الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، إلى يوم الدين.
أما بعد: عن أَنَسُ بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأصحابه: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ، فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا). البخاري:9/95، رقم:7294.
معاشر القراء: إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدركوا أهمية العلم، ولذلك فقد سعوا في تلقي العلم بوسائل متعددة، ومنها السؤال؛ فقد كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسئلةً تدُلُّ على عمق علمهم، وشدَّة تعلُّق نفوسهم بالآخرة، فإن من يسأل عن شيءٍ، فإنما يسأل عما يهتمُّ به، فمن يتدبُّر أحوال الصحابة -رضي الله عنهم-، يطَّلَع على عِظَمِ اجتهادهم في طلب النجاة، وحرصهم على بلوغ الدرجات العالية، فعن عَبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: “مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-…، ما كانوا يسألون إلَّا عمَّا ينفعهم”. أخرجه الدارمي في سننه:1/244.
فهذا يسأله عن أركان الدين، وهذا يسأله عن عمل يُقرِّبُهُ من الجنة ويُبعِدُه عن النار، وهذا يسأل عن العمل الذي إذا عمله أحبَّه الله، وأحبَّه الناس، وهذا يقول: يا رسول الله أوصني، وهذا يقول: يا رسول الله: قُل لي قولًا لا أسأل عنه أحدا غيرك، إلى غير ذلك…
وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على السؤال والتعلم، لكنه كان يحذرهم من كثرة السؤال عن الأمور التافهة التي لا تزيد علما، ولا تزيل جهلا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما– قَالَ: “كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم– اسْتِهْزَاءً ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟، وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ، أَيْنَ نَاقَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) المائدة:101، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا”. البخاري:6/54، رقم:4622.
ومن بعض نمادج أسئلة الصحابة -رضي الله عنهم-، لرسل الله -صلى الله عليه وسلم-، وإجابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم عليها-؛ سؤالهم عن الأعمال التي تُدخِلهم الجنة، وتُباعِدهم من النار: فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ، “كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَر،ٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)، قَالَ ثُمَّ تَلاَ:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ:(يَعْمَلُونَ)، السجدة:16-17، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ)، قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)؛ -أي أعلى الشيء-، ثُمَّ قَالَ: (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ)؛ -أي قوامه-، وما يتم به، قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ:(ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ؛ -أي فقدتك أمك بموتك–، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ). الترمذي:4/308، رقم:2616.
وهذا صحابي آخر يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أحبِّ الأعمال إلى الله؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود قَالَ: “سَأَلْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم– أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ”، قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا)، قَالَ ثُمَّ أَيُّ، قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)، قَالَ ثُمَّ أَيُّ، قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ، لَزَادَنِي”؛ يَعْنِي: لَوْ سَأَلْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَه الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، لزادني في الجواب. رواه البخاري:1/112، رقم:527، ومسلم:1/90، رقم:85.
وهذا صحابي آخر يسأل عن خير خصال الإسلام؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟، قَالَ: (مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ)، ومعناه؛ من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل. البخاري:1/11، رقم:11، ومسلم:1/66، رقم:42.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم–، أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟، قَالَ: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ)، البخاري:8/52، رقم:6236.
وصحابي يسأل عن أفضل الأعمال والعبادات؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ، قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، قَالَ ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: (الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ ثُمَّ مَاذَا، قَالَ: (حَجٌّ مَبْرُورٌ)؛ هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم. البخاري:2/133، رقم:1519، مسلم:1/88، رقم:83.
وصحابي آخر يسأل عن خير الناس وأفضلهم؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟، فَقَالَ: (رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ)، قَالَ ثُمَّ مَنْ، قَالَ: (مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)؛ والشعب: ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصا، بل المراد الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا؛ لأنه خال عن الناس غالبا. رواه الإمام مسلم في صحيحه:3/1503، رقم:1888.
وصحابي يسأل عن أكبر الذنوب وأعظمها عند الله؟؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، سَأَلْتُ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم–، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟؛ أي أكثر إثما وعقابا، قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ)؛ أي شريكا، قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ، قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ، قَالَ: (وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)؛ أي أن يأكل معك، وهو عنوان شدة البخل المتنافي مع الإيمان، إلى جانب الإخلال باعتقاد أن الله تعالى هو الرزاق، مع فظاعة قتل النفس بغير حق، وكلها آثام تستحق العقاب الشديد، قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ، قَالَ: (أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)؛ أي تزني فيها برضاها، البخاري:6/18، رقم:4477.
وهذا صحابي يسأل عن شيءٍ ينتفعُ به، قَالَ أَبُو بَرْزَةَ، قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ: (اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ)، مسلم:4/2021، رقم:2618، فدلَّ الحديث على فضل إزالة الأذى عن الطريق، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِى النَّاسَ)؛ أي يتنعم في الجنة بملاذها بسبب قطعه الشجرة. مسلم:4/2021، رقم:129.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين