانين أمريكيين مشاهير، وقصائد شعرية مرفقة بكروكيهات ورسوم أطفال صغار، وكتب مهداة من أمهات إلى أبنائهن في أعياد الميلاد.. ويوم عثرت على دفتر يحتوى على رسومات طفلة روسية مهاجرة في بداية السبعينيات، تغيرت نظرتي تماما وتحول الوله بالقديم والانتشاء بالقديم إلى مشاعر الإحساس بالألم…
هكذا صارت الآحاد مآثم، وأياما تراجيدية بامتياز.
هكذا تغيرت نظرتي إلى الهجرة، وتحولت إلى الإحساس العنيف بالمنفى، خصوصا حين سرقت مني أغراضي وكتبي ومذكراتي وصوري وتاريخي الشخصي. هناك في البيت القديم كان لي شبه مسكن آوي إليه في زمن الجذب والقحط والموت…
هناك في ركن منسي من طنجة تركت أحلامي، وصوري، وملامح أحلام ضاعت بين متاهات شبه أب وزمن مارق.. هناك في الطابق القصي كنت أرتب مستقبلا مجهضا بآلة الدمار… وهناك اعتقدت أن حياتي الصغيرة تأوي في سلم وهدوء ما تبقى من العمر، لكن سارق الأحلام كان يغتصب الصمت ويلتذ بمأساة غيابي. هناك في الركن المتهاوي من الحلم كان رجل يمر على سريري ليجرح أحلامي، ويدمر ما تبقى من روح أسكنتها المكان.. هناك كان يجد الشيطان مأواه ليدنس ويمزق ويلطخ.. هناك كانت تأوي أحلامي الكبيرة بعد أن تتعب من المنفى.. إلى أن اكتشفت أن المآسي التي كنت أحملها معي أيام الآحاد لم تكن إلا صور متعددة لحكاية سرقة يومياتي ومذكراتي وكتبي وصوري ورسوم الطفل الذي استقبله “سارق الأحلام” بعبارة أدركت بعد عشرات السنين معناها الحقيقي… أدركت معنى أن يقول الأب لابنه (وهو أب الرجل الذي هو أب الطفل) : «إن مولودك مشكل كبير ألحقته بالعائلة، فقد أثار بقدومه إلى العالم مشكلة الإرث!”
تصور أن جدا يستقبل حفيدا بهذه العبارة! تصور كيف يصبح الاحتفاء بقدوم مولود إلى هذا العالم إلى مشكلة إرث!
يا لنذالة الواقع الموبوء..
يا رحول!
لقد رحل الجميع عنك، وستتعبك كتبي وصوري وألواني..
لقد رحلت بعد أن تخلصت من وجودك بداخلي.. وتخلصت من تعب وجودك في حياتي كلها…
واعلم أن لأشيائي الصغيرة أرواح ستنوب عني خلال رحلة الصمت والمنفى..
واعلم يا رحول للمنافي حيوات.. وإن لأحلامي تضاريس لن تعرفها…